(الصفحة 205)
الأكبر كذلك، لايرى الـعرف خصوصيـة للمرض، و الـمراد به حصول الـضرر باستعمال الـماء، و كذا با لـنسبـة إلى الـسفر، فإنّه لايكون له خصوصيـة بعنوانه، بل الـمراد به فقدان الـماء الـملازم له نوعاً، خصوصاً في الأسفار الـتي كانت في تلك الأزمنـة و الأمكنـة.
و على ما ذكرنا: فا لـمستفاد من الآيـة ـ مع قطع الـنظر عن الـذيل الـمشتمل على الـتعليل بعدم تعلّق الإرادة بأن يجعل على الـناس من حرج ـ هو تشريع الـتيمّم للمعذور عن استعمال الـماء، و كذا فاقد الـماء رأساً، أو الـواجد الـذي لايتمكّن من الـوضوء منه; إمّا لكونه في بئر لايتيسّر الـوصول إليه، أو لعدم كفايته للطهارة الـمائيـة، أو لجهـة اُخرى مانعـة عن الـوضوء منه.
و أمّا الـتعليل الـواقع في إحدى الآيتين فقط، فيجري فيه احتمالان:
الأوّل: أن يكون ناظراً إلى أصل اعتبار الـطهارة في الـصلاة مطلقاً من دون اختصاص با لـتيمّم، و مرجعه إلى دفع توهّم كون الـتكليف با لـطهارة عند كلّ صلاة حرجياً، خصوصاً بالإضافـة إلى الـتيمّم، لما فيه من الـتذلّل و الـخضوع الـذي ربّما يشقّ على الـمؤمنين في بدو الإسلام، و الـمراد أنّه لم يرد اللّه أن يجعل عليكم من حرج في جعل الـصلاة مشروطـة با لـطهارة، بل أراد اللّه ليطهّركم و يتمّ نعمته عليكم.
ا لـثاني: أن يكون ناظراً إلى تشريع الـتيمّم فقط، و مرجعه أنّه لم يرد اللّه أن يجعل عليكم من حرج لأجل جعل الـصلاة مشروطـة بخصوص الـطهارة الـمائيـة، بل وسّع دائرة الـطهارة و عمّمها للطهارة الـترابيـة أيضاً; لئلاّ يقع الـناس في حرج، و مرجعه حينئذ إلى أنّ الانتقال إلى الـتيمّم إنّما هو في موارد لزوم الـحرج من تحصيل الـطهارة الـمائيـة، سواء كان الـحرج في نفسها أو في مقدّماتها.
(الصفحة 206)
فا لـمتفاهم من الآيـة صدراً و ذيلاً ـ بعد قوّة هذا الاحتمال و ضعف الاحتمال الأوّل ـ أنّ الـتيمّم طهور اضطراري مشروع في موارد ثبوت الـعذر الـشرعي أو الـعقلي الـتي يكون تحصيل الـطهارة الـمائيـة فيها حرجياً، ولو فرض عدم استفادة بعض الـموارد منها، لكنّه بعد الـعلم بعدم سقوط الـتكليف با لـصلاة و باشتراطها با لـطهور، و أنّ الـتراب أحد الـطهورين، لايبقى إشكال في مشروعيته في جميع موارد الـعذر، خصوصاً بعد اقتضاء الـتدبّر في مجموع الـروايات الـواردة في الـباب لذلك. هذا كلّه في مسوّغات الـتيمّم بنحو الإجمال.
و أمّا تفصيلها فنقول:
الأوّل: في عدم وجدان الـماء
منها، عدم وجدان ما يكفيه من الـماء لطهارته ـ وضوءً كانت أو غسلاً ـ ، و لاإشكال نصّاً و فتوىً في كونه من الـمسوّغات، و قد ادّعى الإجماع جماعـة كثيرة، و لافرق بين الـسفر و الـحضر، كما أنّه لافرق في الأوّل بين ما إذا كان الـسفر طويلاً أو قصيراً.
