(الصفحة 305)
ولا ينافيه كون الأوّلين أعني قوله(عليه السلام) : «أو قوم صالحوا ، أو قوم أعطوا ما بأيديهم» من مصاديق ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، كما هو صريح المتن ; لأنّ الظاهر أنّ قوله(عليه السلام): «وكلّ أرض خربة» نوع آخر من الأنفال في مقابل «ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب» كقوله(عليه السلام) : «وبطون الأودية» ومقتضى العطف المغايرة كما ذكرنا .
ويؤيّده وقوع العطف في الجملتين الأخيرتين بالواو لا «بأو» كما في الأوّلتين فتدبّر .
ثمّ إنّه بقي في أصل المطلب أنّه قد عمّم في المتن الأرض التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب لما إذا جلى عنها أهلها أو سلّموها للمسلمين طوعاً ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى عموميّة هذا العنوان أعني ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ـ بعض الروايات المتقدّمة بالصراحة ، كروايتي زرارة ومحمّد بن مسلم وبعض الروايات الاُخر(1) ، فلا إشكال من هذه الجهة .
ويمكن أن يقال : بأنّ التعميم للمصداقين ربما يظهر منه عدم وجود مصداق ثالث لهذا الأمر ، مع أنّه يمكن أن يقال بوجوده كأراضي المدينة المنوّرة حين ورود النبيّ(صلى الله عليه وآله) إيّاها ، حيث إنّها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، مع أنّه من الواضح عدم تحقّق انجلاء أهلها عنها ولا وقوع المصالحة والتسليم طوعاً بالإضافة إليها ، خصوصاً مع وجود طوائف متعدّدة من اليهود فيها .
اللّهم إلاّ أن يقال بأنّ آية الأنفال قد نزلت في الأزمنة المتأخّرة بعد ذلك ، خصوصاً بعد تشكيل النبيّ(صلى الله عليه وآله) الحكومة الإسلامية فيها ، التي هي الأساس
- (1) الوسائل 9 : 526 ، أبواب الأنفال ب1 .
(الصفحة 306) ومنها : الأرض الموات التي لا ينتفع بها إلاّ بتعميرها وإصلاحها; لاستيجامها ، أو لانقطاع الماء عنها ، أو لاستيلائه عليها ، أو لغير ذلك ، سواء لم يجرِ عليها ملك لأحد كالمفاوز ، أو جرى ولكن قد باد ولم يُعرف الآن . ويلحق بها القرى التي قد جلى أهلها فخربت ، كبابل والكوفة ونحوهما ، فهي من الأنفال بأرضها وآثارها كالأحجار ونحوها ، والموات الواقعة في الأرض المفتوحة عنوةً كغيرها على الأقوى . نعم ، ما علم أنّها كانت معمورة حال الفتح
للحكومات الإسلامية بعد ذلك ، كالحكومة الإسلامية الثابتة في مملكة إيران في هذه الأزمنة المتأخّرة ، وعليه فحكم الأنفال لا يكون شاملاً لزمن ورود النبيّ(صلى الله عليه وآله)المدينة . ويؤيّد ذلك مناسبة الحكم والموضوع ، فإنّ مسألة الأنفال واختصاص بعض الاُمور سيّما الأراضي بالنبيّ(صلى الله عليه وآله) إنّما هي فرع الحكومة والرئاسة ، وليست كمسألة الخمس الذي يشترك فيه الأصناف الستّة ، فتدبّر .
ويؤيّد ذلك ما سبق من تعريف المتن للأنفال بأنّها ما يستحقّه النبيّ(صلى الله عليه وآله)لرئاسته الإلهية والإمام(عليه السلام) لمنصب إمامته ، فإنّه يظهر منه أنّ ملكية الأنفال واختصاصها بهما إنّما هي من جهة الحكومة والرئاسة .
ولا يناقش ذلك بالأئمّة (عليهم السلام) غير المتصدّين للحكومة نوعاً أو غير المتمكّين منها كذلك ; لأنّ الحكومة الإسلامية كانت ثابتة في أزمنتهم ولو كان المتصدّي لها هو الغاصب إيّاها ، كما لا يخفى . وهذا مثل مسألة الخمس بناءً على الاختصاص بغنائم دار الحرب كما عليه غيرنا ، فإنّ الاختصاص بذلك لا يوجب أن يكون المراد بذي القربى في آيته هو غير الإمام(عليه السلام) ومن بحكمه ، بل المراد به هو الإمام ولو كان المتصدّي للحكومة غيره ، ولذا أمر عمر بن عبد العزيز بردّ فدك إلى أولاد فاطمة (عليها السلام) حينئذ .
(الصفحة 307)
فعرض لها الموتان بعد ذلك ، ففي كونها من الأنفال ، أو باقية على ملك المسلمين كالمعمورة فعلاً تردّد وإشكال ، لا يخلو ثانيهما من رجحان1 .
1 ـ من جملة الأنفال الأرض الموات الموصوفة بما ذكر في المتن ، سواء لم يكن لها ربّ أصلاً ولم يجر عليها ملك لأحد كالمفاوز ، أو جرى ولكن قد باد بحيث لم يعرف منهم الأثر ، ويدلّ عليه جملة من الأخبار المتقدّمة; كصحيحتي محمّد بن مسلم(1)وحفص بن البختري(2) وموثّقة سماعة(3) المشتملة كلّ واحدة منها على أنّ منها ما كان من أرض خربة .
