(الصفحة 620)
ا لـمقام الـثا لـث: في أنّه لافرق في مطهّريـة الاستحا لـة بين الـنجس وا لـمتنجّس
خلافاً لبعض الـمتأخّرين، على ما حكاه شيخنا الـعلاّمـة الأنصاري (قدس سره) في مبحث الاستصحاب من «ا لـرسائل» حيث فرّق بينهما; فحكم بطهارة الأوّل; لزوال الـموضوع، دون الـثاني; لأنّ موضوع الـنجاسـة فيه ليس عنوان الـخشب مثلاً، و إنّما هو الـجسم، و لم يزل بالاستحا لـة.
و قد أفاد (قدس سره) في مقام الـجواب: أنّ دقيق الـنظر يقتضي خلافه; إذ لم يعلم أنّ الـنجاسـة في الـمتنجّسات، محمولـة على الـصورة الـجنسيـة و هي الـجسم و إن اشتهر في الـفتاوى و معاقد الإجماعات: أنّ كلّ جسم لاقى نجساً مع رطوبـة أحدهما فهو نجس، إلاّ أنّه لايخفى على الـمتأمّل، أنّ الـتعبير با لـجسم لأداء عموم الـحكم لجميع الأجسام من حيث سببيـة الـملاقاة.
و بتقرير آخر: الـحكم ثابت لأشخاص الـجسم، فلا ينافي ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه أو صنفه الـمتقوّم به عند الـملاقاة، فقولهم: كلّ جسم لاقى نجساً فهو نجس، لبيان حدوث الـنجاسـة في الـجسم بسبب الـملاقاة، من غير تعرّض للمحلّ الـذي يتقوّم به كما إذا قال الـقائل: إنّ كلّ جسم له خاصّيـة و تأثير، مع كون الـخواصّ و الـتأثيرات من عوارض الأنواع.
و إن أبيت إلاّ عن ظهور معقد الإجماع في تقوّم الـنجاسـة با لـجسم، فنقول: لا شكّ أنّ مستند هذا الـعموم هي الأدلّـة الـخاصّـة الـواردة في الأشخاص الـخاصّـة، مثل الـثوب و الـبدن و الـماء و غير ذلك فاستنباط الـقضيـة الـكلّيـة الـمذكورة منها إلاّ
(الصفحة 621)
من حيث عنوان حدوث الـنجاسـة، لا ما يتقوّم به، و إلاّ فا لـلازم إناطـة الـنجاسـة في كلّ مورد با لـعنوان الـمذكور في دليله.
و دعوى: أنّ ثبوت الـحكم لكلّ عنوان خاصّ من حيث كونه جسماً، ليست بأولى من دعوى كون الـتعبير با لـجسم في الـقضيـة الـعامّـة من حيث عموم ما يحدث فيه الـنجاسـة با لـملاقاة، لا من حيث تقوّم الـنجاسـة با لـجسم.
نعم، الـفرق بين الـمتنجّس و الـنجس: أنّ الـموضوع في الـنجس معلوم الانتفاء في ظاهر الـدليل، و في الـمتنجّس محتمل الـبقاء، لكنّ هذا الـمقدار لا يوجب الـفرق، بعدما تبيّن أن الـعرف هو الـمحكّم في موضوع الاستصحاب.
أرأيت أنّه لو حكم على الـحنطـة أو الـعنب با لـحلّيـة أو الـحرمـة، أو الـنجاسـة أو الـطهارة، هل يتأمّل الـعرف في إجراء تلك الأحكام على الـدقيق و الـزبيب، كما لا يتأمّلون في عدم جريان الاستصحاب في استحا لـة الـخشب دخاناً، أو الـماء الـمتنجّس بولاً لمأكول اللحم؟! خصوصاً إذا اطّلعوا على زوال الـنجاسـة بالاستحا لـة.
