(الصفحة 522)
الأمر با لـغسل إرشاد إلى الـنجاسـة، و إلى حصول الـطهارة با لـغسل، و مقتضى الإطلاق كفايـة الـغسل مرّة واحدة.
نعم، تمكن الـمناقشـة في بعضها; من جهـة عدم وضوح كونها في مقام الـبيان من هذه الـجهـة، و هو شرط الـتمسّك بالإطلاق. ولكنّ الـظاهر عدم جريان الـمناقشـة في الـجميع.
إنّما الإشكال في نجاسـة لا يكون لدليل الـتطهير منها إطلاق، أو لم يكن في الأدلّـة تعرّض للتطهير منها، بل كان الـتعرّض فيها لمجرّد نجاستها، أو كان دليل نجاستها منحصراً في الإجماع، فإنّه هل يكتفى في أمثال ذلك با لـغسل مرّة واحدة، أو لابدّ فيها من الـتعدّد، كما في الـبول على ما عرفت.
و قد استدلّ على الأوّل بوجوه:
الأوّل: الإجماع الـمركّب، و عدم الـقول با لـفصل بين الـنجاسات في غير بول الآدمي، كما ادّعاه في «ا لـذخيرة» و في محكيّ «ا لـجواهر»: و يساعده الـتتبّع.
ولكن يرد عليه ـ مضافاً إلى منع الـصغرى; لذهاب جماعـة من متأخّري الـمتأخّرين إلى اعتبار الـتعدّد فيما لم يقم دليل على كفايـة الـمرّة فيه ـ منع الـكبرى; لوضوح عدم كونه إجماعاً تعبّدياً كاشفاً عن رأي الـمعصوم، بعد احتمال الاستناد إلى أحد الـوجوه الآتيـة، كما لا يخفى.
ا لـثاني: إطلاق ما دلّ على مطهّريـة الـماء، و الـعمدة فيه الـنبوىّ الـذي رواه الـمؤا لـف و الـمخا لـف كما عن «ا لـسرائر»:
«خلق اللّه الـماء طهوراً لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه»(1)
.
- (1)
مستدرك الـوسائل، أبواب الـماء الـمطلق، الـباب 3، الـحديث 10.
(الصفحة 523)
نظراً إلى إطلاقه بلحاظ الـمطهّر ـ با لـفتح ـ و احتمال عدم وروده في مقام الـبيان، مندفع بالأصل.
و يرد عليه: أنّ الـظاهر كما ذكرنا في أوّل بحث الـمياه، أنّ «ا لـطهور» بمعنى الـطاهر، و ليس فيه معنى الـمطهّريـة أصلاً، حتّى يتمسّك بإطلاقه بلحاظ الـمطهّر ـ با لـفتح ـ و كونه صيغـة مبا لـغـة لا تستلزم اشتما لـه على الـمطهّريـة أيضاً.
و يؤيّده في الـمقام قوله:
«لا ينجّسه شيء ...» الـظاهر في أنّ الـمراد شدّة مرتبـة الـطهارة الـحاصلـة له، و الـتفصيل مذكور هناك.
و على تقدير دلالتها على ثبوت الـمطهّريـة، فلا يستفاد منها كيفيـة الـتطهير; و أنّه هل يتحقّق با لـمرّة، أو يتوقّف على الـتعدّد؟ و هذا لاينافي إطلاقه بلحاظ الـمطهّر ـ با لـفتح ـ فتدبّر.
كلّ ذلك مع إمكان الـمناقشـة في سندها; حيث لم تثبت روايتها من طرقنا، فضلاً عن أن يكون نقلها متسا لـماً عليه بين الـمؤا لـف و الـمخا لـف. هذا مع أنّ في دلالتها جهات اُخر قابلـة للتأمّل.
ا لـثا لـث: إطلاقات الأخبار:
منها: صحيحـة زرارة الـمعروفـة الـواردة في الاستصحاب قال: قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من منيّ ... .
إلى أن قال:
«تعيد الـصلاة و تغسله ...»(1)
.
نظراً إلى أنّ الـظاهر أنّ الـسؤال فيها إنّما هو عن مطلق الـنجاسـة، لا عن الـدم و الـمنىّ فقط، فإنّ قوله: «أو غيره» و إن كان يحتمل في نفسه أن يراد به غير الـدم من
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 41، الـحديث 1.
(الصفحة 524)
ا لـنجاسات، ليكون ذكر الـمنيّ بعد ذلك من قبيل ذكر الـخاصّ بعد الـعامّ، كما يحتمل أن يراد به دم غير الرعاف، إلاّ أنّ المستفاد من جملات السؤال و الجواب الـواردة في الصحيحة، أنّ السؤال إنّما هو عن طبيعي الـنجاسة، ولا سيّما قوله:
«و لاتعيد الصلاة».
قلت: لم ذلك.
قال:
«لأنّك كنت على يقين من طهارتك».
و يرد على الاستدلال بها: أنّ الـسؤال و إن كان إنّما هو عن طبيعي الـنجاسـة، من دون مدخليـة للدّم و الـمنيّ في محطّه أصلاً، إلاّ أنّ الـظاهر عدم جواز الاستدلال بإطلاق وجوب الـغسل للاكتفاء با لـمرّة; لكون الـظاهر من الـصحيحـة أنّ كيفيـة الـتطهير كانت معلومـة عند الـسائل، و إنّما الـسؤال من جهـة نسيانه أو غيرها من الـجهات الاُخر، و ليس في الـروايـة إشعار بعدم معلوميـة كيفيـة الـتطهير لدى الـسائل، لو لم نقل بدلالتها على الـمعلوميـة، و حينئذ كيف يجوز الـتمسّك بالإطلاق مع عدم كونه في مقام الـبيان من هذه الـجهـة أصلاً؟!
