(الصفحة 439)
و با لـجملـة: الـمتفاهم منه وضع الـتراب موضع الـماء من غير تغيير و تبديل في الـكيفيـة، و أنّ الـتبديل إنّما هو فيما يتطهّر به فقط، و حينئذ نقول مع تعقّب ذلك بقوله:
(فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ) منه يستفاد منه سقوط الـمسح على الـرجل و الـرأس، و عدم كونه إلى الـمرفق و لا على جميع الـوجه لمكان الـباء.
و أمّا سائر ما يعتبر فيه من الـشرائط و الـموانع فبقيت على حا لـها، كا لـبدئـة با لـوجه، و با لـيمنى، و طهارة الـمحالّ، و سائر الـشرائط.
أقول: بعد عدم دلالـة الآيـة على اعتبار الـترتيب في الـوضوء، و استفادة اعتباره من غيرها، كيف يمكن استفادته في الـتيمّم من آيته؟! إلاّ أن يقال إنّه لا منافاة بين عدم دلالـة الآيـة على اعتباره في الـوضوء، و دلالـة آيـة الـتيمّم على اعتبار كلّ ما يعتبر في الـوضوء في الـتيمّم و لو استفيد اعتباره من دليل خارج، نظراً إلى أنّ مفادها قيام الـصعيد مقام الـماء، و ثبوت الاختلاف في خصوص ما تدلّ عليه، و ليس من موارده الـترتيب.
و أمّا الـروايات: فلا إشكال في دلالتها على تقدّم مسح الـوجه على مسح الـكفّين، و لأجلها يقيّد إطلاق الـكتاب و بعض الـروايات، إنّما الإشكال في استفادة الـترتيب بين الـكفّين منها، و ربّما يستدلّ لها بموثّقـة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
«أتى عمّار بن ياسر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول اللّه، إنّي أجنبت الليلـة فلم يكن معي ماء.
قال: كيف صنعت؟
قال: طرحت ثيابي و قمت على الـصعيد فتمعّكت فيه.
فقال: هكذا يصنع الـحمار، إنّما قال اللّه عزّوجلّ: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً). فضرب
(الصفحة 440)
بيديه على الأرض، ثمّ ضرب إحداهما على الاُخرى، ثمّ مسح بجبينه، ثمّ مسح كفّيه كلّ واحدة على ظهر الاُخرى، فمسح اليسرى على الـيمنى، وا لـيمنى على اليسرى»(1)
.
نظراً إلى أنّ حكايـة أبي جعفر (عليه السلام) قصّـة عمار لم تكن لمجرّد بيان الـقصّـة و حكايـة أمر تأريخي، بل كانت لمجرّد بيان الـحكم الـشرعي الإلهي، و عليه فلا مجال لأن يقال بعدم الـدلالـة على الـوجوب، لأنّ مجرّد وقوع الـترتيب بين الأفعال لا يدلّ على وجوبه، لأنّه من ضروريات الأفعال الـتي لا يمكن الـجمع بينها، فإنّ الـظاهر أنّ مثل هذه الـحكايـة لا يقصر عن الـبيان الابتدائي.
و حينئذ نقول: إنّه لو لم يكن الـترتيب بين الـكفّين معتبراً لاقتصر على قوله (عليه السلام):
«فمسح كفّيه كلّ واحدة على ظهر الاُخرى» لكفايته في مقام بيان الـحكم، فلابدّ أن يكون لقوله (عليه السلام) بعد ذلك:
«فمسح الـيسرى على الـيمنى ...» نكتـة، و لابدّ و أن تكون هي مسأ لـة الـترتيب، لعدم تصوّر نكتـة اُخرى غيرها، إلاّ أن يقال: إنّ الإتيان بكلمتي «ثمّ»، أو «ا لـفاء» في غير الـيدين، و الـعطف با لـواو في خصوصهما، ينفى كون الـنظر إلى الـترتيب، لأنّه مع إرادته لكان الـلازم الـعطف بإحداهما، كما لايخفى.
