(الصفحة 370)
أحدهما: أنّ مقتضى الأدلّـة هل هو جواز الـتيمّم به في حال الاختيار، أو أنّه مصداق اضطراري لما يصحّ الـتيمّم به؟
ثانيهما: أنّ مقتضاها هل هو تقدّمه على الـغبار، أو تأخّره عنه، أو وقوعهما في رتبـة واحدة من دون أن يكون هناك رجحان و تقدّم؟
أمّا الأمر الأوّل فنقول: مقتضى الـكتاب و الـسنّـة الآمرين با لـتيمّم با لـصعيد و الأرض جواز الـتيمّم بما يصدق عليه عنوانهما، و لاريب في أنّ الـطين إذا كان غليظاً غير رقيق يصدق عليه الأرض و إن لم يصدق عليه الـتراب، و مجرّد خروجه عن صدق الـتراب لايوجب الـخروج عن صدق الأرض، ضرورة أنّ اللبنـة قبل جفافها و بعده أرض و ليست بتراب مطلقاً حتّى بعد الـجفاف.
و يشهد لما ذكرنا من صدق الأرض على الـطين موثّقـة عمّار، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام)قال: سأ لـته عن حدّ الـطين الـذي لايسجد عليه ما هو؟
فقال:
«إذا غرقت الـجبهـة و لم تثبت على الأرض».(1)
فإنّ ظاهرها جواز الـسجدة على الـطين الـغليظ الـمتماسك بحيث تستقرّ الـجبهـة عليه و لم تغرق للأرضيـة و الاستقرار، و أنّ الـمانع من الـسجدة على غيره من أفراد الـطين هو عدم الاستقرار، لا عدم الـمقتضي و هي الأرضيـة، كما لايخفى.
و أظهر منها روايـة زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: قلت: رجل دخل الأجمّـة ليس فيها ماء، و فيها طين ما يصنع؟
قال:
«يتيمّم فإنّه الـصعيد».(2)
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب مكان الـمصلّي، الـباب 9، الـحديث 9.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 9، الـحديث 5.
(الصفحة 371)
نعم، ربّما يشعر قوله (عليه السلام) في مرسلـة علي بن مطر الـمتقدّمـة:
«صعيد طيّب و ماء طهور»(1)
بخلاف ما ذكر، بناء على كون الـمراد تركّب الـطين من الـصعيد و الـماء لدلالتها على عدم كونه صعيداً محضاً، ولكن قد عرفت أنّ حمل الـروايـة على هذا الـمعنى غير صحيح; لأنّ الـتركّب لايوجب جواز الـتيمّم كما لايخفى، فلابدّ من الـحمل على أنّ الـطهور أحد الأمرين على سبيل منع الـخلوّ، و أنّ الـطين هو الـصعيد لعدم كونه ماء، و لايكون خارجاً عن عنوان الـصعيد، فتدبّر.
و با لـجملـة: لاخفاء في صدق الأرض على بعض مراتب الـطين، فيجوز الـتيمّم به اختياراً لظاهر الـكتاب و الـسنّـة، فلابدّ من قيام دليل على عدم الـجواز في حال الاختيار لو قيل به، و كونه مصداقاً اضطرارياً، نعم بعض مراتبه الاُخر يكون خارجاً عن صدق الأرض عليه، أو يشكّ فيه، فلابدّ من قيام دليل خاصّ على الـجواز به لو قيل به.
و أمّا الأمر الـثاني: فقد استدلّ على ما في الـمتن من تأخّر الـطين عن الـغبار بروايات، مثل موثّقـة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) الـمتقدّمـة في الـغبار قال:
«إن كان أصابه الـثلج فلينظر لبد سرجه فليتيمّم من غباره أو من شيء معه، (مغبر ظاهراً)، و إن كان في حال لايجد إلاّ الـطين فلا بأس أن يتيمّم منه».(2)
و قريب منها صحيحـة رفاعـة الـمتقدّمـة أيضاً، نظراً إلى ظهورهما في أنّ جواز الـتيمّم با لـطين مشروط بكون الـمكلّف في حال لايجد إلاّ الـطين، فمقتضاهما تأخّر رتبته عن رتبـة الـغبار الـتي دلّت الـموثّقـة و الـصحيحـة على جواز الـتيمّم به أوّلاً.
