(الصفحة 214)
ا لـموثّقـة، لوجود روايات دالّـة على جواز البدار، فإذا حملت على الاستحباب لأجلها ترتفع معارضتها مع الـموثّقـة أيضاً.
و الإنصاف: صحّـة هذا الـجمع، و أنّه لامحيص عنه، نعم مورد الـموثّقـة هو الـمسافر، و الـتعبير الـواقع في الـمتن هو الـبرّيـة; و لعلّه لأجل أنّ الـسفر ملازم نوعاً للكون في الـبرّيـة، و منه يظهر أنّه ليس الـمراد به هو الـسفر الـشرعي، بل الـمراد به هو الـسفر الـعرفي الـثابت فيه تلك الـملازمـة، و عليه فا لـسفر بما هو سفر لايكون له موضوعيـة أصلاً، بل الـملاك على ما هو الـمتفاهم عند الـعرف هو ما ذكر.
و عليه فلايبعد دعوى كون حكم سكّان الـبوادي و الـجبال حكم الـمسافرين من حيث الـطلب في الأرض، و إن كان بينهما فرق من جهـة أنّ الـسكونـة موجبـة للاطّلاع على وجود الـماء في الـحوا لـي و عدمه، و الـمفروض في الـروايـة من لايكون مطّلعاً عليه، كما لايخفى.
بقي في هذا الـمقام اُمور:
الأوّل: الـطلب في جميع الـجوانب
أ نّه قد عرفت أنّ خبر الـسكوني يكون حاكماً على الآيـة الـشريفـة، الـظاهرة في نفسها و بمقتضى حكم الـعقل في لزوم طلب الـماء إلى حدّ الـيأس، و مفسّراً للمراد منها بالإضافـة إلى الـمسافر، فهو لايكون بصدد إفادة أصل إيجاب الـطلب، بل هو مفيد لمقداره و مبيّن لكمّيته، و دالّ على عدم وجوب مازاد على ذلك الـمقدار.
و عليه فيظهر عدم اختصاص الـطلب بخصوص جهـة من الـجهات الأربع، بل لابدّ و أن يكون الـطلب في جميع الـجوانب، و من الـواضح أ نّه ليس الـمراد منها هي
(الصفحة 215)
ا لـخطوط الـمتقابلـة، بل الـمراد من كلّ جهـة هو ربع الـدائرة، فا لـملاك هو شمول دائرة الـطلب لجميع الـجوانب، غايـة الأمر أنّ سعتها لاتزيد على الـمقدار الـمذكور.
و عن «ا لـنهايـة» و «ا لـوسيلـة» الاقتصار على الـيمين و الـيسار، و عن «ا لـمقنعـة» الاقتصار على الأمام و الـيمين و الـشمال.
لكن قد عرفت: أنّ مقتضى حكم الـعقل وجوب الـضرب في جميع الـجهات، و يمكن أن يكون الـمراد من كلّ من الـيمين و الـيسار فيما عن «ا لـنهايـة» و «ا لـوسيلـة» هو نصف الـدائرة، كما أنّه يمكن أن يكون الإهمال الـواقع فيما عن «ا لـمقنعـة» با لـنسبـة إلى الـخلف لأجل وقوع الـطلب فيه با لـمرور منه، فتدبّر.
ا لـثاني: في كون وجوب الـطلب عقلياً
قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ وجوب الـطلب في الـمقام لايكون وجوباً نفسياً كما عن «قواعد الـشهيد» و «ا لـحبل الـمتين» و «ا لـمعا لـم»، و لاغيريّاً بمعنى أن يكون الـطلب شرطاً في صحّـة الـتيمّم تعبّداً كما اختاره في «ا لـجواهر» و نسب إلى الـمشهور احتمالاً، بل هو عقلي محض، منشأه لزوم إحراز الـعذر عن ترك الـمطلوب الـمطلق أى الـصلاة مع الـطهارة الـمائيـة، الـتي لاتكون مقيّدة بمثل الـوجدان على ما مرّ، فا لـحاكم به هو الـعقل بعد ملاحظـة دليل الـتكليف.