و منها: موثّقـة عمّار، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) أنّه سئل عن رجل ليس عليه إلاّ ثوب، و لاتحلّ الـصلاة فيه، و ليس يجد ماءً يغسله، كيف يصنع؟
قال:
«يتيمّم و يصلّي، فإذا أصاب ماءً غسله و أعاد الـصّلاة»(1)
.
فإنّ قوله: «و ليس يجد ماء يغسله» قرينـة على أنّ الـمراد من عدم حلّيـة الـصلاة فيه، هو عدم الـحلّيـة الـمستند إلى الـنجاسـة، لا إلى كونه من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، و عليه فإطلاق قوله (عليه السلام) في الـجواب:
«غسله» ظاهر في الاكتفاء بمجرّد الـغسل الـمتحقّق با لـمرّة الـواحدة.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 45، الـحديث 8.
(الصفحة 525)
و يرد على الاستدلال بها: ما عرفت من وضوح عدم كون الـروايـة واردة في مقام الـبيان من هذه الـجهـة، و أنّ كيفيـة الـتطهير كانت معلومـة عند الـسائل، فكيف تصحّ دعوى الإطلاق مع ذلك؟!
و منها: مرسلـة محمّد بن إسماعيل بن بَزيع، عن أبي ا لـحسن (عليه السلام) في طين الـمطر:
«أنّه لا بأس به أن يصيب الـثوب ثلاثـة أيّام، إلاّ أن يعلم أنّه قد نجّسه شيء بعد الـمطر، فإن أصابه بعد ثلاثـة أيّام فاغسله، و إن كان الـطريق نظيفاً لم تغسله»(1)
.
و يرد على الاستدلال بها ـ مضافاً إلى ضعف سندها بالإرسال ـ أنّه لم يعلم وجه الـتفصيل بين ثلاثـة أيّام و غيرها، فإنّه إن كان الـطريق نجساً غير نظيف، لا فرق بين الـثلاثـة و ما بعدها، كما هو ظاهر الـروايـة، و إن كان نظيفاً فلا فرق بينهما أيضاً، فما وجه الـتفصيل؟!
إلاّ أن يقال: بأنّ الـفرق إنّما هو في صورة الـشكّ; نظراً إلى أنّه في هذه الـصورة لا يجب الـغسل في الـثلاثـة، و يجب فيما بعدها. و الـوجه في الـفرق غلبـة الـتنجيس بعد مضيّ الـثلاثـة نوعاً.
و مع ذلك لا مجال للاستدلال بإطلاق وجوب الـغسل; لكون الـروايـة في مقام بيان الـتفصيل، لا في مقام بيان كيفيـة الـتطهير كما هو ظاهر.
و منها: موثّقـة اُخرى لعمّار، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام): في رجل قصّ أظفاره با لـحديد، أو جزّ من شعره، أو حلق قفاه:
«فإنّ عليه أن يمسحه با لـماء قبل أن يصلّي».
سئل: فإن صلّى و لم يمسح من ذلك با لـماء.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 75، الـحديث 1.
(الصفحة 526)
قال:
«يعيد الـصلاة; لأنّ الـحديد نجس».
و قال:
«لأنّ الـحديد لباس أمل الـنار، و الـذهب لباس أهل الـجنّـة»(1)
.
نظراً إلى أنّ حكمه بكفايـة الـمسح با لـماء، معلّلاً
بـ «أنّ الـحديد نجس» يعطي أنّ طبيعـة الـنجس تنجّس ملاقياتها با لـرطوبـة، و تزول نجاستها بمجرّد أن أصابها الـماء، و هو معنى كفايـة الـغسل مرّة واحدة.
نعم، تطبيق ذلك على الـحديد لا يخلو من عنايـة; لوضوح عدم كون الـحديد نجساً، و لا أنّه منجّس لما يلاقيه، إلاّ أنّه أمر آخر. و قال الـشيخ (قدس سره): و هذا محمول على الاستحباب دون الإيجاب; لأنّه شاذّ مخا لـف للأخبار الـكثيرة.
و يرد على الاستدلال بها: أنّه مع قطع الـنظر عن ورود الـروايـة في الـحديد، و هو لا يكون نجساً كما عرفت، أنّ غايـة مفادها أنّ كلّ نجاسـة يجب غسلها لأجل الـصلاة، و إذا لم تغسل يوجب ذلك بطلان الـصلاة و لزوم الإعادة، و أمّا أنّ كلّ نجس يكفي في تطهيره الـغسل ـ فضلاً عن الـمسح ـ فلا دلالـة للروايـة عليه بوجه، فكيف يستفاد منها إطلاق وجوب الـغسل مع كلّ نجاسـة كما لا يخفى؟!
و قد انقدح ممّا ذكرنا، عدم تماميـة شيء من الـوجوه الـثلاثـة، و عدم نهوضه لإثبات الاكتفاء با لـغسل مرّة في مطلق الـنجاسات بمعناها الأعمّ من الـمتنجّسات.
و أمّا ما استدلّ به على لزوم الـتعدّد، فوجوه أيضاً:
منها: صحيحـة محمّد بن مسلم، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال: ذكر الـمنيّ و شدّده و جعله أشدّ من الـبول.
ثمّ قال:
«إن رأيت الـمنيّ قبل أو بعد ما تدخل في الـصلاة، فعليك إعادة الـصّلاة،
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 83، الـحديث 6.