(الصفحة 209)
من ذلك»، إلاّ أن يقال: إنّ قوله:
«يطلب الـماء في الـسفر» جملـة تامّـة مستقلّـة، مفهومها وجوب طلب الـماء في الـسفر كوجوبه في الـحضر، فهي مسوقـة لإفادة أصل وجوب الـطلب. و قوله:
«إن كانت الـحزونـة ...» مفيد لمقداره و مبيّن لكمّيته، و الـنظر فيها إلى أنّ مقدار الـطلب في الـسفر يختلف مع مقداره في الـحضر، و الـجملـة الأخيرة موكّدة لهذه الـجهة، و على هذا الـتقدير تتمّ دلالة الـرواية على إفادة وجوب الـطلب، ولكنّ الأمر سهل بعد دلالـة الآيـة الـكريمـة عليه با لـنحو الـذي ذكرنا.
و منها: روايـة علي بن سا لـم، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال قلت له: أيتمّم ـ إلى أن قال ـ فقال له داود الـرقّي: أفأطلب الـماء يميناً و شمالاً؟
فقال:
«لا تطلب الـماء يميناً و لاشمالاً و لا في بئر، إن وجدته على الـطريق فتوضّأ منه (به)، و إن لم تجده فامض».(1)
و هي مع ضعف سندها بعلي بن سا لـم ـ الـمشترك بين الـمجهول و الـبطائني الـضعيف ـ محمولـة على الـخوف من اللصّ و الـسبع، و الإطلاق إنّما هو لأجل كون الأسفار مظنّـة الـخطر نوعاً، خصوصاً في تلك الأزمنـة و الأمكنـة، مع أنّه يحتمل قويّاً أن تكون الواقعة عين ما رواه ابن محبوب، عن داود الرقّي قال: قلت لأبي عبدا للّه (عليه السلام): أكون في الـسفر فتحضر الـصلاة و ليس معى ماء، و يقال إنّ الـماء قريب منّا، فأطلب الـماء و أنا في وقت يميناً و شمالاً.
قال:
«لاتطلب الـماء، ولكن تيمّم، فإنّي أخاف عليك الـتخلّف عن أصحابك، فتضلّ و يأكلك الـسبع».(2)
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 2، الـحديث 3.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 2، الـحديث 1.
(الصفحة 210)
و تؤيّده روايـة يعقوب بن سا لـم قال: سأ لـت أباعبدا للّه (عليه السلام) عن رجل لايكون معه ماء، و الـماء عن يمين الـطريق و يساره غلوتين أو نحو ذلك.
قال:
«لا آمره أن يغرّر بنفسه فيعرض له لصّ أو سبع».(1)
فإنّ عدم الأمر مع وجود الـماء عن يمين الـطريق و يساره ـ الـذي يجب تحصيله و الـوصول إليه في نفسه ـ يدلّ على أنّ الـمانع عن وجوب الـطلب في صورة احتمال وجود الـماء أيضاً، إنّما هو الـتغرير بنفسه و عروض اللصّ و الـسبع له، فمع انتفاء الـمانع يبقى الـطلب على وجوبه، فلا يبقى إشكال ـ بعد ما ذكرنا ـ في أصل وجوب الـطلب في الـجملـة، و أنّ ما عن الأردبيلي (قدس سره) من استحباب الـطلب ضعيف جدّاً. هذا كلّه با لـنسبـة إلى أصل الـطلب.
و أما با لـنسبـة إلى مقداره، ففي الـمتن: «و يجب الـفحص عنه إلى الـيأس، و في الـبريـة يكفي الـطلب غلوة سهم في الـحزنـة، و غلوة سهمين في الـسهلـة»، و مرجعه إلى الـتفصيل بين الـبريـة و غيرها، بالاكتفاء با لـمقدار الـمذكور في الاُولى، و وجوب الـفحص إلى الـيأس في الـثانيـة.