نعم، حكي عن الـسيّد (قدس سره) في «شرح الـرسا لـة» وجوب الإعادة على الـحاضر، ولكنّه ليس خلافاً في هذه الـمسأ لـة، بل في مسأ لـة الإجزاء، و خا لـف فيما ذكر أبوحنيفـة و أحمد ـ في إحدى الـروايتين ـ وزفر فقا لـوا: إنّ الـحاضر الـفاقد للماء لايصلّي، بل عن زفر دعوى الإجماع عليه، و ظاهر الآيـة ردّ عليهم كما عرفت في معناها.
فلا إشكال في أصل مسأ لـة، كما أنّه لا إشكال في وجوب الـطلب و الـفحص عن الـماء في الـجملـة، و حكي الإجماع عليه عن جملـة من الـكتب الـفقهيـة، بل عن
(الصفحة 207)
«ا لـسرائر» دعوى تواتر الأخبار به، و لابدّ أوّلاً من ملاحظـة الآيـة الـشريفـة، ثمّ الـروايات الـواردة.
فنقول: أمّا الآيـة، فقد عرفت في مقام بيان الـمراد منها أنّ الـتكليف با لـصلاة مع الـمائيـة غير مقيّد بحال الاختيار و الـوجدان، بل هو تكليف مطلق، و أنّ الـتعليق بعنوان اضطراري ظاهر عرفاً في أنّ الـطهارة الـترابيـة طهارة اضطراريـة، يسوّغها الاضطرار مع بقاء الـمطلوبيـة الـمطلقـة في الـمائيـة على حا لـها، و مع ذلك يجب عند الـعقل الـفحص و الـطلب في تحصيل الـمطلوب الـمطلق إلى زمان الـيأس، أو حصول عذر آخر، و ليس الـشكّ في الـعذر عذراً عند الـعقلاء، نظير الـشكّ في الـقدرة في الأعذار الـعقليـة.
بل يمكن استفادة لزوم الـطلب من قوله تعا لـى:
(فَلَمْ تَجِدُوا)، فإنّ الـظاهر من هذه الـمادّة في الـعربيـة و مرادفاتها في الـفارسيـة، هو الـيأس عن الـوصول إلى الـمطلوب بعد الـطلب و الـفحص عنه.
و ربّما يقال: و لايلزم أن يكون الـمتفاهم من جميع الـصيغ حتّى اسم الـفاعل و الـمفعول كذلك، فلا ينتقض با لـواجد و الـموجود، فإنّه قد يدلّ بعض الـمشتقّات ولو انصرافاً على معنى لايفهم من الآخر، كا لـماء الـجاري حيث يدلّ على الـجريان من مبدأ نابع، بخلاف جري الـماء لصدقه على ما جرى من الـكوز.
أقول: الظاهر عدم كون الواجد و الموجود موردين للانتقاض بوجه، فإنّ الـواجد له معنيان يكون بحسب أحدهما متعدّياً و بحسب الآخر لازماً، و معناه الـمتعدّي لايكون مغايراً لمعنى سائر الـصيغ من جهـة اعتبار الـطلب و الـفحص فيه أصلاً.
و أمّا الـموجود: فتارة يستعمل في مقابل الـمعدوم، و هو بهذا الاعتبار معناه لازم و
(الصفحة 208)
لذا يطلق على الـباري تعا لـى أيضاً، و أخرى في مقابل الـمفقود، و هو بهذا الاعتبار متعدّ، ولايغاير معناه مع معنى سائر الصيغ في تلك الجهة، فلايكونان موردين للانتقاض.
