(الصفحة 169)
كما أنّه لو كان طبائع مختلفـة كا لـسواد و الـبياض، فإن قلنا: بتغاير الأغسال أيضاً; بمعنى أنّ الـغسل الـرافع لحدث الـحيض مغاير لما هو الـرافع لحدث الـجنابـة، و مجرّد اتّحاد أفراد الـغسل صورة لا يدلّ على وحدة حقيقته و ماهيته، فلا إشكال في وجوب الـتعدّد حسب تعدّد الأسباب الـمختلفـة.
و إن قلنا: بعدم تغاير الأغسال; و أنّ الـغسل الـواحد إنّما يرفع جنس الـحدث الـذي اندرجت تحته أنواع متعدّدة، فلا إشكال في الاكتفاء با لـواحد.
و لو قلنا: بأنّ الـحدث الأكبر طبيعـة واحدة قابلـة للشدّة و الـضعف كمراتب الـسواد مثلاً، فتارة: يكون كلّ سبب مؤثّراً في حصول مرتبـة واحدة من مراتبه، بمعنى: أنّ حدوث الـسبب الأوّل يؤثّر في حصول أدنى الـمراتب، و الـسبب الـثاني يؤثّر في حصول مرتبـة زائدة عليه، و هكذا إلى أن تتحقّق الـمرتبـة الـكاملـة الـتي ليس فوقها مرتبـة.
واُخرى: يكون بعض الأسباب مؤثّراً ـ مع وحدته ـ في حصول الـمرتبـة الشديدة.
و على كلا الـتقديرين إن قلنا: بأنّ الـغسل إنّما يرفع جميع الـمراتب، و أنّه لا تغاير في الأغسال بوجه، فا لـلازم الاكتفاء با لـواحد أيضاً. و إن قلنا با لـتغاير، ففي الـتقدير الأوّل يجب الـغسل متعدّداً حسب تعدّد الأسباب، و في الـتقدير الـثاني يكفي الـغسل لذلك الـسبب الـخاصّ عن الـباقي، و لا يكفي الـغسل للباقي عنه.
هذا كلّه على تقدير إحراز شيء من الـفروض الـمحتملـة، و على تقدير عدم الإحراز يكون مقتضى الـقاعدة الـتعدّد; لعدم الـتداخل، كما مرّ في مبحث الـوضوء.
و أمّا بلحاظ الـروايات الـواردة في الـمسأ لـة، فلابدّ من نقلها، و الـتدبّر في مفادها فنقول:
(الصفحة 170)
منها: صحيحة زرارة ـ التي هي العمدة في الـباب; لصحّـة سندها، و قوّة دلالتها ـ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
«إذا اغتسلت بعد طلوع الـفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابـة، و الـجمعـة، و عرفـة، و الـنحر، وا لـحلق، و الـذبح، و الـزيارة.
فإذا اجتمعت عليك حقوق (ا للّه) أجزأها عنك غسل واحد».
قال ثمّ قال:
«و كذلك الـمرأة، يجزيها غسل واحد لجنابتها، و إحرامها، و جمعتها، و غسلها من حيضها، و عيدها».(1)
هذا ما رواه ابن إدريس من «كتاب حريز» و رواه الـشيخ كذلك عن أحدهما (عليهما السلام)، و رواه الـكليني، عن زرارة من دون ذكر الإمام (عليه السلام).
كما أنّ في روايته (ا لـحجامـة) بدل (ا لـجمعـة)، و الـظاهر أنّه اشتباه من الـنسّاخ، نشأ من تشابههما في الـكتابـة; لأنّهم لم يكونوا يكتبون الألف في مثلها، و استصوبه صاحب «ا لـوسائل» (قدس سره).
ثمّ إنّه يحتمل قوياً أن يكون الـمراد با لـغسل في قوله (عليه السلام):
«إذا اغتسلت بعد طلوع الـفجر» هو خصوص غسل الـجنابـة; لأنّ مفاده أنّ الـغسل الـذي يمكن الإتيان به قبل طلوع الـفجر إذا أخّرته إلى بعده أجزأك ...
