(الصفحة 331)
أمّا أوّلاً: فلما عرفت من عدم دلالـة ظاهر الآيـة حينئذ على أنّ الـماسح هو الـكفّ، بل يمكن أن يكون نفس الـصعيد برفع بعضه إلى الـوجه، و هو يشعر بخلاف مطلوبهم، و أن يكون الـمراد مسح الـوجه على الأرض نظير ما صنع عمّار.
و أمّا ثانياً: فلأنّ وجه الأرض لاينحصر با لـتراب و الـحجر حتّى يثبت مطلوبهم، بل كثير من الأراضي يكون لها علوق مع عدم كونها تراباً، كا لـجصّ، و الـنورة، و الـرمل.
ثا لـثها: أن تكون «من» للتأكيد، كقوله تعا لـى:
(ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُل مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)، فيكون الـمعنى: فامسحوا بوجوهكم و أيديكم الـصعيد.
و ما قيل: من أنّ مجيء الـحرف للتأكيد خلاف الـظاهر غير مسلّم، إذا كان سائر الـمعاني خلاف ما وضع له.
نعم، لو ثبت اشتراكها بين الـمعاني الـمذكورة لها، يكون الـتأكيد خلاف الأصل، لكنّه غير معلوم.
رابعها: أن تكون بدليـة مع رجوع الـضمير إلى الـماء. قال: و هذا الاحتمال لايقصر من احتمال كونها تبعيضيّـة.
و هنا احتمالات اُخر بعضها أقرب من الـحمل على الـتبعيض أو مساو له، كأن تكون ابتدائيـة و الـضمير راجعاً إلى الـتيمّم، و أن تكون سببيـة و الـضمير راجعاً إلى الـحدث الـمستفاد من سوق الآيـة، أو يكون مساقها مساق قوله (عليه السلام):
«اغسل ثوبك من أبوال ما لايؤكل لحمه» إلى غير ذلك من الاحتمالات.
أقول: من الـبعيد جدّاً أن تكون الآيـة الـمشتملـة على كلمـة «من» مفيدة لخصوصيـة مغايرة للآيـة الـخا لـيـة عنها، كما أفاده الـمورد، حيث إنّ مقتضى بيانه أنّ الآيـة الـواجدة دالّـة على لزوم أن تكون الآلـة هي الكفّ، و لايجوز رفع الصعيد إلى
(الصفحة 332)
الوجه أو وضع الوجه عليه، و الآيـة الـخا لـيـة دالّـة على جواز أحد الأمرين، خصوصاً مع ملاحظـة ما عرفت من أنّ استشهاد الـنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قصّـة عمّار لم يكن بخصوص الـواجدة، بل بالأعمّ منها، فيظهر منه أنّه لاخصوصيـة لها أصلاً.
و عليه فكلتا الآيتين مشتركتان في لزوم وساطـة الـكفّ و آليّتها، مع أنّه من الـبعيد في نفسه إلغاء هذه الـخصوصيـة الـمهمّـة في الآيـة الـخا لـيـة، خصوصاً بعد اشتراكهما في ورودهما في مقام الـبيان، و خلوّ إحداهما عن الـتعليل لايضرّ بما هو الأساس، و هو بيان الـحكم و الـكيفيـة.
فالإنصاف: أنّ الـتفكيك في غير محلّه. هذا كلّه مع قطع الـنظر عن الـروايـة الـواردة في تفسير الآيـة.
و أمّا مع ملاحظتها ـ و هي صحيحـة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
«قلت له: ألا تخبرني من أين علمت و قلت إنّ الـمسح ببعض الـرأس و بعض الـرجلين». إلى أن قال أبوجعفر (عليه السلام): «ثمّ قال: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) فلما أن وضع الـوضوء عمّن لم يجد الـماء أثبت بعض الـغسل مسحاً، لأنّه قال: «بوجوهكم» ثمّ وصل بها: «و أيديكم منه» أي من ذلك الـتيمّم; لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الـوجه; لأنّه يعلق من ذلك الـصعيد ببعض الـكفّ، و لايعلق ببعضها».(1)
فربّما يقال: إنّه لايبقى إشكال في كون «من» للتبعيض; لأنّ الـمراد من الـتيمّم هو ما يتيمّم به، لبعد الـرجوع إلى ذات الـتيمّم الـمستفاد من قوله:
(فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً)، فيناسب الـتعليل مع كون «من» كذلك، فكأنّه قال: الـتيمّم من بعض الـصعيد لعدم إجراء
- (1)
أورد صدره في وسائل الـشيعـة، في أبواب الـوضوء، الـباب 23، الـحديث 1; و ذيله في أبواب الـتيمّم، الـباب 13، الـحديث 1.
