(الصفحة 297)
و يؤيّده: موثّقـة الـسكوني، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه (عليهما السلام) قال:
«قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ اللّه عزّوجلّ أهدى إليّ و إلى اُمّتي هديـة، لايهديها إلى أحد من الاُمم كرامـة من اللّه لنا.
فقا لـوا: ما ذاك يا رسول اللّه؟
قال: الإفطار في الـسفر، و الـتقصير في الـصلاة، فمن لم يفعل فقد ردّ على اللّه عزّوجلّ هديته».(1)
فإنّ حرمـة الأمرين دليل على حرمـة ردّ هديـة اللّه تعا لـى.
و تؤيّد الـعزيمـة أيضاً: ما عن تفسير الـعيّاشي، عن عمرو بن مروان الـخزّاز قال: سمعت أباعبدا للّه (عليه السلام) يقول:
«قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): رفعت عن اُمّتي أربع خصال: ما اضطرّوا إليه، و ما نسوا، و ما اكرهوا عليه، و ما لم يطيقوا، و ذلك في كتاب اللّه قوله: (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لاتَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لاتُحَمِّلْنا ما لاطاقَةَ لَنا بِهِ)، و قول اللّه (إِلاّ مَنْ اُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاْيمانِ)».(2)
فإنّ ذكر آيـة الـتقيّـة في سياق حديث الـرفع ـ مع أنّ الـتقيّـة واجبـة، ليس للمكلّف تركها، خصوصاً مع ملاحظـة شأن نزولها ـ دليل على أنّ الـرفع في تمام موارده إنّما هو على نحو الـعزيمـة. مع أنّه من الـمحتمل أن لايكون رفع الـحرج عن الـعباد لصرف الامتنان عليهم، حتّى يقال: إنّه لايلائم الإلزام; بل لأنّه تعا لـى لايرضى بوقوع عباده في الـمشقّـة و الـحرج، كالأب الـشفيق الـذي لايرضى بوقوع ابنه الـمحبوب له
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب صلاة الـمسافر، الـباب 22، الـحديث 11.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الأمر و الـنّهي، الـباب 25، الـحديث 9.
(الصفحة 298)
في الـحرج ولو اختياراً، فيمنعه إشفاقاً عليه.
كما أنّه يحتمل أن يكون رفع الـحرج في عباداته و ما يتعلّق بها; لعدم رضائه بوقوع الـعبيد في الـمشقّـة من ناحيتها، لكونه مظنّـة لانزجارهم عنها، فينتهي إلى إدبار نفوسهم عن عبادة اللّه و دينه، و هو أمر مرغوب عنه.
ففي روايـة عمرو بن جميع، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال:
«قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي، إنّ هذا الـدين متين فأوغل فيه برفق، و لاتبغض إلى نفسك عبادة ربّك، إنّ الـمنبت ـ يعنى الـمفرط ـ لاظهراً أبقى، و لاأرضاً قطع، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً، و احذر حذر من يتخوّف أن يموت غداً».(1)
و بسند معتبر، عن أبى عبدا للّه (عليه السلام) قال:
«لاتكرهوا إلى أنفسكم الـعبادة».(2)
و أمّا ما ورد من بعض الأئمّـة (عليهم السلام) من إيقاع الـمشقّـة على نفوسهم الـشريفـة، فلأنّهم كانوا مأمونين من خطوات الـشيطان و خطراته، و معصومين من الإثم و زلاّته، بل لنفوسهم الـشريفـة مقامات من الـحبّ إلى عبادة اللّه، و الـشوق إلى الـخشوع و الـخضوع لديه، ربّما لايكون ما هو مشقّـة بنظرنا بشاقّ لديهم أصلاً، مع أنّ تحمّل الـمشاق كان في الـمستحبّات الـتي هى خارجـة عن مصبّ دليل الـحرج، و قد تقدّم الـكلام في غسل الإمام (عليه السلام) في الليلـة الـباردة الـشديدة الـريح.
و قد تحصّل ممّا ذكر: أنّ دليل الـحرج لاينهض لإثبات كون الانتقال إلى الـتيمّم على وجه الـرخصـة، بل مقتضى ما ذكر كونه على نحو الـعزيمـة و إن كان على خلافه الـشهرة، هذا كلّه بلحاظ دليل نفي الـحرج.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب مقدّمـة الـعبادات، الـباب 26، الـحديث 7.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب مقدّمـة الـعبادات، الـباب 26، الـحديث 2.
(الصفحة 299)
و أمّا مع ملاحظـة سائر الأدلّـة، ففيما إذا لزم محذور شرعي من الـوضوء أو الـغسل ولو لم يلزم منه حرمتها، يتعيّن الـتيمّم، و تسقط الـطهارة الـمائيـة على نحو الـعزيمـة، و ذلك كما فيما لو كان في الـتوصّل إلى الـماء خوف تلف الـنفس، أو لزم منه ارتكاب محرّم، أو ترك واجب، أو فوت الـوقت.
و أمّا في غيره، فلا تبعد استفادة ذلك من مجموع الـروايات، و هي على طائفتين:
الاُولى: ما وردت فيما إذا كان الـغسل ضررياً، كصحيحـة محمّد بن مسكين و غيره، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال: قيل له: إنّ فلاناً أصابته جنابـة و هو مجدور، فغسّلوه فمات.
