(الصفحة 86)
والإعراض الظاهر في الجلاء عن الدار بتمام شؤونها ، فالسقوط عن الأماريّة في صورة الجلاء لا يستلزم السقوط بالانتقال بمثل البيع .
وأمّا الصحيحة فلا مجال للاستناد إليها بعد عدم الظهور لها فيما ذكر . هذا ، ولكن هناك روايتان حكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره)(1) التمسّك بهما :
إحداهما : ما رواه الكليني بسنده عن عبدالله بن جعفر الحميري ، قال : كتبت إلى الرجل(عليه السلام) أسأله عن رجل اشترى جزوراً أو بقرة للأضاحي ، فلمّا ذبحها وجد في جوفها صرّة فيها دراهم أو دنانير أو جوهرة ، لمن يكون ذلك؟ فوقّع(عليه السلام) : عرّفها البائع ، فإن لم يكن يعرفها فالشيء لك رزقك الله إيّاه(2) .
ثانيتهما : موثّقة إسحاق بن عمّار قال : سألت أبا إبراهيم(عليه السلام) عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة ، فلم تزل معه ولم يذكرها حتّى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال : يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها ، قلت : فإن لم يعرفوها؟ قال : يتصدّق بها(3) .
وهناك رواية ثالثة متقدّمة; وهي رواية محمّد بن قيس ، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : قضى عليّ(عليه السلام) في رجل وجد ورقاً في خربة أن يعرّفها ، فإن وجد من يعرفها ، وإلاّ تمتّع بها(4) .
هذا ، وقد استظهر عدم صحّة الاستدلال بشيء من الروايات الثلاثة للمقام .
أمّا الأخيرة ، فلزوم حملها على الأرض الخربة التي لم ينجل عنها بقرينة
- (1) كتاب الخمس (تراث الشيخ الأعظم الأنصاري) : 58 ـ 59 .
- (2) الكافي 5 : 139 ح9 ، الوسائل 25 : 452 ، كتاب اللقطة ب9 ح1 .
- (3) التهذيب 6 : 391 ح1171 ، الوسائل 25 : 448 ، كتاب اللقطة ب5 ح3 .
- (4) تقدّمت في ص77 .
(الصفحة 87)
صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة(1) أيضاً ، فيكون الورق حينئذ من مجهول المالك ، والحكم بلزوم التعريف حينئذ مطابق للقاعدة ، سواء كان الورق تحت الأرض أم فوقها وإن كان الظاهر هو الأوّل; لعدم إمكان التعريف في غير هذه الصورة ، فيكون التعريف بسببها .
وأمّا الروايتان الاُخريان ، فكلتاهما أجنبيّتان عن محلّ الكلام أيضاً ، أمّا الرواية الاُولى فواضحة ، ضرورة أنّ ما يوجد في جوف الدابّة من الصرّة المشتملة على الدرهم والدينار شيء حادث في بطنه قد ابتلعه قريباً قبل يوم أو يومين ، فهو طبعاً فرد من أفراد مجهول المالك لابدّ فيه من التعريف ، وبما أنّ البائع أقرب المحتملات فيراجع ، وبالتعبّد الشرعي يسقط التعريف عن غير البائع ، كما أنّه بإذن الإمام(عليه السلام)الذي هو الوليّ العام يملكه الواجد ، وبذلك يخصّص ما دلّ على وجوب التصدّق لمجهول المالك ، فإنّه حكم وارد في موضوع خاصّ نظير ما ورد فيما يلقيه البحر إلى الخارج من استملاكه وإن كان من مصاديق مجهول المالك .