و أمّا الـتشبيه با لـماء الـجاري، فلا يكاد يتمّ; لأنّك عرفت في مبحث الـمياه أنّ اسم الـفاعل من الـجريان ربّما لادلالـة له على الـجريان من مبدأ نابع، كما في مثال الـكوز; لأنّه يصدق على الـماء الـخارج منه أنّه جار منه، إلاّ أن يقال بثبوت الانصراف في بعض موارده، و هو ما لو كان هذا الـعنوان بنحو الـصفـة لابنحو الـخبر، ففي مثل الـماء الـجاري يكون الانصراف متحقّقاً، دون «ا لـماء جار» كما لايخفى.
و كيف كان: فلا إشكال في دلالـة الآيـة على لزوم الـطلب و الـفحص.
و أمّا الـروايات:
فمنها: روايـة الـسكوني، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام) قال:
«يطلب الـماء في الـسفر; إن كانت الـحزونـة فغلوة، و إن كانت سهولـة فغلوتين، لايطلب أكثر من ذلك».(1)
ولو سلّم ضعف في سندها، و اغمض عمّا عن الـشيخ (قدس سره) من إجماع الـشيعـة على الـعمل بروايات الـكسوني الـذي يستفاد منه وثاقته، و كذا وثاقـة الـنوفلي; لأنّه قلّما يتّفق عدم كون الـنوفلي في طريقها، ولكنّها مجبورة بعمل الأصحاب قديماً و حديثاً، فا لـمناقشـة فيها من حيث الـسند غير مسموعـة، ولكنّ دلالتها قابلـة للمناقشـة، فإنّ الـظاهر منها أنّه بصدد بيان مقدار الـفحص بعد مفروغيـة أصله، و أمّا كونه واجباً أو مستحبّاً فلا دلالـة لها عليه، خصوصاً بعد ملاحظـة ذيلها و هو قوله (عليه السلام):
«لايطلب أكثر
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 1، الـحديث 2.
(الصفحة 209)
من ذلك»، إلاّ أن يقال: إنّ قوله:
«يطلب الـماء في الـسفر» جملـة تامّـة مستقلّـة، مفهومها وجوب طلب الـماء في الـسفر كوجوبه في الـحضر، فهي مسوقـة لإفادة أصل وجوب الـطلب. و قوله:
«إن كانت الـحزونـة ...» مفيد لمقداره و مبيّن لكمّيته، و الـنظر فيها إلى أنّ مقدار الـطلب في الـسفر يختلف مع مقداره في الـحضر، و الـجملـة الأخيرة موكّدة لهذه الـجهة، و على هذا الـتقدير تتمّ دلالة الـرواية على إفادة وجوب الـطلب، ولكنّ الأمر سهل بعد دلالـة الآيـة الـكريمـة عليه با لـنحو الـذي ذكرنا.
و منها: روايـة علي بن سا لـم، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال قلت له: أيتمّم ـ إلى أن قال ـ فقال له داود الـرقّي: أفأطلب الـماء يميناً و شمالاً؟
فقال:
«لا تطلب الـماء يميناً و لاشمالاً و لا في بئر، إن وجدته على الـطريق فتوضّأ منه (به)، و إن لم تجده فامض».(1)
و هي مع ضعف سندها بعلي بن سا لـم ـ الـمشترك بين الـمجهول و الـبطائني الـضعيف ـ محمولـة على الـخوف من اللصّ و الـسبع، و الإطلاق إنّما هو لأجل كون الأسفار مظنّـة الـخطر نوعاً، خصوصاً في تلك الأزمنـة و الأمكنـة، مع أنّه يحتمل قويّاً أن تكون الواقعة عين ما رواه ابن محبوب، عن داود الرقّي قال: قلت لأبي عبدا للّه (عليه السلام): أكون في الـسفر فتحضر الـصلاة و ليس معى ماء، و يقال إنّ الـماء قريب منّا، فأطلب الـماء و أنا في وقت يميناً و شمالاً.
قال:
«لاتطلب الـماء، ولكن تيمّم، فإنّي أخاف عليك الـتخلّف عن أصحابك، فتضلّ و يأكلك الـسبع».(2)
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 2، الـحديث 3.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 2، الـحديث 1.