(الصفحة 590)
و أمّا سائر الـوجوه، فعلى تقدير جريان الـمناقشـة فيها، لا يقدح بعد ظهور الـروايتين في الاعتبار، و تماميتهما من جهـة الـسند و الـدلالـة، كما عرفت.
ا لـمقام الـرابع: في حدود الـمطهّر و خصوصياته الـموجبـة للتضييق أو الـتوسعـة
قد عرفت: أنّه قد وقع الـتعبير عن عنوان هذا الـمطهّر في بعض الـكتب الـفقهيـة با لـتراب و عرفت أنّ الـمراد به هو الأرض; لوقوع الـتعبير بها في الـنصوص و الـفتاوى، دون الـتراب. و لا فرق في ذلك بين ما إذا كانت الأرض ذات رمل أو حجر أو تراب; لإطلاق الأرض و شمولها لجميع الأقسام.
نعم، فيما إذا كانت هذه الاُمور من الابتداء، فلا إشكال في ذلك، و أمّا إذا كانت با لـعرض كما إذا كانت مفروشـة با لـحجر مثلاً، فا لـظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال فيه أيضاً; لأنّ الـمفروشـة با لـحجر مثلاً يصحّ أن يقال إنّها أرض حقيقـة; لأنّ انتقال الـحجر من مكان إلى آخر و كذا نصبه مثلاً، لا يوجب الـخروج عن عنوان الأرض كما أنّه لا مجال لدعوى انصراف الـنصوص عن مثله، بعد عدم كون الـفرض من الـفروض الـنادرة، و غلبـة وجود مثل ذلك في الـطرق و الأزقّـة الـتي يمرّ الـناس عليها.
ثمّ إنّه ربّما يقال: إنّه على تقدير الـشكّ في صدق الأرض على الـمفروشـة بمثل الـحجر، يجري هنا استصحابان ابتداء، و با لـمعارضـة يتساقطان:
أحدهما: استصحاب الـنجاسـة الـحاصلـة للرجل مثلاً، الـمشكوك زوا لـها با لـمشي أو الـمسح على الأرض الـمفروشـة.
ثانيهما: استصحاب مطهّريـة الأرض، بل استصحاب أرضيـة الأرض، لو لم يناقش
(الصفحة 591)
في خصوص الـثاني: بأنّه من قبيل استصحاب الـمفهوم الـمردّد، غايـة الأمر أنّ الاستصحاب الـثاني تعليقي، ولكن في جميع موارد الاستصحاب الـتعليقي، يكون الـتعارض بينه و بين الاستصحاب الـتنجيزي متحقّقاً، و الـمرجع بعد الـتعارض في الـمقام قاعدة الـطهارة، ففي صورة الـشكّ أيضاً تصير الـنتيجـة الـطهارة.
و اُورد عليه: بأنّ الـمقام ليس من موارد الـرجوع إلى قاعدة الـطهارة، بل لابدّ من الـرجوع إلى الإطلاقات الـمقتضيـة لاعتبار الـغسل با لـماء في تطهير الـمتنجّسات; فإنّ الـقدر الـمتيقّن ممّا خرج عن تلك الـمطلقات، إنّما هو صورة الـمسح أو الـمشي على الأرض غير الـمفروشـة، و أمّا الـزائد الـمشكوك فيه، فيبقى تحت الـمطلقات لا محا لـة.
هذا، ولكن الـتحقيق: عدم الـتعارض بين الاستصحابين; لأنّ استصحاب الـمطهّريـة ليس من قبيل الاستصحاب الـتعليقي; لأنّ عنوان الـمطهّريـة ـ بمعنى صلاحيـة الأرض لحصول الـتطهير بها ـ أمر فعلي و حكم تنجيزيّ ثابت للأرض، سواء تحقّق الـمسح، أو الـمشي عليها في الـخارج، نعم حصول الـطهارة للمطهَّر ـ با لـفتح ـ أمر تعليقى يتوقّف على أحد الأمرين، و ليس عنوان الـمطهّر للأرض إلاّ كعنوانه للماء; فإنّ الـماء مطهّر فعلاً ولو لم يكن هناك شيء يحتاج إلى الـتطهير به.
و بعد ذلك نقول: إنّ استصحاب الـنجاسـة لا مجال لجريانه; لكون الـشكّ فيها مسبّباً عن الـشكّ في الـمطهّريـة، و بعد جريان الاستصحاب في الـسبب لايبقى موقع لجريانه في الـمسبّب. هذا في الـمفروشـة بمثل الـحجر.
و قد قوّى في الـمتن لحوق الـمفروشـة بالآجر أو الـجصّ، با لـمفروشـة با لـحجرو نحوه، و الـوجه فيه كون الآجر و الـجصّ و مثلهما، لم يخرج عن عنوان
(الصفحة 592)
الأرض و الأجزاء الأرضيـة، و الـمطبوخيـة لم تصر موجبـة للخروج، فالآجر الـذي هو الـتراب الـمطبوخ باق على عنوانه الأوّلي، و كذا الـجصّ و مثله، بخلاف الـمطلّي با لـقير، و الـمفروش با لـخشب أو الـصوف أو الـقطن أو نحوها، فإنّها خارجـة عن صدق عنوان الأرض و الاشتمال على بعض الأجزاء الأرضيـة في بعضها، لا يوجب بقاء الـعنوان.