فقال:
«قتلوه، ألاّ سأ لـوا، ألاّ يممّوه؟! إنّ شفاء الـعيّ الـسؤال».(1)
و قريب منها مرسلـة ابن أبي عمير.(2)
و روايـة الـجعفري، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال:
«إنّ الـنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر له أنّ رجلاً أصابته جنابـة على جرح كان به، فأمر با لـغسل فاغتسل، فكزّ فمات، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قتلوه قتلهم اللّه، إنّما كان دواء الـعيّ الـسؤال».(3)
و إطلاق هذه الـروايات يقتضي شمولها لما إذا خاف على نفسه الـتلف، أو خاف عليها غيره من طول الـمرض و الـبرء، بل لايبعد خروج صورة خوف الـتلف منها، نظراً إلى أنّ الـعقلاء لايرتكبون شيئاً مع خوف الـتلف، و كذا لايأمرون به، فالاغتسال أو الأمر به دليل على عدم كون الـتلف مورداً للخوف بوجه، و عليه فا للوم و الـمذمّـة دليل
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 1.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 3.
- (3)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 6.
(الصفحة 300)
على كون الـوظيفـة هي خصوص الـتيمّم، أو الأمر به، و إلاّ فمع ثبوت الـرخصـة لا مجال لللوم و الـمذمّـة، كما هو ظاهر.
و مثلها في الـدلالـة أو أدلّ منها صحيحـة ابن أبي نصر، عن الـرضا (عليه السلام) في الـرجل تصيبه الـجنابـة و به قروح، أو جروح، أو يخاف على نفسه من الـبرد.
فقال:
«لا يغتسل و يتيمّم».(1)
و مثلها صحيحـة داود بن الـسرحان، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام).(2)
فإنّ الـخوف على الـنفس من الـبرد إمّا ظاهر في خصوص الـخوف من الـتلف، و إمّا يكون أعمّ منه، فخوف الـتلف هو الـقدر الـمتيقّن، و حينئذ لايمكن حمل الـنهي عن الاغتسال على رفع الـوجوب، بدعوى أنّ الـنهي في مقام توهّم الـوجوب لا دلالـة له على أزيد من نفي الـوجوب غير الـمنافي لجواز الإتيان با لـمنهيّ عنه، ضرورة أنّه مع خوف الـتلف لايمكن الـترخيص، و لا أقلّ من كون الـمقام في نظر الـسائل من قبيل الـدوران بين الـمحذورين، و معه لامجال لرفع الـيد عمّا هو ظاهر الـنهي، فتدلّ الـروايـة على أنّ حكم الـقروح و الـجروح هو بعينه حكم خوف الـتلف; لاتّحاد الـسياق، و الاقتصار على بيان واحد في الـجواب عن الـجميع، فيشترك الـجميع في الـعزيمـة، فتدبّر.
و يبقى في هذه الـطائفـة أمران:
الأوّل: أنّها و إن وردت في الـغسل لكن يستفاد منها حكم الـوضوء بلا إشكال، ضرورة أنّ الأمر با لـتيمّم إنّما هو لخوف الـضرر الـذي هو أعمّ من الـهلاك، و لافرق فيه
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 7.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 8.
(الصفحة 301)
بين الـوضوء و الـغسل، و الـتعرّض لخصوصه فيها إنّما هو لأجل غلبـة الـخوف فيه، كما لايخفى.
ا لـثاني: أنّه ربّما يمكن أن تتوهّم الـمعارضـة بين هذه الـطائفـة، و بين بعض الروايات الـظاهر في الـرخصـة، كصحيحة محمّد بن مسلم قال: سأ لـت أباجعفر (عليه السلام)عن الـرجل يكون به الـقرح و الـجراحـة يجنب.
قال:
«لابأس بأن لايغتسل، يتيمّم».(1)
فإنّ نفي الـبأس عن ترك الـغسل ظاهر في الـجواز و ثبوت الـرخصـة، ولكنّ الـظاهر أنّ مفاد الـجملـة الاُولى إنّما هو الـترخيص; لرفع توهّم عدم جواز الـترك و إن كان به الـقرح و الـجراحـة، و الـجملـة الـثانيـة الآمرة با لـتيمّم ظاهرة في تعيّنه و عدم جواز تركه، مع أنّه كثيراً ما يعبّر بعدم البأس في موارد الـتعيّن أيضاً، كقول أبي جعفر (عليه السلام)في روايـة زرارة:
«إذا كنت في حال لاتجد إلاّ الـطين، فلابأس أن يتيمّم به»،(2)
مع أنّ الـتيمّم با لـطين عند عدم وجدان غيره لازم.
مع أنّ نقل صحيحـة ابن مسلم مختلف، فقد روى الـصدوق بإسناده عنه أنّه سأل أباجعفر (عليه السلام) عن الـرجل يكون به الـقروح و الـجراحات فيجنب.
فقال:
«لا بأس بأن يتيمّم، و لايغتسل».(3)
و لعلّ ظهورها في الـرخصـة ـ على تقديره ـ أقوى من ظهور الـنقل الـمذكور.
و روى الـشيخ (قدس سره) بإسناده عنه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سأ لـته عن الـجنب به
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 5.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 3.
- (3)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 5، الـحديث 11.