(الصفحة 333)
جميعه على الـوجه، لعلوقه ببعض الـيد لا تمامها، فحينئذ يتمّ الـمطلوب، و هو كون الـمراد من الـصعيد الـتراب.
و اُورد على هذا الـقول ـ مضافاً إلى عدم اختصاص الـعلوق با لـتراب، و غايـة مفاد الـصحيحـة و الآيـة لزوم كون الـتيمّم بما يصلح أن يعلق منه في الـجملـة على الـيد بضربها عليه، كالأمثلـة الـمتقدّمـة ـ بمنع كون الـمراد من الـتيمّم ما يتيمّم به، لوضوح كون عنايـة الإمام (عليه السلام) برجوع الـضمير إلى الـتيمّم، و عدم رجوعه إلى الـصعيد، و إلاّ يصير الـكلام الـمعجز كا للغز; لأنّ عدم رجوعه إلى الـصعيد الـمذكور في الـكلام، و الـرجوع إلى الـتيمّم غير الـمذكور، و إرادة ما يتيمّم به من الـتيمّم، ثمّ إرادة الـصعيد ممّا يتيمّم به أشبه بالأحجّيـة، فلا محيص عن كون الـمراد من الـروايـة هو الـرجوع إلى نفس الـتيمّم.
و لعلّ الـنكتـة فيه إفادة أنّ الـمسح با لـوجه و الأيدي لابدّ و أن يكون من ذلك الـتيمّم الـذي هو كنايـة عن ضرب الأرض، بمعنى عدم الـتأخير، أو تحقّق أمر رافع للارتباط، كغسل الـيدين بعد ضربهما على الأرض.
و أمّا الـتعليل، فا لـظاهر أن يكون لعدم رجوع الـضمير إلى الـصعيد حتّى يتوهّم منه لزوم الـمسح به مع عدم إمكانه، فكأنّه قال: إنّما قلنا من ذلك الـتيمّم، لا من الـصعيد، لعدم إمكان الـمسح منه، لعدم إجرائه على الـوجه; لأنّه يعلق منه ببعض الـكفّ، و لايعلق ببعض.
كما أنّه اُورد عليه في «ا لـمصباح»: بأنّه و إن كان الـظاهر أنّ الـمراد من الـتيمّم ما يتيمّم به، إلاّ أنّ الـمتعيّن ـ مع ذلك ـ أيضاً حمل كلمـة «من» على الابتداء دون الـتبعيض; لأنّ الـمقصود بقوله (عليه السلام):
«أنّ ذلك أجمع ...» إنّما هو بيان حكمـة أنّ اللّه
(الصفحة 334)
تعا لـى أوجب أن يكون الـمسح من الـصعيد، لا به بنفسه، حيث علم أنّه بنفسه لايتعلّق با لـكفّ على وجه يمكن إجرائه با لـكيفيـة الـمعتبرة في الـتيمّم على الـوجه و الـيدين، فأوجب اللّه تعا لـى أن يكون الـمسح ناشياً منه لا به.
و ليس الـمراد بما يعلق ببعض الـكفّ من الـصعيد، الـعلوق الـذي اعتبره الـقائلون به، ضرورة أنّ ذلك الـعلوق ـ بعد تسليم صحّـة إطلاق كونه بعض الـصعيد ـ يعلق غا لـباً بجميع الـكفّ، بل ربّما يعلق بظاهر الـيد أيضاً، فا لـمقصود به على الـظاهر ليس إلاّ أنّ ذلك الـصعيد بنفسه لايعلق حقيقـة إلاّ ببعض الـكفّ، فلايمكن أن يكلّف الـناس بإجرائه على الـوجه و الـيدين با لـنحو الـمعتبر فيهما، و لذا لم يأمرهم بذلك، و إنّما اُوجب عليهم الـمسح منه بنحو من الاعتبار.