نعم، يمكن أن يقال: بأنّ موضوع الـحكم أوسع من الأرض; لأنّه قد ورد في صحيحـة الأحول عنوان «ا لـمكان الـنظيف» و في روايـة الـمعلّى عنوان «ا لـشيء الـجافّ» و مقتضى إطلاقهما الـشمول لمثل الـمطلّي با لـقير و الـمفروش با لـخشب.
ولكن مقتضى الـتعليل الـوارد في جملـة من الأخبار الـمتقدّمـة ـ و هو قوله (عليه السلام):
«الأرض يطهّر بعضها بعضاً» ـ هو اختصاص الـحكم بخصوص عنوان الأرض و لاسيّما مع ملاحظـة عدم إمكان الالتزام بعموم الـشيء الـجافّ في روايـة الـمعلّى، و عليه فيشكل الأمر في هذه الأزمنـة الـتي تكون أكثر الأراضي الـتي يمرّ الـناس عليها مطلّيـة با لـقير.
و ممّا ذكرنا يظهر: أنّه لامجال للأخذ بإطلاق الأمر با لـمسح في صحيحـة زرارة، على تقدير كون الـمراد من الـمسح ما هو الـمراد في الـمقام، فالإشكال بحا لـه و إن حكي عن ابن ا لـجنيد و صاحب «ا لـمستند» الـحكم با لـكفايـة.
(الصفحة 593)
ثا لـثها: الـشمس، فإنّها تطهّر الأرض، و كلّ ما لا ينقل من الأبنيـة، و ما اتصلّ بها من الأخشاب و الأبواب و الأعتاب و الأوتاد، الـمحتاج إليها في الـبناء، الـمستدخلـة فيه، لا مطلق ما في الـجدار على الأحوط.
و الأشجار و الـنبات و الـثمار و الـخضروات و إن حان قطعها، و غير ذلك حتّى الأواني الـمثبتـة، و كذا الـسفينـة. ولكن لا تخلو الأشجار و ما بعدها من الإشكال، و إن لا تخلو من قوّة.
و لا يترك الاحتياط في الـطرّادة، و كذا الـعربـة و نحوها. و الأقوى تطهيرها للحصر و الـبواري1 .
ا لـثا لـث: في مطهّريـة الـشمس
(1) يقع الـكلام في هذه الـقطعـة من الـمتن في مقامات:
ا لـمقام الأوّل: في أصل مطهّريـة الـشمس في الـجملـة
و الـمشهور بين الأصحاب ـ رضوان اللّه تعا لـى عليهم أجمعين ـ ، هي كونها مطهّرة في الـجملـة كا لـماء.
و عن الـمفيد و جماعـة من الـقدماء و الـمتأخّرين الـقول با لـعفو، و أنّ جواز الـتيمّم و الـسجود على ما جفّفته الـشمس من الـمواضع الـمتنجّسـة، لا يكون مستنداً إلى طهارتها، بل الـشمس قد أثّرت في الـعفو، مع بقاء تلك الـمواضع على الـنجاسـة.
و قد استدلّ للمشهور بجملـة من الأخبار الـمستفيضـة:
منها: صحيحـة زرارة قال: سأ لـت أباجعفر (عليه السلام) عن الـبول، يكون على الـسطح أو في الـمكان الـذي يصلّى فيه.
(الصفحة 594)
فقال:
«إذا جفّفته الـشمس فصلّ عليه، فهو طاهر»(1)
.
و مقتضاها بمناسبـة الـتعليل بقوله:
«فهو طاهر» أنّ جواز الـصلاة على الـسطح أو في الـمكان الـذي يصلّى فيه ـ إذا كان الـبول عليهما، و قد جفّفته الـشمس ـ مستند إلى حصول الـطهارة له بسبب الـشمس و تجفيفها، لا إلى الـعفو مع بقاء الـموضع على نجاسته الأوّليـة.
و دعوى عدم كون الـطهارة في عرفهم، حقيقـة في الـمعنى الاصطلاحي الـمقابل للنجاسـة، مدفوعة بوضوح كون هذه الـكلمة في عصر الـصادقين و من بعدهما (عليهم السلام)، ظاهرة في الـمعنى الـشرعي، فا لـروايـة في كمال الـظهور في مرام الـمشهور.
ومنها: صحيحة زرارة وحديد بن حكيم الأزدي جميعاً قالا: قلنا لأبي عبدا للّه (عليه السلام): الـسطح يصيبه الـبول أو يبال عليه، يصلّى في ذلك الـمكان؟
فقال:
«إن كان تصيبه الـشمس و الـريح و كان جافّاً فلابأس به، إلاّ أن يكون يتّخذ مبالاً»(2).
و الاستدلال بها مبنيّ على أنّ الـظاهر أنّ نفي الـبأس عن الـصّلاة في الـمورد الـمفروض مع إصابـة الـشمس و الـريح، إنّما هو لأجل حصول الـطهارة له بذلك، و الـسر فيه أنّ الـسائلين قد اعتقدا عدم جواز الـصلاة في الأرض الـنجسـة، و عدم ثبوت الـعفو عنه، و هو (عليه السلام) لم يردعهما عن هذا الاعتقاد، فنفي الـبأس مع الإصابـة، ظاهر في حصول الـطهارة و زوال الـنجاسـة.
و الاشتمال على الـريح لايقدح بعد عدم مدخليتها بوجه; لأنّ الـظاهر أنّ ذكرها
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 29، الـحديث 1.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 29، الـحديث 2.