(الصفحة 300)
إطلاق صحيحة حفص بن البختري ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا بأيديهم ، وكلّ أرض خربة ، وبطون الأودية ، فهو لرسول الله(صلى الله عليه وآله) ، وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء(1) .
وعموم صحيحة معاوية بن وهب قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : السريّة يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف يقسّم؟ قال : إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول وقسّم بينهم أربعة(2) أخماس ، وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كلّ ما غنموا للإمام يجعله حيث أحبّ(3) . فإنّ مقتضى عموم الموصول الشمول لغير الأرض ، خصوصاً مع أنّ الخمس لا يختصّ بها ، وقد وقع مقابلاً للأنفال في الرواية الثانية ، فدلالتها على العموم بالدلالة اللفظية ، كما أنّ دلالة الاُولى بالإطلاق كما لا يخفى .
ولكن ربما يقال بأنّ في مقابل العموم الشامل للإطلاق الروايات المتقدّمة في صدر بحث الأنفال الظاهرة في الاختصاص بالأرض; لورودها في مقام التحديد والبيان ، وظاهرها أنّ للأرض خصوصيّة في هذه الجهة ، والمفهوم وإن لم نقل بثبوته حتّى بالإضافة إلى مفهوم الشرط الذي هو في رأس المفاهيم كما قرّر في محلّه من علم الاُصول ، إلاّ أنّه في غير ما ورد من القضايا المفهومية في مقام التحديد والتفسير كالأخبار الواردة في تحديد الكرّ(4) ، وفيه تقتضي القضيّة الدلالة على
- (1) الكافي 1 : 539 ح3 ، الوسائل 9 : 523 ، أبواب الأنفال ب1 ح1 .
- (2) كذا في المصدر ، ولكن في الوسائل: ثلاثة .
- (3) الكافي 5 : 43 باب قسمة الغنيمة ح1 ، الوسائل 9 : 524 ، أبواب الأنفال ب1 ح3 .
- (4) وسائل الشيعة 1: 164 ـ 167 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ب10 و11 .
(الصفحة 301)
المفهوم بالطبيعة ، فاللازم تقييد الإطلاقات وتخصيص العمومات بمثل هذه الروايات والحكم بالاختصاص بالأرض ، كما عليه المشهور .
وأجاب عن هذا الإشكال بعض الأعلام (قدس سره) بما ملخّصه: أنّه لابدّ من رفع اليد عن هذا الظهور .
أمّا أوّلاً: فلأنّ تلك الروايات لا تكون في مقام بيان الأنفال بتمام أقسامها ، كيف؟ وهي غير منحصرة في الأراضي بالضرورة ، فإنّ منها قطائع الملوك وميراث من لا وارث له ونحوهما ، ولم يتعرّض فيها إليها ، فيعلم أنّها بصدد بيان مصداق الأنفال في الجملة لا تحديد مفهومه ليدلّ على الانحصار بطبع الحال .
وأمّا ثانياً: فلأنّ الظهور المزبور وإن كان قابلاً لأن يقيّد به الإطلاق في صحيحة حفص ، إلاّ أنّه غير قابل لأن يخصّص به العموم في صحيحة معاوية بن وهب; لأنّ دلالته بالعموم اللفظي وهو أقوى من الظهور المستند إلى المفهوم; لأنّه كالصريح في عدم الفرق بين الأرض وغيرها ، على أنّ في صدر هذه الرواية دلالة على الشمول لغير الأراضي ، وهو قوله(عليه السلام): «فيصيبون غنائم كيف تقسّم؟» فإنّ هذا التعبير ظاهر في المنقول ، وعليه فلا مناص من الأخذ بعموم هذه الصحيحة ورفع اليد عن ظهور تلك الروايات في الحصر بصراحة هذه المستندة إلى الدلالة الوضعية(1) .
قلت : ويمكن الإيراد على الجوابين :
أمّا الإيراد على الجواب الأوّل: فلأنّ خلوّ تلك الروايات عن بيان بعض أقسام الأنفال لا دلالة فيه على عدم كونها في مقام البيان والتحديد ، كالأخبار الواردة في الكرّ ، فإنّ ما دلّ منها على التحديد بالوزن لا ينافي ما دلّ على التحديد بالمساحة ،
- (1) مستند العروة الوثقى ، كتاب الخمس : 355 ـ 356 .
(الصفحة 302)
وقد وقع البحث في ذلك المقام في الجمع بين التحديدين ، مع أنّه بحسب بادئ النظر غير قابل للجمع ، وليس التصدّي للجمع لأجل عدم العلم بما صدر من التحديدين أوّلاً ، فإنّه لا فرق في ذلك بين صورة العلم وعدمه كما لا يخفى .
وقد مرّ أنّ صاحب الجواهر (قدس سره) مع عظمة شأنه وعلوّ مقامه قد تصدّى للجمع بين التحديدين بما لا يساعده عقائد الشيعة ، فراجع كتاب المياه(1) .
وعليه فلا مجال لرفع اليد عن ظهورها في الأرض .
وأمّا الإيراد على الجواب الثاني: فلأنّ دلالة لفظ العموم على الاستيعاب بالدلالة اللفظية الوضعيّة لا تمنع عن الافتقار إلى الإطلاق في مدخوله; لأنّ دلالة لفظ «كلّ عالم» مثلاً على جميع أفراد هذه الطبيعة إنّما هو على فرض كون المدخول للفظة «كلّ» هي الطبيعة ، وإلاّ فلو فرض كون المدخول هو العالم العادل فلفظ العموم لا يدلّ على استيعاب أفراد مطلق طبيعة العالم ولو لم يكن عادلاً .