و ليس في الـمقام دليل لفظي يدلّ على الـوجوب حتّى يبحث عن كونه نفسياً أو غيرياً; لأنّ روايـة الـسكوني قد عرفت أنّها ليست بصدد إفادة أصل الإيجاب، بل هي تدلّ على بيان مقداره، كما أنّ صحيحـة زرارة محمولـة على الاستحباب على ما مرّ، فليس هنا دليل لفظي يدلّ على الـوجوب حتّى يبحث في نوعه.
(الصفحة 216)
ولو سلّم دلالـة الـروايتين على وجوب الـطلب، فلا شبهـة في عدم دلالتهما على الـوجوب الـنفسي; لظهور الأوامر في الإرشاد في مثل الـمقام، فهو إمّا إرشاد إلى حكم الـعقل، و إمّا إرشاد إلى الـشرطيـة. لاسبيل إلى الـثاني; لأنّ الـظاهر من قوله (عليه السلام) في روايـة الـسكوني: «يطلب الـماء في الـسفر» أنّ الـطلب واجب لتحصيل الـماء، لا لشرطيته في الـتيمّم، كما أنّ الـظاهر من الـصحيحـة أيضاً ذلك، و أنّ شرط الـتيمّم هو خوف فوت الـوقت، لاا لـطلب، فلا محيص عن حمل الـروايتين ـ على تقدير دلالتهما على الـوجوب ـ على الإرشاد إلى ما هو مقتضى حكم الـعقل.
و يترتّب على ذلك: أنّ لزوم الـطلب في الـجوانب الأربع إنّما هو مع احتمال وجود الـماء فيها، و إلاّ فمع الـعلم بعدمه في واحد منها أو أزيد أو في جميعها لامعنى لوجوب الـطلب في الـجهـة الـتي يعلم بعدمه فيها.
نعم، لو علم بوجوده فوق الـمقدار يجب تحصيله مع بقاء الـوقت و عدم تعسّره، لخروجه عن منصرف روايـة الـسكوني قطعاً، فيرجع في حكمه إلى ما هو ما مفاد الآيـة، و مقتضى حكم الـعقل، نعم مع ضيق الـوقت أو تعسّر تحصيل الـماء، كما إذا كان الـماء بعيداً، يسقط الـوجوب.
و قد انقدح ممّا ذكرنا: بطلان ما حكي عن الـقائلين بكون وجوب الـطلب نفسياً من لزوم الـطلب ولو مع الـعلم بعدم وجود الـماء; لضعف مبناهم مع أنّ نفس مفهوم الـطلب لايجتمع إلاّ مع رجاء الـوصول إلى الـمطلوب، و احتمال حصوله، و لايلتئم مع الـعلم با لـعدم.
ثمّ الـظاهر أنّ الـظنّ بوجود الـماء في الـزائد على الـمقدار لايكون كا لـعلم به; لعدم الـدليل على اعتباره، و عدم صدق الـوجدان معه، نعم لو بلغ إلى مرتبـة الاطمئنان
(الصفحة 217)
ا لـذي يكون علماً عرفياً، لايبعد وجوب الـطلب معه، لصدق الـوجدان حينئذ كما هو ظاهر.
ا لـثا لـث: في تفسير الـحزونـة و الـسهولـة
ا لـواردتين في روايـة الـسكوني و فتاوى الأصحاب، الـتي قد عرفت أنّهم قد عبّروا فيها بمتنها.
فنقول: قال في «ا لـصحاح»: «ا لـسهل نقيض الـجبل، و الـحزن ما غلظ من الأرض و فيها حزونـة»، و الـمستفاد من تفسير الـحزن كون الأرض مأخوذة في معناه، و أنّه عبارة عن الأرض الـتي كانت فيها غلظـة، ولكن ذيله يشعر بل يدلّ على أنّ الـحزن بمعنى مطلق ما كان واجداً لوصف الـحزونـة، أي الـغلظـة.