و الـمتبادر من الـغسل الـكذائي هو غسل الـجنابـة.
و يؤيّده مرسلـة جميل بن درّاج، عن أحدهما (عليهما السلام) أنّه قال:
«إذا اغتسل الـجنب بعد طلوع الـفجر أجزأ ذلك الـغسل من كلّ غسل يلزمه ذلك الـيوم».(2)
و الـتقييد بقوله: «بعد الـفجر»، إنّما هو لتحقّق الأسباب الاُخر; من دخول يوم
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 43، الـحديث 1.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 43، الـحديث 2.
(الصفحة 171)
ا لـجمعـة، و عرفـة، و سائر الأسباب، و حينئذ يصير حاصل مدلول الـجملـة الاُولى، كفايـة الـغسل للجنابـة عنها و عن غيرها من الأسباب.
و الـتفريع بقوله: «فإذا اجتمعت ...» إنّما هو للدلالـة على عدم اختصاص الإجزاء عن الـجميع، بخصوص غسل الـجنابـة، بل يعمّ ذلك كلّ غسل; مستحبّاً كان، أو واجباً، فإذا اغتسل للجمعـة مثلاً يكفي عنها، و عن الـجنابـة، و عن غيرهما من الأسباب.
فحاصل مدلول الـروايـة كفايـة غسل واحد ـ لجنابـة كان، أو لغيرها ـ عن الأغسال الـمتعدّدة، و حينئذ فلا يبقى مجال للنزاع في أنّ كفايـة الـغسل الـواحد عن الأغسال الـمتعدّدة، هل تختصّ بما إذا نوى جميع الأسباب، أو يعمّ ما إذا نوى سبباً واحداً أيضاً؟ و ذلك لأنّ الـروايـة ـ على هذا الـتقدير ـ ظاهرة في أنّ الـغسل لخصوص الـجنابـة، يكفي عن الـجميع، و كذا كلّ غسل لسبب مخصوص، فتدبّر.
ثمّ إنّه لو قلنا: بأنّ ظهور صدر الـروايـة في خصوص غسل الـجنابـة ليس ظهوراً عرفياً، بل غايته حصول الـظنّ بذلك، و لا اعتبار به في فهم الـروايـة إذا لم يكن منشأه الـظهور الـعرفي الـمعتمد عليه عند الـعقلاء، الـذين هم الـمدار في باب مدا لـيل الألفاظ الـواقعـة في الـروايات، فا لـلازم الـحكم بشمولها لجميع الأغسال.
فيبقى حينئذ الـكلام في أنّ الـروايـة، هل تكون مسوقـة لمجرّد بيان أنّ الـغسل الـواحد يكفي عن الأغسال الـمتعدّدة في الـجملـة، فلا دلالـة لها على أنّ كفايته عنها هل هي بنحو الإطلاق، أو تختصّ بخصوص ما إذا نوى الـجميع، أو أنّها تكون مسوقـة لإفادة الإطلاق، فلا تختصّ بخصوص صورة نيّـة الـجميع؟
ولكن الـظاهر أنّه على هذا الـتقدير أيضاً، تكون الـروايـة ظاهرة في الاكتفاء بغسل واحد عن الـجميع و إن لم ينو الـجميع، لدلالـة ظاهر الـصدر عليه; لأنّ مفادة أنّ
(الصفحة 172)
ا لـغسل الـذي يمكن أن توقعه قبل الـفجر، إذا أوقعته بعده و أخّرته إليه، أجزأك ... و من الـواضح أنّ الـغسل قبل الـفجر إنّما يؤتى به لخصوص بعض الأسباب; إذ لا يعقل الإتيان به بنيّـة الـجميع، مع عدم تحقّق بعضها قبل طلوع الـفجر، كما عرفت.
و توهّم: أنّه يمكن أن يكون قوله (عليه السلام):
«للجنابـة و الـجمعـة ...» في الـصدر، و
«لجنابتها و إحرامها ...» في الـذيل، متعلّقاً بقوله:
«غسلك ذلك في الأوّل، و غسل واحد في الـثاني»، لا بقوله:
«أجزأك» و
«يجزيها».