و فيه ـ مضافاً إلى أنّ الـغبار كما عرفت مصداق اضطراري، و الـطين كما مرّ من
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 9، الـحديث 6.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 9، الـحديث 2.
(الصفحة 372)
مصاديق الأرض حقيقـة، و كيف يمكن تأخّر الـمصداق الاختياري عن الـفرد الاضطراري، و إلى أنّ الـظاهر من الـروايـة بلحاظ تقابل الـشرطيتين عدم كون الـشرطيـة الـثانيـة في مورد إصابـة الـثلج و عدم إمكان الـتيمّم با لـغبار، بل مورد الإصابـة غير مورد عدم وجدان غير الـطين، فتدبّر ـ أ نّه لابدّ من ملاحظـة ما اُريد من قوله:
«إن كان أصابه الـثلج» بعد وضوح عدم كون الـمراد معناه الـحقيقي، و عدم جواز الأخذ بإطلاقه، و أ نّه هل الـمراد منه فقدان الأرض غير الـطين، أو أنّ الـمراد منه عدم إمكان الـتيمّم بالأرض ولو كان طيناً بعد فرض كونه مصداقاً اختيارياً؟
فعلى الأوّل: يتمّ الاستدلال.
و على الـثاني: لايتمّ.
ولكن لايمكن الالتزام بالأوّل، لأ نّه لو كان الـمراد به هو فقدان الأرض غير الـطين لكان ذكر المطر مكان الثلج أولى، لعدم نزول الثلج نوعاً في تلك الآفاق أوّلاً، و أسرعية الـمطر في تطيين الأرض ثانياً، فذكر الثلج دليل على مدخليته في الـحكم، وأنّ الـمراد هو صيرورة الـثلج حاجباً بحيث لايمكن الـتيمّم بالأرض مطلقاً ولو على طينه، و عليه فتدلّ الـروايـة على تقدّم الـطين على الـغبار، غايـة الأمر أنّ الـتصريح بجواز الـتيمّم به في الذيل إنّما هو للتنبيه على كونه من مصاديق الـصعيد، كما أنّ تعليق الـجواز على حال عدم وجدان غيره من الأرض الـجافّة ليس لإفادة تقدّمها على الطين، لأنّ البأس الـمستفاد من الـمفهوم لايكون بمعنى الـممنوعيـة، بل الـمراد به الـتنزيه وا لـكراهـة.
و تدلّ على تقدّم الـطين على الـغبار روايـة زرارة الـواردة في الـداخل في الأجمـة الـمتقدّمـة في الأمر الأوّل، و في ذيلها: قلت: فإنّه راكب لايمكنه الـنزول من خوف، و ليس هو على وضوء.
(الصفحة 373)
قال:
«إذا خاف على نفسه من سبع أو غيره، و خاف فوات الـوقت فليتيمّم، يضرب بيده على اللبد و الـبرزعـة و يتيمّم و يصلّي».
فإنّ صدرها بلحاظ الـتعليل بقوله (عليه السلام)
«فإنّه الـصعيد» دليل على أنّه من الـمصاديق الاختياريـة، و ذيلها بلحاظ الـظهور في عدم إمكان الـتيمّم على الـطين له أيضاً ظاهر في تأخّر الـتيمّم با لـغبار عن الـتيمّم با لـطين، كما لايخفى.
و أمّا صحيحـة أبي بصير، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) الـمتقدّمـة في الـغبار قال:
«إذا كنت في حال لاتقدر إلاّ على الـطين فتيمّم به، فإنّ اللّه أولى با لـعذر إذا لم يكن معك ثوب جاف، أو لبد تقدر أن تنفضه و تتيمّم به».
