(الصفحة 287)
ما عرفت من أنّ ثبوت الـمحذور الـشرعي في الـطهارة الـمائيـة، يوجب الانتقال إلى الـترابيـة، و هو هنا حاصل، فإنّ وجوب إيقاع الـصلاة الاُولى مع الـتيمّم حفظاً لمصلحـة الـوقت محذور شرعي بالإضافـة إلى الـصلاة الـثانيـة، الـتي يمكن تحصيل الـطهارة الـمائيـة لها قبل أن يصير فاقد الـماء، فهي في هذه الـحال مبتلاة با لـمحذور، فا لـتيمّم مشروع لها و إن كان الـفقدان لم يتحقّق بعد، و إرادة الإتيان بها لم توجد قبل إيقاع الاُولى.
و بعبارة اُخرى: كما أنّ ضيق الـوقت بالإضافـة إلى الاُولى صار موجباً لشرع الـتيمّم لها، كذلك هو بضميمـة الـفقدان في حال الاشتغال بها الـمتحقّق حينه، يكون موجباً لشرعه للثانيـة في هذا الـحال، أي قبل الـشروع في الاُولى، فكلتا الـصلاتين مشتركتان في مشروعيـة الـتيمّم لهما قبل الـشروع في الاُولى، فلابدّ من الاكتفاء به لـهما.
و هل يجوز الإتيان بسائر الـغايات غير تلك الـصلاة، أم لا؟
و قد نفى الـخلاف الـظاهر عن عدم الـجواز، و لا مايوجب توهّم الـخلاف إلاّ ما طفحت به عباراتهم، و حكي عليه الاتّفاق، و نفي الـخلاف من أ نّه يستباح با لـتيمّم لغايـة ما يستبيحه الـمتطهّر من سائر الـغايات، ولكنّه ينبغي الـجزم بأنّ مرادهم عدم الاحتياج في فعل كلّ غايـة إلى إيقاع الـتيمّم لها و تجديده عند فعلها، لا أ نّه إذا شرع لغايـة ـ لصدق عدم الـوجدان بالإضافـة إليها ـ يستباح به كلّ غايـة و إن لم يصدق عدم الـوجدان بالإضافـة إليها.
و كيف كان: فقد ذكر في «ا لـمصباح» ـ بعد ذهابه إلى ثبوت الـوجهين في الـمسأ لـة ـ في وجه عدم الـجواز: أنّ الـعجز عن الـطهارة الـمائيـة اُخذ قيداً في
(الصفحة 288)
موضوعيـة الـموضوع، فهو جهـة تقييديـة لاتعليليـة، فا لـمتيمّم لضيق الـوقت عاجز عن الـطهارة الـمائيـة لصلاة ضاق وقتها لا مطلقاً، فهو با لـمقايسـة إلى سائر الـغايات متمكّن من الـطهارة الـمائيـة، حتّى إذا أراد الإتيان بها في حال الاشتغال با لـصلاة، كما إذا أراد مسّ كتابـة الـقرآن حا لـها، خصوصاً إذا لم يكن الاشتغال با لـوضوء أو الـغسل في خلال الـصلاة منافياً لصورتها.
و ذكر في وجه الـجواز الـذي قوّاه: أنّ الـعجز في الـجملـة أثّر في شرعيـة الـتيمّم، فمتى تيمّم فقد فعل أحد الـطهورين و حصلت الـطهارة، فله الإتيان بجميع ما هو مشروط با لـطهور، و كون الـجهـة تقييديـة لا يؤثّر في إمكان اتّصاف الـمكلّف في زمان واحد بكونه متطهّراً و غير متطهّر، فهو بعد أن فعل أحد الـطهورين متطهّر، و إلاّ لم يجز له فعل الـصلاة، نعم لو كان أثر الـتيمّم مجرّد رفع الـمنع من فعل الـغايات لا الـطهارة، لأمكن الـتفكيك بينها، لكنّ الـحقّ خلافه.
و الـحقّ: أنّه بناء على ما ذكرناه من عدم وفاء مثل الـصلاة مع الـترابيـة بجميع ما تشتمل عليه مع الـمائيـة من الـمصلحـة الـلازمـة الـرعايـة، لدلالـة الـكتاب عليه و الـسنّـة، لامحيص من الالتزام بعدم استباحـة سائر الـغايات غير الـمضطرّ إليها، من دون فرق بين ما إذا أراد الإتيان بها حال الاشتغال با لـصلاة كما في الـمثال الـمذكور، و بين ما إذا أراد الإتيان بها بعدها.
و نحن و إن الـتزمنا بإمكان الـجمع بين الأمرين في بعض مقدّمات مبحث الـتيمّم الـمتقدّمـة، إلاّ أنّه إنّما هو على تقدير وجود دليل على الاستباحـة، و إلاّ فنفس عدم تماميـة الـترابيـة و نقصانها دليل على عدم الاستباحـة، فالأحوط لو لم يكن أقوى الـعدم، كما لايخفى.
(الصفحة 289)
بقي الـكلام في بحث مسوّغات الـتيمّم في اُمور تعرّض لبعضها الـماتن دام ظلّه، و لم يتعرّض لأكثرها مع لزومه.