و وجه الـحكم في الـثانيـة واضح، فإنّه بعد دلالـة الآيـة على أصل وجوب الـفحص، يكون الـتحديد با لـيأس و ثبوته مع الـرجاء، و مادام الـرجاء مستفاداً من الـتعليل الـواقع فيها بلحاظ عدم تعلّق الإرادة با لـحرج و الـمشقّـة، ضرورة أنّه مع عدمه يلزم الـحرج، نعم لاتختصّ الـغايـة با لـيأس، بل يرتفع الـوجوب بضيق الـوقت أيضاً. كما تدلّ عليه صحيحـة زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال:
«إذا لم يجد الـمسافر الـماء فليطلب مادام في الـوقت، فإذا خاف أن يفوته الـوقت فليتيمّم و ليصلّ في آخر
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 2، الـحديث 2.
(الصفحة 211)
ا لـوقت، فإذا وجد الـماء فلا قضاء عليه، و ليتوضّأ لما يستقبل».(1)
و موردها و إن كان هو الـمسافر إلاّ أنّه لايختصّ الـحكم به; لعدم خصوصيـة له من هذه الـجهـة.
و أمّا الاُولى: فوجه الـحكم فيها روايـة الـسكوني الـمتقدّمـة، الـدالّـة على التفصيل بين الـحزونـة و الـسهولـة، و أنّه يكفي في الاُولى غلوة و في الـثانيـة غلوتان، و أنّه لايجب الـطلب أزيد من ذلك.
و قد عرفت أنّها روايـة مشهورة عمل بها الأصحاب قديماً و حديثاً، بل عبّروا بمتنها في فتاويهم، فلا مجال للإشكال فيها بضعف الـسند، و هي حاكمـة على حكم الـعقل، و مفسّرة للآيه الـشريفـة و شارحـة لمفادها، بالإضافـة إلى الـمسافر.
نعم، تعارضها صحيحـة زرارة الـمتقدّمـة، الـدالّـة على أنّ المسافر إذا لم يجد الماء فليطلب مادام في الـوقت، فإنّ ظاهرها وجوب الـطلب إلى أن يتحقّق الـخوف من أن يفوته الـوقت، من دون أن يكون مقدّراً با لـمقدار الـمذكور، فبين الـروايتين منافاة.
نعم، في «حاشيـة» الـمحقّق الـبهبهانى (قدس سره) على «ا لـمدارك»: هذه الـروايـة ـ يعني صحيحـة زرارة ـ وردت بإسناد آخر: «فليمسك» بدل: «فليطلب».
أقول: و هو ما رواه الـشيخ بإسناده، عن الـحسين بن سعيد، عن الـقاسم بن عروة، عن ابن بكير، عن زرارة.(2)
و على هذا الـطريق فلا دلالـة للصحيحـة على مقدار الـطلب، بل موردها صورة عدم الـوجدان، الـمحمول على عدمه بعد الـطلب با لـمقدار الـواجب عليه، و أمّا كون
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 14، الـحديث 3.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 14، الـحديث 3.
(الصفحة 212)
ا لـمقدار الواجب عليه ماذا، فلا دلالة لها عليه، فا لـمنافاة إنّما هي على الـطريق الآخر.
كما أنّه تعارضها على هذا الـطريق الـروايات الـمتعدّدة الـدالّـة على جواز البدار و صحّـة الـصلاة في سعـة الـوقت مع الـتيمّم، كصحيحـة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): فإن أصاب الـماء و قد صلّى بتيمّم و هو في وقت.
قال:
«تمّت صلاته، و لا إعادة عليه».(1)
نعم، توافقها طائفـة اُخرى، و هي الـروايات الـدالّـة على عدم جواز البدار، و وجوب الانتظار إلى أن يتضيّق الـوقت، و سيأتي الـبحث في هذه الـجهـة إن شاء اللّه تعا لـى.
