(الصفحة 190)
ا لـمقدّمـة الـثانيـة: عدم اتّصاف الـطهارات با لـوجوب
و منها: أنّه قد مرّ في بعض الـمباحث الـسابقـة، أنّ الـطهارات الـثلاث لاتكاد تتّصف با لـوجوب أصلاً، لا نفسياً و لاغيرياً، و لا من طريق تعلّق الـنذر و شبهه.
أمّا عدم اتّصافها با لـوجوب الـنفسى، فلعدم الـدليل عليه; لأنّ ظاهر تعلّق الأمر بها في مثل قوله تعا لـى:
(إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الـصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...) هو الإرشاد إلى الـشرطيـة، كما في سائر الأوامر الـمتعلّقـة بالأجزاء و الـشرائط.
كما أنّ ظاهر الـنهي في مثله هو الإرشاد إلى الـمانعيـة، كقوله (عليه السلام):
«لا تصلّ في وبر ما لايؤكل لحمه»، بل الـتعبير عن بعضها با لـفريضـة، كما في صحيحـة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال:
«يا زرارة، الـوضوء فريضـة».(1)
لادلالـة له على كونه مطلوباً نفسياً; لأنّ الـظاهر كون الـمراد من مثله هو أنّ الـوضوء فريضـة في الـصلاة، و الـشاهد له صحيحـة اُخرى لزرارة قال: سأ لـت أباجعفر (عليه السلام) عن الـفرض في الـصلاة.
فقال:
«ا لـوقت، و الـطهور، و الـقبلـة، و الـتوجّه، و الـركوع، و الـسجود، و الـدعاء ...» ا لـحديث.(2)
فإنّ الـسؤال فيها ـ و كذا الـجواب ـ بلحاظ عدّ الـوقت أيضاً من الـفرائض في عداد الـطهور و شبهه، دليل على عدم كونه فرضاً مستقلاًّ كما هو ظاهر.
و أمّا عدم اتّصافها با لـوجوب الـغيري، فلما حقّقناه في مبحث مقدّمـة الـواجب من إنكار وجوب الـمقدّمه أوّلاً، و كون الـواجب ـ على تقديره ـ هو عنوان الـموصل بما
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـوضوء، الـباب 1، الـحديث 2.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـوضوء، الـباب 1، الـحديث 3.
(الصفحة 191)
هو موصل ثانياً، و لايسري الـوجوب من هذا الـعنوان إلى الـعناوين الأوّليـة الـثابتـة للمقدّمات، كعناوين الـوضوء و الـغسل و الـتيمّم.
و أمّا عدم اتّصافها با لـوجوب من قبل الـنذر و شبهه، فلما مرّ غير مرّة من أنّ متعلّق الـوجوب في الـنذر هو عنوان الـوفاء با لـنذر، و لايعقل أن يسري منه الـوجوب إلى ما يتّحد معه وجوداً; لاستحا لـة الـسرايـة في نفسها أوّلاً، و كونها مستلزمـة لتعلّق حكمين بفعل واحد ـ كصلاة الليل مثلاً إذا وقعت متعلّقـة للنذر ـ ثانياً.
فانقدح من ذلك: أنّ الـتيمّم الـذي هو مورد الـبحث لا يتّصف با لـوجوب أصلاً، و لامنافاة بين ذلك، و بين عباديـة الـتيمّم; لأنّ منشأ اتّصافه با لـعباديـة ليس تعلّق الـوجوب به حتّى يكون الـمنع عنه موجباً للمنع عن عباديته، ضرورة أنّ الـوجوب على تقديره إنّما تعلّق بما هو عبادة في نفسها; لأنّ متعلّق الـوجوب هي الـمقدّمـة، و الـتيمّم غير الـعبادي لايكون مقدّمـة بوجه، فلابدّ من الالتزام بأنّ وصف الـعباديـة لايرتبط بتعلّق الـوجوب أصلاً، و حينئذ يشكل الأمر من جهـة أنّ الأصحاب لم يلتزموا في الـتيمّم باستحبابه الـنفسي، الـموجب لثبوت وصف الـعباديـة له، و الـتزموا في الـوضوء بكونه كذلك.
و يمكن أن يقال: باشتراكهما في الاستحباب الـنفسي، غايـة الأمر افتراقهما في أنّ الـوضوء مستحبّ نفسي مطلقاً حتّى فيما كان له وضوء; لأنّ الـوضوء على الـوضوء نور على نور، و الـتيمّم يكون استحبابه الـنفسي في ظرف خاصّ، و هو ظرف مشروعيته و قيامه مقام الـوضوء أو الـغسل، فتأمّل.
(الصفحة 192)
ا لـمقدّمـة الـثا لـثـة: في الـخروج من عنوان واجد الـماء
و منها: أنّه لاخفاء في أنّ الـتكليف إذا تعلّق بعنوانين متقابلين ـ كا لـمسافر و الـحاضر ـ لايجب على الـمكلّف حفظ أحد الـعنوانين بعدم الـخروج منه إلى الآخر، بل يجوز الـتبديل دائماً، سواء كان قبل تحقّق الـتكليف و تنجّزه، أولا; لعدم اقتضاء الـتكليف حفظ موضوعه، و كذا إذا كان الـتعلّق بنحو الاشتراط، كما إذا قيل: إن كنت في الـسفر فكذا، و إن كنت في الـحضر فكذا; لعدم اقتضاء الـمشروط حفظ شرطه، و هذا واضح.