كما أنّ الـعلماء لم يفرّقوا أيضاً في الاستحا لـة بين الـنجس و الـمتنجّس، كما لايخفى على الـمتتبّع، بل جعل بعضهم الاستحا لـة مطهّرة للمتنجّس بالأولويـة الـجليـة، حتّى تمسّك بها في الـمقام من لا يقول بحجّيـة مطلق الـظنّ.
أقول: الـظاهر أنّ الـنجاسـة و الـطهاره إنّما هما من عوارض الـجسم بما هو جسم، و الـخصوصيات الـمنوّعـة و الـمصنّفـة لامدخليـة لها في ترتّب شيء من الـحكمين، و إلاّ أمكن أن يقال: بأنّه لا دليل فى الـنجاسـة على الـتعميم.
و ما في موثّقـة عمّار من قوله (عليه السلام):
«و يغسل كلّ ما أصابه ذلك الـماء ...»(1)
و إن
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـماء الـمطلق، الـباب 4، الـحديث 1.
(الصفحة 622)
كان يستفاد منه الـتعميم; بلحاظ كلمـة «ما» الـموصولـة، إلاّ أنّ موردها الـماء الـذي وجد فيه فأرة، و لايشمل جميع الـنجاسات.
فا لـحكم با لـعموم من كلتا الـجهتين، بعد عدم دلالـة الـدليل عليه، و وضوح كون الإجماع على تقديره فاقداً لوصف الأصا لـة، لا يكاد يجتمع مع عدم تقوّم الـنجاسـة با لـجسم.
و هذا لابمعنى أنّ طبيعـة الـجسم من حيث هي، معروضـة للحكمين الـمذكورين، بل بمعنى أنّ أفراد هذه الـطبيعـة، بلحاظ كونها فرداً لها و مصداقاً لكلّيها، معروضـة لهما، فا لـثوب الـخارجي الـملاقي للنجس، يكون محكوماً با لـنجاسـة بلحاظ كونه من أفراد الـجسم الـملاقي، لا بلحاظ كونه من أفراد الـثوب، و لا بلحاظ الـخصوصيات الـمصنّفـة و الـمشخّصـة، ككونه لزيد مثلاً، أو في مكان خاصّ كذلك. و عليه فا لـجواب الـمذكور عن الـتفصيل ممّا لايتمّ.
و الـعمدة في مقام الـجواب: أنّ الـنجاسـة و إن كانت متقوّمـة با لـجسميـة، إلاّ أنّه إذا تبدّل عنوان الـشيء، و تغيّرت صورته الـنوعيـة الـعرفيـة، لا يصدق عليه ـ ولو بحسب نظر الـعرف ـ أنّه لاقى الـنجس فإذا صار الـخشب الـملاقي له رماداً أو تراباً، لا يصدق على الـرماد أو الـتراب أنّه لاقى الـنّجس فلا يبقى وجه لنجاسته.
و على تقديرها، لايصدق عليها أنّها بقاء الـنجاسـة الـسابقـة لكونه موضوعاً ـ أي فرداً ـ آخر مغايراً للفرد الـسابق.
نعم، لو كان الـتبدّل و الـتغيّر في الـخصوصيات الـمشخّصـة أو الـمصنّفـة فقط، مع بقاء الـصورة الـنوعيـة الـعرفيـة، و شكّ في بقاء الـنجاسـة، أمكن الـرجوع إلى الـدليل أو الاستصحاب، ولكنّه خارج عمّا هو الـمفروض في باب الاستحا لـة; من
(الصفحة 623)
ا لـتغيّر في الـصورة الـنوعيـة.
فانقدح: أنّه لافرق في مطهّريـة الاستحا لـة بين الـنجس و الـمتنجّس أصلاً.
ا لـمقام الـرابع: في أنواع الاستحا لـة
فنقول:
منها: الاستحا لـة با لـنار فإن صار بالاستحا لـة رماداً أو دخاناً، فقد حكي الإجماع على مطهّريتها عن الـشيخ في «ا لـخلاف» و «ا لـمبسوط» و عن الـحلّي، و عن الـمحقّق في «ا لـشرائع» و الـعلاّمـة في جملـة من كتبه و «جامع الـمقاصد» و غيرهم.