و يؤيّد الأوّل: ما عن «ا لـقاموس» و «ا لـمجمع» من تفسيره بما غلظ من الأرض، و كذا ما عن الأصمعي من أنّ الـحزن الـجبال الـغلاظ.
و يؤيّد الـثاني: ما في «ا لـمنجد» من قوله: «حزن يحزن حزونـة، الـمكان صار حزناً أي غليظاً». فإنّه كا لـصريح في أنّ الـحزن هو نفس الـغلظـة الـتي هي معنى وصفي عامّ، و إن قال بعده: «ا لـحزن ما غلظ من الأرض».
قال الـماتن دام ظلّه في «رسا لـة الـتيمّم»: «و لايبعد أن يكون الاحتمال الـثاني أرجح، فيقال: أرض سهلـة و حزنـة، و رجل سهل الـخلق، و نهر سهل أي ذو سهولـة، و سهل الـموضع، بل و أسهل الـدواء بمعنى، و يفهم بالانتساب إلى الـمتعلّقات كيفيـة الـسهولـة، و كذا الـحزن، فإذا قيل للجبال الـغلاظ الـحزن كصرد، و للشاة الـسيّئـة الـخلق الـحزون، و لقدمـة الـعرب على الـعجم في أوّل قدومهم الـذي أسحقوا فيه ما
(الصفحة 218)
أسحقوا من الـدور و الـضياع الـحزانـة، يكون بمعنى واحد، بل لااستبعد أن يكون الـحزن مقابل الـفرح من هذا الأصل و إن اختلفت الـهيآت».
ثمّ إنّه بناء على مدخليـة الأرض في معنى الـحزونـة، لابدّ من ملاحظـة الـغلظـة و الـسهولـة بالإضافـة إلى ذات الأرض، فا لـحزونـة حينئذ عبارة عن الأرض الـتي تكون با لـذات واجدة للغلظـة، ككونها جبلاً مثلاً، و أمّا ما لم تكن كذلك، فلا تكون حزونـة ولو كانت مشتملـة على الـغلظـة الـعرضيـة باعتبار وجود الأشجار و إحداثها فيها، إلاّ أن يقال: إنّ اعتبار الأرض في معنى الـحزونـة لاينافي شمولها لما إذا كانت الـغلظـة عرضيـة، و عليه فإسراء الـحكم إلى الأراضي الـمشجّرة ـ كما في «ا لـعروة» ـ لايحتاج إلى دعوى إلغاء الـخصوصيـة حتّى يقال: إنّ عهدتها على مدّعيها.
و كيف كان: فبناء على اعتبار الأرض في معنى الـحزونـة، لايبقى فرق بين جعل الـكون في قوله (عليه السلام) في روايـة الـسكوني: «إن كانت الـحزونـة فغلوة ...» تامّاً و الـحزونـة فاعلاً، أو جعله ناقصاً و الأرض الـمحذوفـة اسماً لاعتبار الأرض على كلا الـتقديرين، فلا يكون فرق في الـبين.
و أمّا على تقدير عدم اعتباره فيه، فعلى تقدير جعل الـكون ناقصاً، يكون الأمر كما مرّ، و أمّا على تقدير جعله تامّاً، فحيث لاتكون الأرض حينئذ معتبرة في الـمفهوم، و لاتكون محذوفـة اسماً، فا لـملاك وجود الـمانع و تحقّق الـغلظـة ولو كان مثل الـشجر و الـثلج و نحوهما، و حيث إنّه لايحصل للنفس طمأنينـة بعدم اعتبار الأرض في معنى الـحزونـة، و لالعدم جعل الـكون ناقصاً، فلا محيص عن الاحتياط لدلالـة الآيـة و حكم الـعقل على لزوم الـطلب زائداً على الـمقدار الـمذكور في روايـة الـسكوني، فيحتاط بالأخذ بالأكثر، كما لايخفى.
|