في الـمراد من الـخوف الـمأخوذ في الأدلّـة
فنقول: من الاُمور الـتي لم يقع الـتعرّض لها في الـكتاب أنّه هل الـخوف الـمأخوذ في الأدلّـة هو مطلق الـخوف، أو ما يكون حاصلاً من منشأ مخوف عرفاً؟
فإنّ الـخوف الـوجداني قد يحصل من منشأ مخوف، كا لـخوف الـحاصل في مغازة تكون معرض الـسباع أو اللصوص، و قد يحصل من اعتقاد باطل، كما لو اعتقد كونه في مغازة كذائيـة مع كونه في محلّ أمن، وجهان:
ذكر الـماتن دام ظلّه في «ا لـرسا لـة» أنّ مقتضى الأدلّـة هو الـثاني، و أفاد في توضيحه ما ملخّصه: «أنّ غير دليل الـحرج من الأخبار الـواردة في الـباب ظاهرة فيه أو منصرفـة إليه، ففى روايـة داود الـرقّي قال: قلت لأبي عبدا للّه (عليه السلام): أكون في الـسفر فتحضر الـصلاة و ليس معي ماء، و يقال إنّ الـماء قريب منّا، أفأطلب الـماء و أنا في وقت يميناً و شمالاً؟
قال:
«لاتطلب الـماء، ولكن تيمّم، فإنّي أخاف عليك الـتخلّف عن أصحابك، فتضلّ و يأكلك الـسبع».(1)
وفي رواية يعقوب عنه(عليه السلام) بعد فرض كون الماء عن يمين الطريق ويساره غلوتين.
قال:
«لا آمره أن يغرّر بنفسه، فيعرض له لصّ أو سبع».(2)
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 2، الـحديث 1.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 2، الـحديث 2.
(الصفحة 290)
فإنّ الـظاهر منهما أنّ الـتيمّم إنّما يكون في خصوص الـمحلّ الـمخوف الـذي يكون معرضاً للخطر و الـخوف.
و في صحيحتي ابن أبي نصر و ابن الـسرحان، عن الـرضا و أبي عبدا للّه (عليهما السلام) في الـرجل تصيبه الـجنابـة و به جروح، أو قروح، أو يخاف على نفسه من الـبرد.
قالا:
«لايغتسل و يتيمّم».(1)
و الـظاهر منهما الـخوف من الـبرد الـمحقّق، لامن تخيّله، فكأنّه قيل: إذا كان الـهواء بارداً فخاف على نفسه.
و في روايـة زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) قال: قلت رجل دخل الأجمـة ليس فيها ماء و فيها طين ما يصنع؟
قال:
«يتيمّم، فإنّه الـصعيد».
قلت: فإنّه راكب لايمكنه الـنزول من خوف، و ليس هو على وضوء.
قال:
«إن خاف على نفسه من سبع أو غيره، و خاف فوات الـوقت فليتمّم، يضرب بيده على اللبد أو الـبرذعـة و يتيمّم و يصلّي».(2)
فإنّها أيضاً ظاهرة فيما ذكر، خصوصاً إذا كانت الأجمـة بمعنى محلّ الأسد كما في «ا لـمنجد»، و كذا الـكلام في روايات خوف الـعطش فإنّها أيضاً ظاهرة في أنّ الـمحلّ كان بحيث يخاف فيه من قلّـة الـماء أو من الـعطش.
و كذا في صحيحـة زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال:
«إذا لم يجد الـمسافر الـماء فليطلب مادام في الـوقت، فإذا خاف أن يفوته الـوقت فليتيمّم و ليصلّ في آخر
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 7.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 9، الـحديث 5.
(الصفحة 291)
ا لـوقت ...»(1)
فإنّ الـظاهر منها الـخوف الـحاصل من ضيق الـوقت، كما هو واضح.
و أمّا دليل نفي الـحرج: فقد يمكن أن يقال بصدقه فيما إذا خاف على نفسه من أيّ منشأ كان، فيكون الـتكليف با لـوضوء حرجياً على الـمكلّف مع اعتقاد معرضيـة الـمحلّ للخطر ولو كان اعتقاده خطأً، لكنّه أيضاً مشكل; لأنّ الـظاهر منه عدم جعل الـحرج في الـدين، و غايـة ما يمكن الاستفادة منه أنّ ما يلزم منه الـحرج و الـمشقّـة سواء كان في مقدّماته أو ما يترتّب عليه فهو أيضاً غير مجعول. و أمّا الـحرج الـحاصل من تخيّل باطل أو تخيّل الـحرج، فليس مشمولاً لدليل نفيه; لعدم الـحرج في الـدين و لا من قبله واقعاً، و لا مجال لإلغاء الـخصوصيـة با لـنسبـة إلى ما يلزم من اعتقاد باطل».
أقول: الـظاهر أنّه لافرق بلحاظ دليل نفي الـحرج بين أن يكون الـخوف ناشياً من أمر يقتضيه عادة، أو من مثل الـجبن كما صرّح به غير واحد، لأنّه لافرق في كون الـتكليف لدى الـخوف حرجياً بين الـصورتين، بل كونه كذلك في الـجبان أظهر; لأنّه ربّما يؤدّي ذلك إلى ذهاب عقله لما فيه من ضعف الـقوّة.
و بعبارة اُخرى: بعد كون الـملاك في دليل الـحرج هو الـحرج الـشخصي، و بعد ثبوته في الـمقام ولو كان منشأه مجرّد الـتخيّل و الاعتقاد الـباطل، لا مجال لدعوى عدم جريانه في الـمقام، و بطلان الاعتقاد إنّما هو بحسب الـواقع، لا بلحاظ الـشخص الـمعتقد، ضرورة أنّه لايرى بطلان اعتقاده، و با لـجملـة فا لـحرج في مورد الـتخيّل واقعي و إن كان منشأه لاواقعيـة له.
و أمّا الـروايات: فمضافاً إلى إمكان الـمناقشـة في استفادة ما ذكر من بعضها، نقول: لا دلالـة لها على اختصاص الـحكم بخصوص صورة ثبوت الـمنشأ الـواقعي للخوف،
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 14، الـحديث 3.