و يدلّ عليها قبل الإجماع: قاعدة الـطهارة بعد تغيّر الـصورة الـنوعيـة، الـموجب لعدم شمول الـدليل، و عدم جريان الاستصحاب كما عرفت.
و ربّما يستدلّ على الـطهارة في الـدخان، بصحيحـة حسن بن محبوب قال: سأ لـت أباا لـحسن (عليه السلام) عن الـجصّ، يوقد عليه با لـعَذِرة و عظام الـموتى، ثمّ يجصّص به الـمسجد، أيسجد عليه؟
فكتب إليّ بخطّه: «إنّ الـماء و الـنار قد طهّراه».(1)
نظراً إلى ما في «ا لـوسائل» من: أنّ الـمراد تطهير الـنار للنجاسـة; بإحا لـتها رماداً أو دخاناً، و تطهير الـماء ـ أعني ما يحيّل به الـجصّ ـ يراد به حصول الـنظافـة، و زوال الـنفرة.
ولكنّه استشكل الـمحقّق (قدس سره) في محكيّ «ا لـمعتبر»: بأنّ الـماء الـذي يمازج الـجصّ هو ما يحتلّ به، و ذلك لا يطهّر إجماعاً، و الـنار لم تصيّره رماداً.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 81، الـحديث 1.
(الصفحة 624)
هذا، و ربّما يقال: إنّ الـمراد با لـنار حرارة الـشمس، و با لـماء رطوبـة الـجصّ الـحاصلـة بصبّ الـماء عليه; لعدم إمكان الـتجصيص با لـجصّ الـيابس، فمرجع الـروايـة إلى أنّ الـجصّ الـمشتمل على الـرطوبـة و الـمتنجّس با لـعذرة و عظام الـموتى، يطهر بإشراق الـشمس عليه.
و فيه: أنّ حمل الـنار في الـروايـة على حرارة الـشمس ـ مع عدم إشعار فيها بوقوع ذلك في محلّ تراه الـشمس، و يصل إليه نورها ـ بعيد جدّاً، خصوصاً مع ملاحظـة أنّ الـنار و الـشمس عنوانان متغايران عند الـعرف، كما أنّ حمل الـماء على الـرطوبـة الـحاصلـة بصبّ الـماء عليه، أيضاً كذلك.
و قد أفاد بعض الأعلام: أنّ الـماء و الـنار في الـصحيحـة باقيان على معناهما الـحقيقيو و أنّ الـجصّ قد طهّر بهما; لأنّ الـنار توجب طهارة الـعذرة و الـعظام الـنجستين بالاستحا لـة، حيث تقلّبهما رماداً، و الاستحا لـة من الـمطهّرات.
و أمّا الـماء، فلأنّ مجرّد صدق الـغسل يكفي في تطهير مطلق الـمتنجّس، إلاّ ما قام الـدليل على اعتبار الـتعدّد فيه، و خروج الـغسا لـة و انفصا لـها غير معتبر، فإذا صبّ الـماء على الـجصّ الـمتنجّس، أو جعل الـجصّ على الـماء، فلا محا لـة يحكم بطهارته و إن لم تخرج غسا لـته.
فصحّ أن يقال:
«إنّ الـماء و الـنار قد طهّراه» كما يصحّ أن يسجد عليه، و لايمنع الـطبخ عنه; لأنّ الـجصّ من الأرض، و لا تخرج الأرض عن كونها أرضاً بطبخها أصلاً.
أقول: لاخفاء في أنّ انقلاب الـعذرة و عظام الـموتى، و استحا لـتهما رماداً بسبب الـنار، إنّما يوجب طهارتهما للاستحا لـة، لا طهارة الـجصّ الـمتنجّس الـذي لم يعرض له الاستحا لـة; ضرورة أنّ الاستحا لـة تطهّر معروضها، لا شيئاً آخر عرض له الـنجاسـة