و كذلك لاريب في أنّه إذا توجّه الـتكليف إلى الـمكلّف بنحو الإطلاق، لايجوز له تعجيز نفسه; لأنّ الـقدرة لاتكون من الـعناوين الـمأخوذة في الـمكلّف، كعنوان الـحاضر، و لاتكون شرطاً للتكليف، لاشرعاً; لخلوّ دليله عنه، و لاعقلاً لما قرّرناه في محلّه من أنّه ليس للعقل تقييد حكم الـشرع، غايـة الأمر حكمه بأنّ الـعاجز معذور في مخا لـفـة الـتكليف الـفعلي. ولو كانت الـقدرة مأخوذة بنحو الـشرطيـة لكان للمكلّف تعجيز نفسه بمقتضى ما ذكرنا، و لما وجب عليه الاحتياط في الـشكّ في الـقدرة، مع الـتزامهم به فيه.
و يلحق بهذا الـقسم من الـقسم الأوّل: ما لوفرض دلالـة الـدليل على وجود اقتضاء الـتكليف الـثابت لتحقّق عنوان عند عروض عنوان آخر موجب لتعلّق تكليف آخر به، كما لو فرض دلالـة دليل الـطهارة الـمائيـة ـ أو الـصلاة معها ـ على ثبوت اقتضاء لزومي حتّي في حال فقدان الـماء، فلاتجوز إراقته، أو تحصيل الـعجز في هذه الـصورة أيضاً.
(الصفحة 193)
إذا عرفت ذلك، يقع الـكلام في حال الـطهارة الـمائيـة و الـترابيـة، و أنّ عنواني الـواجد و الـفاقد هل يكونان كعنواني الـمسافر و الـحاضر، أو أنّ انتقال الـتكليف إلى الـطهارة الـترابيـة إنّما هو للاضطرار و الـعجز ـ و إلاّ فالاقتضاء اللزومي في الـطهارة الـمائيـة باق على حا لـه ـ ؟
و لابدّ لاستكشاف ذلك من ملاحظـة الآيـة الـشريفـة، و الـروايات الـواردة في الـطهارة الـترابيـة.
فنقول: قال اللّه تعا لـى:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَر أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).(1)
أمرا للّه تعا لـى با لـوضوء في صدر الآيـة مطلقاً، أي من دون قيد، و كذا با لـغسل في صورة الـجنابـة كذلك; لأنّ الـظاهر أنّ الـمراد من قوله:
(فَاطَّهَّرُوا) هو الـغسل; لوقوعه بعد الأمر با لوضوء، وقبل فرض العجز عن الماء وعدم وجدانه، فالأمر با لوضوء ـ و كذا الـغسل ـ مطلق، و لايكون مقيّداً با لـوجدان; لأنّ منشأ توهّم الـتقييد: إمّا كون قيد الـوجدان غا لـب الـحصول و الـفقدان نادراً، و إمّا فرض عدم الـوجدان في الـذيل في مقام بيان وجوب التيمّم، فإنّه يوجب كون المفروض في الـصدر هو عنوان الواجد، فيصير بحسب الـظاهر كعنواني الـمسافر و الـحاضر من دون فرق بين الـمقامين.
هذا، ولكن غلبـة الـحصول مع أنّها لاتقتضي الـتقييد، لعدم كون الـكثرة مانعـة
(الصفحة 194)
عن ثبوت الإطلاق، ممنوعـة صغرى، خصوصاً بملاحظـة تلك الأمكنـة و الأزمنـة.
و أمّا فرض عدم الـوجدان في الـذيل، فلا يصلح لتقييد الـصدر بحيث صار معنوناً بعنوان الـواجد; لأنّ الـعرف لايفهم من عنوان الـفاقد و مثله من الـعناوين الاضطراريـة إلاّ أنّ الـحكم الـمتعلّق به إنّما هو في فرض الاضطرار و الـعجز عن تحصيل الـمطلوب الأوّلي، فنفس عنوان الـفاقد يرشدنا إلى كون الـحكم الـثابت في ظرفه إنّما هو في طول الـحكم الأوّلي، لا في عرضه، مع أنّ جعل الـمرضى في عداد الـمسافر دليل على أنّ الـحكم اضطراري في جميع موارده.
كما أنّ الـتذييل بقوله:
(ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج) ظاهر في أنّ الانتقال إلى الـتيمّم في موارده إنّما هو لأجل الـتسهيل، و رفع الـحرج الـثابت عند الـتكليف با لـطهارة الـمائيـة في جميع الـموارد حتّى في حال عدم الـوجدان، و إلاّ فمع قطع الـنظر عن استلزام الـحرج، يكون الـتكليف الأوّل باقياً بحا لـه; لثبوت الاقتضاء فيه كذلك، نعم في حال عدم الـوجدان، يكون الـتيمّم مؤثّراً فيما كانت الـطهارة الـمائيـة مؤثّرة فيه، و هي الـطهارة.
فالإنصاف: تماميـة دلالـة الآيـة على عدم كون الـتكليفين في عرض واحد، و أنّ الـتكليف با لـتيمّم إنّما هو في حال الاضطرار و في طول الـتكليف الأوّلي.
و أمّا الـروايات فمنها: صحيحـة محمّد بن مسلم، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال: سأ لـت عن رجل أجنب في سفر و لم يجد إلاّ الـثلج أو ماء جامداً.
فقال:
«هو بمنزلـة الـضرورة يتمّم، و لا أرى أن يعود إلى هذه الأرض الـتي يوبق دينه».(1)
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 9، الـحديث 9.