أقول: لامجال لإنكار كون الـمراد من الـتيمّم في الـروايـة هو الـتيمّم الـذي معناه الـضرب على الـصعيد، و لا وجه لحمله على كون الـمراد به هو الـصعيد، للزوم الأحجّيـة كما عرفت.
إلاّ أنّ الـتأمّل في الـروايـة و الـخصوصيات الـمذكورة فيها يقضي بأنّ الـمراد منها أنّ كلمـة «منه» متعلّقـة بخصوص أيديكم، و الـمراد منه أنّ مسح الأيدي إنّما هو من الـضرب الـذي مسح الـوجه به، من دون أن يكون هنا تيمّم آخر، أي ضرب آخر، و هذا الـمعنى يناسب مع الـتعليل الـواقع فيها أيضاً; لأنّ مرجعه إلى أنّ الـصعيد لم يتعلّق بجميع الـكفّ حتّى يكون إجرائه على الـوجه مانعاً عن الإجراء على الأيدي، بل إنّما تعلّق ببعضهما، و هو يدلّ على عدم لزوم اشتمال الـكفّ على الـصعيد، فلا وجه للزوم تيمّم آخر، أي ضرب آخر; لأنّ منشأ توهّم اللزوم خلوّ الـكفّ عن الـصعيد، مع أنّه لايلزم اشتما لـها عليه، فا لـصحيحـة تدلّ على رجوع الـضمير إلى الـتيمّم، و عليه
(الصفحة 335)
تكون كلمـة «من» ابتدائيـة، و لا وجه للتبعيض، غايـة الأمر اختصاصها بخصوص الأيدي، كما لايخفى.
ثمّ إنّ الـصحيحـة مع إرجاعها الـضمير إلى الـتيمّم أفاد كون الآلـة في الـمسح هي الـكفّ، و هو يدلّ على أنّ دلالـة الآيـة على لزوم آليّـة الـكفّ لاتتوقّف على ثبوت كلمـة «منه»، بل الآيـة الـخا لـيـة عن هذه الـكلمـة أيضاً تدلّ على ذلك، فمن ذلك يستكشف صحّـة ما ذكرنا من عدم الـفرق في هذه الـجهـة بين الآيتين، و أنّ لزوم وساطـة الـكفّ لايتوقّف على ثبوت هذه الـكلمـة، كما أصرّ عليه الـماتن دام ظلّه في «ا لـرسا لـة» فتدبّر.
و قد انقدح من جميع ما ذكرنا: عدم دلالـة الـكتاب على اعتبار خصوص الـتراب لو لم نقل بدلالته على الـعدم، بلحاظ مادّة كلمـة «ا لـصعيد» على ما عرفت.
و أمّا الـسنّـة: ففيها طوائف من الـروايات الـمشتملـة على الـصحيحـة و الـموثّقة، تدلّ على أنّ الـمراد با لصعيد ما عليه الـمشهور من كونه مطلق وجه الأرض:
الاُولى: الـنبوي الـمعروف:
«جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً»(1)
و هي روايـة مشهورة مستفيضـة، بل متواترة، و قد نسبها الـصدوق إلى الـنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على سبيل الـجزم، و قد رواها الـكليني، و «محاسن» الـبرقي، و الـصدوق في «ا لـفقيه»، و في «ا لـخصال» بسندين، و جماعـة كثيرة اُخرى.
نعم، عن «ا لـعلل» روايتها بذكر «و ترابها طهوراً» مسندة إلى جابر بن عبدا للّه، عن الـنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسند جلّ رواتها من الـعامّـة، فلاينبغي الـتعويل عليها.
و عن الـمرتضى أنّه استدلّ لكون الـمراد با لـصعيد هو الـتراب بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمم، الـباب 7، الـحديث 2.