ومقتضى إطلاقها وإن كان الشمول لما إذا كان لها مالك معلوم بالفعل ، إلاّ أنّه لا محيص عن رفع اليد عن الإطلاق ; لأنّه ـ مضافاً إلى إمكان أن يقال بالانصراف عمّا إذا كان لها مالك شخصاً أو نوعاً ـ على تقدير تسليم دعوى عدم الانصراف لابدّ من تقييده بما إذا انجلى أهلها وأعرضوا عنها; لدلالة موثّقة إسحاق بن عمّار على ذلك ، قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الأنفال؟ فقال : هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها(4) ; لدلالتها على أنّ مجرّد الخراب لا يوجب الخروج عن ملك المالك; لأنّ القضيّة الوصفيّة في مقام التحديد ولها مفهوم كما مرّ ، ولذا ألحق مثل هذه الأراضي بالأنفال كبابل والكوفة ونحوهما ، فهي من الأنفال بأرضها وآثارها كالأحجار ونحوها .
ثمّ إنّه وقع الكلام في أنّ الأرض الموات الكذائية لو كانت من الأراضي المفتوحة
- (1) تقدّمت في ص292.
- (2) تقدّمت في ص300 .
- (3) تقدّمت في ص292 .
- (4) تفسير القمّي 1 : 254 ، الوسائل 9 : 531 ، أبواب الأنفال ب1 ح20 .
(الصفحة 308)
عنوة التي كانت ملكاً للمسلمين ، هل كانت ملحقة بما إذا كانت ملكاً للشخص ، أو للعموم كعنوان الفقراء الموقوف عليهم ، أو ملحقة بما يجري عليه حكم الأنفال؟
قد قوّى في المتن الثاني ، كما حكي استظهاره عن المحقّق(1) وصاحب الجواهر (قدس سرهما)(2) ، ولكن ربما استشكل عليهما بأنّه لا يبعد خروجها عن ملك المسلمين بالخراب ، فيعتبر في ملكيّتهم إيّاها كونها عامرة حدوثاً وبقاءً; لأنّه ليس هنا إطلاق يقتضي كونها ملكاً للمسلمين حتّى بعد الخراب ، فلا يبقى إلاّ استصحاب عدم الخروج بالخراب عن ملكهم ، ولكنّه لا يقاوم العموم في بعض الروايات المتقدّمة(3) .
إلاّ أن يقال : إنّ المقام نظير ما إذا زال التغيّر بنفسه عن الماء الذي تغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة وصار محكوماً بالنجاسة لأجل ذلك ، فإنّه بعد زوال التغيّر من قبل نفسه وإن كان لا يصدق عليه فعلاً الماء المتغيّر; لأنّ المفروض زوال تغيّره ، إلاّ أنّ ذلك يمنع عن التمسّك بالدليل ، ولا يمنع عن جريان استصحاب النجاسة التي كان معروضها الماء; لأنّه بعد انطباق الدليل على الخارج وصيرورة الماء متنجّساً نشكّ في زوالها بعد زوال التغيّر كذلك; للشكّ في أنّ حيثيّة التغيّر تعليليّة أو تقييديّة .
ومقتضى الاستصحاب الجاري في الماء بقاء النجاسة ، وقد قدّمنا التحقيق في هذا المجال في كتاب الطهارة(4) فراجع .
- (1) شرائع الإسلام 1 : 183 .
- (2) جواهر الكلام 16 : 117 ـ 118 .
- (3) مستند العروة الوثقى ، كتاب الخمس : 358 ـ 359 .
- (4) تفصيل الشريعة (كتاب الطهارة ، أحكام المياه): 132 ـ 134 .
(الصفحة 309)
وفي المتن ذكر في الذيل قوله : «نعم ، ما علم أنّها كانت . . .» .
ويرد عليه: أنّه يشترط في اتّصاف الأرض بكونها مفتوحة عنوةً إحراز كونها عامرة حال الفتح ، إلاّ أن يريد الإشكال في اعتبار ذلك بقاءً كالاعتبار حدوثاً ، بل ظاهر العبارة إمكان كون الأراضي المفتوحة عنوةً التي هي ملك للمسلمين غير معمورة حال الفتح ; لأنّ الفرض الذي استدركه عين ما هو محلّ البحث في المقام الذي قد قوّى فيه كونه من الأنفال ، مع أنّ الظاهر أنّ اعتباره حدوثاً لا إشكال فيه ، إنّما الإشكال في الاعتبار بقاءً ; لأنّه ليس بحسب الواقع إلاّ فروض ثلاثة :
الاُولى : العامرة حال الفتح حدوثاً وبقاءً ، ولا شبهة في عدم ارتباطها بالمقام .
الثانية : عكس ذلك ، ولا شبهة أيضاً في عدم ارتباطها بالمقام; لعدم كونها عامرة حال الفتح .
الثالثة : ما إذا كانت عامرة حال الفتح ثمّ صارت خربة وعرض لها الموتان ، وعليه فيسئل عن أنّ هذه الصورة داخلة فيما قبل «نعم» أو فيما بعده ، اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ مراده ما إذا كان بعض من الأراضي المفتوحة عنوةً مواتاً ، فحينئذ إذا كان مواتاً من الأصل يكون داخلاً في الأنفال ، وإذا كانت عامرة ثمّ عرض لها الموتان يجري الاستصحاب المذكور ، فتدبّر .
وعليه: فالأرجح في النظر جريان استصحاب كونها مفتوحة عنوة وعدم كونها من الأنفال; لجريانه في الشبهات الحكمية أيضاً ، كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة في زمن الغيبة; لوجوبها في زمن الحضور قطعاً لو لم يكن هناك أمارة على الوجوب أو عدمه ، بل لا مجال لاحتمال اعتبار كونها عامرة حدوثاً وبقاءً ; لأنّ المراد بالبقاء ليس هو البقاء إلى أمد مخصوص ، بل البقاء للتالي ، وإحراز ذلك مشكل لو لم يكن ممتنعاً عادةً .