و الإنصاف: أنّ الـروايـة لا تخلو عن إشعار بل دلالـة على اعتبار الـترتيب بين الـيدين.
و يؤيّده ما عن «ا لـعيّاشي»، عن زرارة قال: سأ لـت أباجعفر (عليه السلام) عن الـتيمّم. فقال:
«إن ّ عمّاراً ...» ثمّ ساقها باختلاف يسير مع الـموثّقـة، و قال في ذيلها:
«ثمّ دلك إحدى يديه بالاُخرى على ظهر الـكفّ بدأ با لـيمنى»(2)
.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 11، الـحديث 9.
- (2)
مستدرك الـوسائل، أبواب الـتيمّم، الـباب 11، الـحديث 3.
(الصفحة 441)
في اعتبار الـموالاة في الـتيمّم
رابعها: الـموالاة، و قد حكي الإجماع على اعتبارها في الـتيمّم عن «ا لـغنيـة» و «جامع الـمقاصد» و «ا لـروض» و «مجمع الـبرهان» و ظاهر «ا لـمنتهى» و «ا لـذكرى» و «ا لـمدارك» و الـسيرة الـمستمرّة من الـمتشرّعـة جاريـة عليها من دون فرق بين ما كان للحدث الأصغر، و بين ما كان للحدث الأكبر، لكن عن الـشهيد (قدس سره) في «ا لـدروس» هو الـتفصيل و عدم اعتبار الـموالاة في الـثاني كما في الـغسل.
و يدلّ على اعتبارها مطلقاً ـ مضافاً إلى ما ذكر ـ الآيـة الـشريفـة بلحاظ الـتعبير فيها با لـفاء فى قوله:
(فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ) منه بعد تحقّق الـضرب أو الـوضع; لأنّ الـفاء ـ على ما هو الـمعروف ـ إنّما هي للترتيب باتّصال، ولكن ربّما يتأمّل في دلالـة الـفاء عليه، و أنّ غايـة مدلولها هو الـترتّب و الـتعقّب و هو غير كاف، فدلالـة الآيـة من هذه الـجهـة غير تامّـة.
و أمّا من جهـة اشتما لـها على الـتعبير بكلمـة «منه»، فقد ذكر الـعلاّمـة الـماتن ـ دام ظلّه الـعا لـي ـ أنّ الأولى الاستدلال بها من هذه الـجهـة; لأنّ «من» على ما تقدّم ابتدائيـة لا تبعيضيته، و الـمعنى: فامسحوا بوجوهكم و أيديكم مبتدء من الـصعيد و منتهياً إلى الـوجوه و الأيدي، و الـتمسّح من الـصعيد بهذا الـمعنى لا يصدق عرفاً إلاّ مع حفظ الـعلاقـة بين الـضرب على الأرض و الـمسح منها على الـوجه و الـيدين، ألا ترى أنّه لو قيل لمريض: «تمسّح من الـضرائح الـمقدّسـة تبرّكاً» لا ينقدح في ذهن الـعقلاء منه إلاّ مع حفظ الـعلقـة بين الـمسح عليها و الـمسح على موضوع الـعلّـة، فلو مسحها بيده ثمّ انصرف و ذهب إلى حوائجه، ثمّ مسح يده على الـموضع بعد سلب
(الصفحة 442)
ا لـعلاقـة الـعرفيـة لم يعمل بقوله: «تمسّح منها»، لأنّه لا يكون إلاّ بعلاقـة خاصّـة مقطوعـة با لـفصل الـمعتدّ به، كما ربّما تقطع بغيره، كما لو ضرب يده على الأرض فغسلها، فإنّ الـظاهر سلب الـعلاقـة و عدم صدق الـتمسّح منها، لا لاعتبار الـعلوق بل لاعتبار الـعلاقـة الـخاصّـة الـعرفيـة.