وأمّا الرواية الثانية ، فلظهورها في أنّ لتلك الدراهم مالكاً محترماً بالفعل مجهولاً نظراً إلى اقتضاء طبيعة الحال كون ذلك البيت من المنازل المعدّة للإيجار ولنزول الحجّاج والزوّار ، فلأجله يظنّ أنّ تلك الدراهم تتعلّق بحاجّ نزل قبل ذلك ، وبما أنّ صاحب المسكن أدرى به ، فطبعاً يرجع إليه مقدّمةً للاستعلام من ذلك المالك المجهول ، فإن عرفه ، وإلاّ فيتصدّق به عنه ، وذلك شأن كلّ مال مجهول مالكه ، وأين هذا من الكنز؟ سيّما وأنّ الدراهم إنّما حدثت في زمن المعصومين (عليهم السلام) ولم تكن موجودة في العهود البائدة ليصدق على دفينتها اسم الكنز .
(الصفحة 88)
فتحصّل أنّه لم يدلّ أيّ دليل على لزوم الرجوع إلى البائع الأخير فضلاً عن البائع قبله في الكنز . نعم ، هو أحوط رعاية للمشهور(1) ، بل ادّعى بعضهم الإجماع(2) عليه وعلى لزوم الرجوع إلى المالك قبله إن لم يعرفه .
أقول : وقد انقدح من جميع ما ذكر أنّه لم ينهض دليل على لزوم الرجوع إلى البائع ثمّ إلى البائعين قبله ثمّ صيرورته مالكاً له بما أنّه كنز ، ويتعلّق به الخمس من هذه الجهة ، لا القاعدة ولا شيء من الروايات المتقدّمة . نعم ، يمكن أن يكون الدليل لخصوص لزوم الرجوع إلى البائع الأوّل هو الإجماع المدّعى ، وإن كان قد عرفت(3)أنّ المحكيّ عن جماعة لزوم الدفع إليه من غير سؤال ومن غير لزوم عرفانه ، إلاّ أنّ الملكية وثبوت الخمس به لا يمكن إقامة الدليل عليه بوجه لا من النصّ ولا من الفتاوى ، ومورد رواية الحميري على ما عرفت هي الدابّة المشتراة للاُضحية من الجزور والبقرة ، فلا يشمل مثل الأرض المشتراة التي يمكن أن يكون للمال المدفون تحتها عشر سنين أو عشرات أو أزيد ، فتدبّر .
وأمّا موثّقة إسحاق المتقدّمة فقد مرّ أنّ مفادها لزوم التصدّق بالدراهم المدفونة في بعض بيوت مكّة التي وجدها الحاجّ النازل بها الواجد لها ، فلا ارتباط لها بالمقام ، وأمّا الروايتان الاُخريان فبعد حمل المطلق منهما على المقيّد يكون المورد صورة عدم الانجلاء ، وأمّا صورة الانجلاء التي حكم فيها بالتمتّع بها فهي أجنبيّة عن المقام ، كما لا يخفى .
الفرع الثاني : ما أفاده بقوله (قدس سره) : «ويلحق بالكنز على الأحوط ما يوجد في
- (1) كفاية الأحكام: 43 .
- (2) منتهى المطلب 1: 546 ، جواهر الكلام 16: 31 .
- (3) في ص85.
(الصفحة 89)
جوف الدابّة المشتراة مثلاً ، فيجب فيه بعد عدم معرفة البائع ، ولا يعتبر فيه بلوغ النصاب» .
أقول : الدليل الوحيد في هذا الباب هي صحيحة الحميري المتقدّمة ، وهي كالصريحة في لزوم تعريف البائع ، والظاهرة في خصوص البائع الأوّل دون البائع أو البائعين قبله مع عدم معرفته إيّاها ، كما أنّها ظاهرة في ملكيّة الواجد لتمامها من دون تعلّق الخمس بها فوراً ، كما هو المعروف بين الأصحاب(1) على ما حكي عن المحقّق صاحب الشرائع(2) ، وعلى تقديره فدلالتها على كون تعلّق الخمس بها من جهة الكنز ممنوعة جدّاً ; لعدم صدق الكنز عليها عرفاً بوجه وإن كان لا يتوقّف على الدفن في خصوص الأرض ، بل كما عرفت يشمل الستر في مثل الجدار والجبال وبطن الأشجار(3) ، إلاّ أنّه لا يصدق على الصرّة التي ابتلعها الحيوان قطعاً ، ثمّ على تقدير كون المورد من مصاديق الكنز ، فما الدليل على عدم اعتبار النصاب في خصوص هذا الكنز ، بعد كون الدليل الدالّ على اعتبار النصاب في الكنز الذي هو متعلّق الخمس مطلقاً شاملاً لجميع موارده؟
وبالجملة : فالجمع بين كون المورد كنزاً كما احتاط في المتن واختاره السيّد في العروة(4) ، وبين عدم اعتبار النُصُب ممّا لا يكاد يتمّ بوجه .