و كيف كان: فقد قيل في مقام الـجمع بين صحيحـة زرارة، و موثّقـة الـسكوني وجوه:
أحدها: أنّ الـصحيحـة مسوقـة لبيان وجوب الـطلب في سعـة الـوقت لامع الـضيق، و أمّا مقدار الـطلب فغير مقصود لها، فلا تنافي خبر الـسكوني.
و اُورد عليه: بأنّ الـصحيحـة كادت تكون صريحـة في إرادة أنّه يطلب الـماء إلى أن يتضيّق عليه الـوقت، و يخاف فوت الـصلاة، فحينئذ يصلّي مع الـتيمّم.
ثانيها: ما أفاده في «ا لـمصباح» من أنّ وجوب الـفحص عن الـماء في الـجهات الأربع ـ على ما يقتضيه خبر الـسكوني ـ مشروط بإرادة الـمسافر الـمتمكّن من الـفحص ـ ا لـذي لم يتضيّق عليه الـوقت ـ الـصلاة في مكان مخصوص، كما لو نزل بعد الـظهر مثلاً منزلاً، و أراد أن يصلّي فيه، و إلاّ فله الـضرب في الأرض في جهـة من الـجهات ولو في الـجهـة الـموصلـة إلى الـمقصد، برجاء تحصيل الـماء في أثناء
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 14، الـحديث 9.
(الصفحة 213)
ا لـطريق إلى أن يتضيّق عليه الـوقت، ضرورة أنّ الـعود إلى الـمكان الأوّل ليس واجباً تعبّدياً، فحيثما طلب الـماء في جهـة ولو في الـجهـة الـمؤدّيـة إلى الـمقصود بمقدار رميـة سهم أو سهمين، فله أن يصلّي في الـمكان الـذي انتهى إليه طلبه، و أن لايعود إلى الـمكان الـذي ابتدأ منه، لكن يجب عليه الـفحص عن الـماء فيما حوله با لـنسبـة إلى الـمكان الـذي انتهى إليه الـسير، فله في هذا الـمكان أيضاً ـ كا لـمكان الأوّل ـ أن يختار أوّلاً الـضرب إلى مقصده مثلاً في الـجهـة الـتي يقرّبه، و هكذا إلى أن يتضيّق عليه الـوقت، و يتعيّن عليه الـصلاة مع الـتيمّم. فثمرة الـعود إلى الـمكان الأوّل إنّما هي جواز الـصلاة مع الـتيمّم بعد الـفحص عن الـماء في سائر الـجهات با لـمقدار الـمعتبر شرعاً، و إن لم يتضيّق عليه الـوقت فتقيّد روايـة زرارة بما عدا هذه الـصورة.
و يرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ الـميزان في الـجمع هو ما كان مقبولاً عند الـعرف و مطابقاً لفهمهم، و من الـمعلوم أنّ الـجمع بهذا الـنحو مخا لـف للأنظار الـعرفيـة ـ أنّه بعد تسليم دلالـة صحيحـة زرارة على وجوب الـطلب مادام في الـوقت إلى أن يتضيّق، كيف يمكن حملها على الـصورة الـمذكورة، و الـقول بأنّه في غير هذه الـصورة يكفي الـطلب مقدار سهم أو سهمين ولو كان في أوّل الـوقت، مع أنّ الـفرق بين ما إذا كان الـضرب في الأرض في الـجهـة الـموصلـة إلى الـمقصد برجاء تحصيل الـماء في أثناء الـطريق، وبين ما إذا لم يكن مقروناً بهذا الـرجاء غير متّضح؟!
ثا لـثها: ما أفاده الـماتن دام ظلّه في «ا لـرسا لـة» من حمل الـصحيحـة ـ الـظاهرة في لزوم الـتأخير، و وجوب الـطلب مادام الـوقت ـ على الاستحباب; لصراحـة الـموثّقـة في عدم الـوجوب.
و يؤيّده: أنّه لامحيص عن حمل الـصحيحـة على الاستحباب ولو لم تعارضها