ثمّ دفع توهّم أنّ الابتدائية لاتدلّ إلاّ على مجرّد كون ضرب الـيد مبتدء من الأرض و منتهياً إلى الـوجه، و أمّا اعتبار الـعلقـة فلا، ألا ترى أنّ الـمسافر إذا سافر من بلده إلى مكّـة الـمعظّمـة مع اشتغا لـه بين الـطريق بأمور كثيرة، بل مع تعطّله عن الـسير في بعض الـبلاد الـتي بين الـطريق، يقال: سافر من بلده إلى مكّـة، من غير لزوم الـعلاقـة.
بما ملخّصه: أنّه مع أنّ الـقياس لعلّه مع الـفارق، كما يظهر من الـتأمّل في مثل تمسّح من الـتربـة، أو من الـضرائح الـمقدّسـة و الأشباه و الـنظائر أنّ مورد الـنقض أيضاً حا لـه مثل الـمقام، لأنّه لو فرض الـتعطّل عنه بين الـطريق بمقدار انقطعت الـعلقـة بين قطعات سفره عرفاً، يخرج من الـصدق الـمذكور، كما لو سافر من بلده إلى الـحجّ، فأقام في الـنجف الأشرف مدّة لتحصيل الـعلم أو غيره، بحيث سلبت الـعلاقـة بين قطعات سفره، فإنّه يخرج عن الـصدق الـمذكور، فا لـملاك هو وجود الـعلاقـة، غايـة الأمر اختلاف الـمقامات و تفاوت الـموارد.
و ممّا ذكر يظهر: صحّـة الـتمسّك ببعض الأخبار الـذي عبّر فيه بكلمـة «من»، مثل صحيحـة الـحلبي قال: سمعت أباعبدا للّه (عليه السلام) يقول:
«إذا لم يجد الـرجل طهوراً و كان جنباً فليتمسّح من الأرض ...»(1)
و صحيحـة ابن سنان(2)
الـتي هي نظيرها.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 14، الـحديث 4.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 14، الـحديث 7.
(الصفحة 443)
و ما ذكر هو الـدليل على اعتبار الـموالاة في الـتيمّم، لا أدلّـة الـبدليـة و لا الـنصوص الـبيانيـة فعلاً أو قولاً كما عن «ا لـذكرى»، و لا ما أفاده صاحب «ا لـمدارك» من أنّه لو قلنا باختصاص الـتيمّم بآخر الـوقت با لـمعنى الـذي ذكروه، كانت الـموالاة من لوازم صحّته لتقع الـصلاة في الـوقت، لعدم تماميـة شيء من هذه الـوجوه كما يظهر با لـتدبّر فيها.
ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا أمران:
أحدهما: أنّه لا فرق في اعتبار الـموالاة في الـتيمّم بين ما يكون بدلاً عن الـوضوء، و ما يكون بدلاً عن الـغسل، خلافاً لما عرفت من محكيّ «ا لـدروس»; لجريان الـدليل في كلا الـمقامين، بل الـروايتان واردتان في الـجنب، فا لـتفصيل غير صحيح، بل مقتضى بعض الـروايات مساواتهما، كموثّقـة عمّار عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال: سأ لـته عن الـتيمّم من الـوضوء و الـجنابـة و من الـحيض للنساء سواء
فقال:
«نعم»(1)
.
و الـحمل على صرف الـكيفيـة دون سائر ما يعتبر فيهما فاسد، بعد اقتضاء الإطلاق الـسوائيـة من جميع الـجهات، كما لا يخفى.
ثانيهما: أنّ معنى الـموالاة الـمعتبرة يرجع إلى ما اُفيد في الـمتن من عدم الـفصل الـمنافي لهيأته و صورته، و بعبارة اُخرى عدم سلب الـعلاقـة و الـعرفيـة الـمذكورة، و تفسيرها با لـمعنى الـمعتبر في الـوضوء الـراجع إلى الـتقدير بمقدار الـجفاف لا دليل عليه، خصوصاً بعد عدم اختصاص اعتبارها بخصوص ما يكون بدلاً عن الـوضوء، لما عرفت من اعتبارها في مطلق الـتيمّم.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 9، الـحديث 1.