فمع قطع الـنظر عن سائر الـروايات ظاهرة في أنّ الـطين فرد اضطراري عذري متأخّر عن الأفراد الاختياريـة، و عن غبار الـثوب أو اللبد الـذي هو فرد اضطراري أيـضاً.
لكنّ الـتصرّف فيها با لـحمل على خلاف الـظاهر، و أنّ الـمراد من الـقدرة على الـنفض هي الـقدرة عليه بحيث يحصل به مقدار من الـتراب، و يتحقّق الـمصداق الاختياري، خصوصاً مع ظهورها في عدم كون صورة الـنفض عذريـة، و أنّ الـتيمّم با لـطين يكون كذلك أهون من الـتصرّف في سائر الـروايات، نعم مدلولها حينئذ تقدّم الـتراب على الـطين، و لعلّه كان لأجل ما ذكر سابقاً.
هذا كلّه إذا اُريد با لـطين في جميع الـروايات معنى واحد، ولكن يمكن الـجمع بينها بوجه آخر، و هو حمل مادلّ على جوازه اختياراً، خصوصاً ما اشتمل على الـتعليل بأنّه الـصعيد على الـطين الـذي يكون من مصاديقه حقيقـة، و حمل صحيحـة أبي بصير على الـوحل الـذي يكون مصداقاً عذرياً بقرينـة الـتعليل بقوله:
«فإنّ اللّه أولى
(الصفحة 374)
با لـعذر» و بقرينـة جعله متأخّراً عن الـغبار الـذي هو مصداق اضطراري و ظاهر الـصحيحـة.
و بعبارة اُخرى: أنّ إطلاق صدرها و إن كان يشمل مطلق الـطين إلاّ أنّ الـتعليل يمنع عن إطلاقه، خصوصاً مع ضميمـة الـحكم بتأخّره عن الـغبار.
و عليه فا لـمراد با لـطين هو ما يصدق عليه عنوان الأرض، و با لـوحل مالايصدق عليه هذا الـعنوان، و لعلّ تعبير الـفقهاء با لـوحل مع تطابق الـنصوص على الـتعبير با لـطين إنّما هو لأجل ذلك من تغايرهما معنىً، خصوصاً مع ملاحظـة اللغـة و تفسير أئمّتها، فإنّه يظهر منهم اختصاص الـوحل با لـطين الـرقيق، بل لايكفي مجرّد الـرقّـة، فإنّ الـلازم كونه بحيث يمكن أن يفرق فيه الإنسان أو الـدابّـة، و من الـمعلوم أنّ الـطين بهذه الـكيفيـة لا يصدق عليه عنوان الأرض، فمقتضى الـتأمّل في الـروايات، و في معنى الـكلمتين أنّ الـطين إذا كان غليظاً متماسكاً بحيث يصدق عليه عنوان الأرض يصحّ الـتيمّم به اختياراً، و لا وجه لدعوى تأخّره عن الـغبار الـذي هو فرد اضطراري و إن سلّمنا تأخّره عن الـتراب، و لايمكن دعوى الإجماع أو الـشهرة على خلافه بعد ما عرفت من تعبير الأصحاب بالوحل ومغايرته للطين من حيث المعنى، وتفسير المتأخّرين الـشارحين للمتون الـوحل با لـطين إنّما هو مبني على الـمسامحـة، أو اجتهاد أنفسهم، أو تخيّل كونه هو الـمراد با لـطين الـمذكور في الـروايات، و إلاّ فا لـوحل هو الـطين الـرقيق، و قد حكاه في «مفتاح الـكرامـة» عن نصّ جماعـة من الأصحاب.
و قد انقدح ممّا ذكرنا: أنّ الـمراد با لـوحل في عبارة الـمتن ليس مطلق الـطين، و إلاّ لايكون وجه لتأخّره عن الـغبار، كما أنّه ظهر أنّه مع إمكان تجفيف الـوحل ولو بمقدار يصدق عليه عنوان الأرض يجب ذلك; لأنّ ذلك يوجب تحقّق الـفرد الاختياري،