مندفع: بأ نّه و إن كان ممكناً، إلاّ أنّ الـفهم الـعرفي ـ الـذي هو الـكاشف عن الـظهور ـ على خلافه، كما يشهد به سياق الـروايـة.
مضافاً إلى أنّ في الـذيل قرينـة على خلافه، و هي قوله (عليه السلام):
«غسلها من حيضها»، الـذي هو معطوف على قوله (عليه السلام): «لجنابتها»، و لا معنى لتعلّقه با لـغسل كما هو ظاهر.
فا لـروايـة تدلّ على كفايـة الـغسل بنيّـة بعض الأسباب ـ جنابـة كان أو غيرها ـ عن الـجميع، و لا حاجـة إلى نيّتها بأجمعها.
و قد استشكل في إطلاق الـروايـة ـ بناء على الـقول به، كما استفدناه منها ـ بأنّ ظهور قوله (عليه السلام):
«يجزيك»، في كون الـكفايـة رخصـة لا عزيمـة، ينافي الإطلاق; إذ لا يعقل مع الاكتفاء بغسل الـجنابـة ـ مثلاً ـ عن الأغسال الاُخر، الـمستلزم لحصول أغراضها، و إلاّ لم يكن وجه للاكتفاء، و الـترخيص في الإتيان بها بعده، كما هو ظاهر.
و أنت خبير بما فيه:
أمّا أوّلاً: فلأنّا لا نسلّم ظهور كلمـة «الإجزاء» في كون الـكفايـة رخصـة، كما يشهد له ملاحظـة موارد استعمال هذه الـكلمـة، ألا ترى أنّ الاُصوليين يعنونون في
(الصفحة 173)
الاُصول مسأ لـة الإجزاء الـراجعـة إلى أنّ الإتيان با لـمأمور به على وجهه، هل يقتضي الإجزاء أم لا؟
و من الـمعلوم أنّه ليس الـمراد به الـكفايـة بنحو الـرخصـة; إذ لا يعقل تبديل الامتثال بالامتثال الآخر ـ كما حقّق فيه أيضاًـ .
و دعوى كون مثله من الاستعمالات مبنياً على الـمسامحـة و الـتجوّز، ممّا لا يصغى إليه أصلاً.
و أمّا ثانياً: فلأنّه على تقدير تسليم ظهور كلمـة «الإجزاء» في كون الـكفايـة رخصـة، نقول: إنّه لا مانع عقلاً من أن يكون للطهارة مراتب، و يكون الـغسل بعنوان مخصوص مؤثّراً في حصول الـمرتبـة الـتي يؤثّر سائر الأغسال في حصولها أيضاً، و بسببه يسقط الأمر الـوجوبي أو الاستحبابي الـمتعلّق بها، لحصول غرضها، و يكون الإتيان بها بعده مؤثّراً في حصول مرتبـة أقوى من تلك الـمرتبـة، يستحبّ تحصيلها، نظير الـوضوء على الـوضوء، الـذي هو نور على نور.
فكما أنّه لا مانع عقلاً من الأمر الـوجوبي بغسل الـجنابـة مرّة، و الأمر الاستحبابي به ثانياً; لأنّه يستكشف منه أنّ الإتيان به ثانياً يوجب حصول مرتبـة قويـة من الـطهارة، مطلوبـة للمولى استحباباً، كذلك لا إشكال أصلاً في الاكتفاء بغسل واحد عن الأغسال الـمتعدّدة، و كون الإتيان بها ثانياً مطلوباً استحبابياً للمولى، مستفاداً ذلك من الـتعبير بالإجزاء.
هذا مضافاً إلى أنّ الإشكال لا ينحصر با لـقول بكفايـة الـغسل بعنوان مخصوص عن الأغسال الـكثيرة، بل يجري على الـقول بكفايـة الـغسل مع نيّـة الـجميع عنها.
ولكنّ الـحقّ ما عرفت من عدم الـمانع عقلاً، و كيف يمكن دعوى ذلك مع ذهاب