وحينئذ نقول : إنّ المفهوم على تقدير القول بثبوته إنّما يتصرّف في تقييد ذلك الإطلاق لا في أفراد المدخول ، فقوله : «إن جاءك زيد العالم فأكرمه» يدلّ بالمفهوم على تقديره على عدم وجوب إكرام زيد في صورة عدم المجيء ، وهو يوجب التصرّف في إطلاق «أكرم كلّ عالم» الشامل للجائي وغيره ، لا في العموم الثابت بالدلالة اللفظية التابع للمدخول سعةً وضيقاً ، نظير قوله : «لا يجب إكرام زيد العالم» عقيب قوله : «أكرم كلّ عالم» فإنّه لابدّ من الالتزام بالتخصيص لإخراج الفرد من العموم الثابت بالدلالة الوضعية ، ولا مجال فيه للتقييد بوجه كما لا يخفى .
ففرق بين قوله: «إن جاءك زيد يجب إكرامه» على فرض ثبوت المفهوم ، وهو
- (1) جواهر الكلام 1 : 181 .
(الصفحة 303)
«إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه» ، وبين قوله : «لا يجب إكرام زيد العالم» فإنّه لا مجال فيه لغير التقييد ، والمقام من هذا القبيل .
فلا فرق أن يكون الظهور الناشئ عن الكون في مقام التحديد الموجب لثبوت المفهوم كما هو مبنى الجواب الثاني بين أن يكون في مقابل صحيحة حفص أو صحيحة معاوية ، فتدبّر .
اللّهم إلاّ أن يقال بعدم الافتقار إلى إثبات الإطلاق في المدخول من طريق مقدّمات الحكمة ، والتحقيق في محلّه من بحث العامّ والخاصّ من الاُصول .
بقي الكلام في هذا البحث في أنّ المراد بالأراضي هنا هل هو مطلق الأراضي التي استولى عليها المسلمون من دون خيل ولا ركاب ، سواء كان من الموات أو المحياة أم لا؟ ظاهر إطلاق الكلمات الأوّل ، مضافاً إلى أنّه لو كانت مختصّة بالموات لم يكن وجه للتقييد بعدم القتال والحرب; لأنّ الأراضي الميتة التي يستولي عليها المسلمون تعدّ من الأنفال ولو كان مع القتال والمحاربة ; لأنّ الشرط في الأراضي المفتوحة عنوةً أو الخراجية التي هي عبارة اُخرى عنها التي هي ملك للمسلمين جميعاً أن تكون عامرة حال الفتح والغلبة ، وإلاّ فلا تكون كذلك ، بل هي معدودة من الأنفال .
وقد ذكرنا في أوائل كتاب الخمس وجود الاختلاف بينهم في الأراضي المفتوحة عنوة من جهة شمول آية الخمس لها وعدمه ، واستظهرنا هناك(1) عدم الشمول وإن اشتهر بين الشيخ(2) وجماعة(3) .
- (1) في ص19 .
- (2) النهاية : 198 ، المبسوط 2 : 28 .
- (3) شرائع الإسلام 1 : 179 ، تذكرة الفقهاء 5 : 409 ، إرشاد الأذهان 1 : 292 .
(الصفحة 304)
وملخّص الوجه فيما اخترناه أنّ الأراضي المفتوحة عنوةً خارجة عن دليل الخمس إمّا تخصّصاً أو تخصيصاً; لأنّه إن كان المراد بـ «ما غنمتم» هي الغنيمة التي كان يغنمها المجاهدون لولا دليل وجوب الخمس يكون دليل ثبوت ملكية الأراضي المفتوحة عنوةً موجباً لخروج تلك الأراضي عن دليل الخمس تخصّصاً; لأنّها لا تكون ملكاً للغانمين فقط بل للمسلمين .
وإن كان المراد بها مطلق ما يغنمه المحاربون أعمّ من الأرض وغيرها تكون أدلّة الثبوت لجميع المسلمين تخصيصاً في آية الخمس ، ولا بأس بتخصيص الكتاب بالخبر الواحد كما قد قرّر في محلّه ، فيتحصّل من جميع ما ذكر عدم اعتبار الموتان في الأراضي هنا .
نعم ، ربما يقال : إنّ تقييد الأرض بالخربة في صحيحة حفص المتقدّمة يظهر منه الاختصاص ، لكن لابدّ من رفع اليد عن هذا الظهور تحكيماً لعموم : «كلّ ما غنموا» الوارد في صحيحة ابن وهب المتقدّمة المؤيّد بما ورد في جملة من الأخبار ، كصحيحة الكابلي الدالّة على أنّ الأرض كلّها للإمام(عليه السلام) ، وأنّ الله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين ، قال(عليه السلام) : ونحن المتّقون(1) .
والجواب عن هذا القول أنّ تقييد الأرض بالخربة في صحيحة حفص إنّما هو في مقابل ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، ومقتضى المغايرة في مقام العطف أنّه كما أنّ الأرض الخربة من الأنفال ، سواء كان ممّا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو غيره ، كذلك قوله : ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أعمّ من أن تكون الأراضي خربة أو محياة ، كما لا يخفى .
- (1) الكافي 5 : 279 ح5 ، الوسائل 25 : 414 ، كتاب إحياء الموات ب3 ح2 .