اللّهم إلاّ أن يقال بأنّ تعلّق الخمس به إنّما هو من باب الغنيمة بمعنى مطلق الفائدة والاستفادة ، ولا اختصاص له بخصوص أرباح المكاسب والتجارات التي يعتبر
- (1) السرائر 2 : 106 ، مدارك الأحكام 5 : 372 ، جواهر الكلام 16 : 35 .
- (2) شرائع الإسلام 1 : 180 .
- (3) في ص73 .
- (4) العروة الوثقى 2 : 376 مسألة 18 .
(الصفحة 90)
فيها الزيادة عن مؤونة السنة ، كما أنّه ربما يقال بانصراف دليل مجهول المالك عن مثل الصرّة المزبورة ، نظراً إلى أنّها بعدما أكلتها الدابّة تعدّ عرفاً بمثابة التالف ، سيّما مع قضاء العادة بعدم استقرار الدابّة في بلدة واحدة ، بل تنتقل منها إلى اُخرى للكلإ ونحوها ، ولكنّ الانصراف ممنوع; لأنّ بقاء الصرّة في بطن الدابّة في أيّام قليلة خصوصاً في الدابّة المشتراة للأضاحي لا يوجب خروجها عن عنوان مجهول المالك بوجه ، فاللاّزم الالتزام بالتخصيص في أدلّته لا التخصّص ، كما لا يخفى .
الفرع الثالث : ما ذكره بقوله (قدس سره) : «بل يلحق به أيضاً على الأحوط ما يوجد في جوف السمكة ، بل لا تعريف فيه للبائع إلاّ على فرض نادر» وذكره صاحب العروة(1) بنحو الفتوى ، ومنشأ وجوب الخمس بعنوان الكنز هو الشهرة بين الأصحاب(2) ، كما أنّ عدم التعريف فيه للبائع هو المشهور(3) . ونسب إلى العلاّمة(4)الخلاف في عدم وجوب التعريف للبائع .
وذكر بعض الأعلام (قدس سره) في وجه عدم وجوب التعريف هنا للبائع دون الصرّة في الفرع الثاني ـ بعد الاعتراف بعدم نهوض دليل هنا على أصل وجوب الخمس فضلاً عن كونه بعنوان الكنز ـ ما محصّله بعد كثرة عباراته : أنّ الكلام تارةً يقع فيما إذا وجد في جوف السمكة ما يتكوّن في البحر مثل اللؤلؤ والمرجان الواردين في روايات الغوص ، واُخرى ما إذا كان ملكاً لأحد قد سقط في البحر من أحد الراكبين
- (1) العروة الوثقى 2: 376 مسألة 18.
- (2) النهاية : 321 ـ 322 ، شرائع الإسلام 1 : 180 ، إرشاد الأذهان 1: 292 ، مدارك الأحكام 5 : 374 ، جواهر الكلام 16 : 39 .
- (3) النهاية : 322 ، شرائع الإسلام 1 : 180 ، قواعد الأحكام 1 : 361 ، الروضة البهية 2 : 70 .
- (4) تذكرة الفقهاء 2 : 265 (الطبعة الحجرية) وحكاه عنه في مصباح الفقيه 14 : 79 .