(الصفحة 526)
قال:
«يعيد الـصلاة; لأنّ الـحديد نجس».
و قال:
«لأنّ الـحديد لباس أمل الـنار، و الـذهب لباس أهل الـجنّـة»(1)
.
نظراً إلى أنّ حكمه بكفايـة الـمسح با لـماء، معلّلاً
بـ «أنّ الـحديد نجس» يعطي أنّ طبيعـة الـنجس تنجّس ملاقياتها با لـرطوبـة، و تزول نجاستها بمجرّد أن أصابها الـماء، و هو معنى كفايـة الـغسل مرّة واحدة.
نعم، تطبيق ذلك على الـحديد لا يخلو من عنايـة; لوضوح عدم كون الـحديد نجساً، و لا أنّه منجّس لما يلاقيه، إلاّ أنّه أمر آخر. و قال الـشيخ (قدس سره): و هذا محمول على الاستحباب دون الإيجاب; لأنّه شاذّ مخا لـف للأخبار الـكثيرة.
و يرد على الاستدلال بها: أنّه مع قطع الـنظر عن ورود الـروايـة في الـحديد، و هو لا يكون نجساً كما عرفت، أنّ غايـة مفادها أنّ كلّ نجاسـة يجب غسلها لأجل الـصلاة، و إذا لم تغسل يوجب ذلك بطلان الـصلاة و لزوم الإعادة، و أمّا أنّ كلّ نجس يكفي في تطهيره الـغسل ـ فضلاً عن الـمسح ـ فلا دلالـة للروايـة عليه بوجه، فكيف يستفاد منها إطلاق وجوب الـغسل مع كلّ نجاسـة كما لا يخفى؟!
و قد انقدح ممّا ذكرنا، عدم تماميـة شيء من الـوجوه الـثلاثـة، و عدم نهوضه لإثبات الاكتفاء با لـغسل مرّة في مطلق الـنجاسات بمعناها الأعمّ من الـمتنجّسات.
و أمّا ما استدلّ به على لزوم الـتعدّد، فوجوه أيضاً:
منها: صحيحـة محمّد بن مسلم، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال: ذكر الـمنيّ و شدّده و جعله أشدّ من الـبول.
ثمّ قال:
«إن رأيت الـمنيّ قبل أو بعد ما تدخل في الـصلاة، فعليك إعادة الـصّلاة،
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 83، الـحديث 6.
(الصفحة 527)
و إن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه، ثمّ صلّيت فيه، ثمّ رأيته بعد، فلا إعادة عليك و كذلك الـبول»(1)
.
فإنّ مقتضى الأشدّيـة عدم الاكتفاء في الـمنيّ با لـمرّة، و إن كان لازمها عدم الاكتفاء با لـمرّتين أيضاً، و إلاّ لا تحقّق الأشدّيـة، إلاّ أنّ الـظاهر الاتّفاق على عدم لزوم الـزائد عليهما.
و فيه ـ مضافاً إلى أنّ مقتضى هذا الـوجه لزوم الـتعدّد في الـمنيّ، لا في مطلق الـنجاسات كما هو الـمدّعى ـ أنّ الاستدلال به يبتني على أن يكون الـمراد من الأشدّيـة هي الأنجسيـة، مع أنّه غير معلوم; لأنّه يحتمل في الأشدّيـة وجوه متعدّدة، أظهرها أنّ الـمراد منها سعـة دائرة نجاسـة الـمنيّ; حيث إنّه نجس من كلّ حيوان ذي نفس سائلـة، محرّماً كان، أم محلّلاً، بخلاف الـبول، فإنّه تختصّ نجاسته بخصوص الـمحرّم. و قد فصّلنا الـقول في ذلك في مبحث نجاسـة الـمنيّ، فليراجع.
و منها: ما في روايتي الـحسين و الـبزنطي الـمتقدّمتين في الـفرع الأوّل; من تعليل وجوب صبّ الـماء على الـبول مرّتين بقوله (عليه السلام):
«فإنّما هو ماء».
نظراً إلى أنّ الـبول الـذي يكون ماءً إذا اقتضى الـتعدّد، فا لـثخانـة و الـقوام أولى بالاقتضاء.
و يدفعه: أنّه يتمّ لو كان الـتعليل لوجوب الـتعدّد، مع أنّ الـظاهر كونه تعليلاً لكفايـة الـصبّ في مقابل الـغسل، فلا ارتباط له با لـمقام.
و منها: الاستصحاب، فإنّه مع الاكتفاء با لـمرّة يشكّ في زوال الـنجاسـة الـمتحقّقـة، و مقتضى الاستصحاب بقائها إلى أن يحصل الـتعدّد.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 16، الـحديث 2.
(الصفحة 528)
و قد اُورد عليه بوجوه:
الأوّل: عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الـكلّيـة الإلهيّـة، و منها ما نحن فيه.
و الـجواب: أنّه قد حقّق في محلّه جريانه فيها أيضاً.
ا لـثاني: أنّ الـنجاسـة لا تكون من الأحكام الـمجعولـة الـشرعيـة، بل إنّما هي حكم وضعي منتزع من الـحكم الـتكليفي با لـغسل مرّة أو مرّتين، فا لـشكّ في بقائها يرجع إلى الـشكّ في وجوب الـغسل مرّة أو أكثر، و من الـمعلوم أنّ الـمرجع في مثله هي أصا لـة الـبرائـة عن الـزائد; لكونه شكّاً في الـتكليف الـزائد.
و الـجواب: ما حقّقناه سابقاً من أنّ الـظاهر كون الـنجاسـة أمراً وجودياً متحقّقاً في الـنجس، غايـة الأمر أنّ لها في الـشريعـة مصداقين:
أحدهما: حقيقي، و هو الـذي يستقذره الـعرف و الـعقلاء، فإنّه في مثله لم يجعل الـشارع له الـقذارة، و لم يكن له اصطلاح خاصّ في الـقذر وا لـنجس، بل جعل الـشيء الـنجس ـ الـذي كان فيه خصوصيـة وجوديـة موجبـة لاستكراه الـعقلاء و استقذارهم ـ موضوعاً للأحكام الـمتعدّدة.
و ثانيهما: اعتباري جعلي، و هو الـنجاسات الـشرعيـة الـتي لا يكون الـعرف مستقذراً لها، و في مثله جعل الـشارع له الـنجاسـة، و اعتبرها له، ثمّ رتّب أحكاماً بعد جعل الـنجاسـة و الإلحاق الـموضوعيّ، غايـة الأمر اختلاف الـملاك باختلاف أنواع هذا الـقسم من الـنجس.
و كيف كان: فا لـنجاسـة في نفسها، إمّا أن تكون متحقّقـة عند الـعرف، و إمّا أن تكون معتبرة عند الـشارع و مجعولـة من ناحيـة الـشرع، فلا وجه لدعوى انتزاعها من الـحكم الـتكليفي أصلاً.
(الصفحة 529)
ا لـثا لـث: أنّ استصحاب الـنجاسـة من قبيل استصحاب الـفرد الـمردّد بين طويل الـعمر و قصيره، و هو ليس بحجّـة.
و الـجواب أوّلاً: أنّه ليس هنا فرد مردّد بين الـطويل و الـقصير، بل الـمتيقّن فرد معيّن غير مردّد، غايـة الأمر أنّه يشكّ في أنّه هل يزول با لـغسل مرّة، أو أنّه يتوقّف زوا لـه على الـمتعدّد من الـغسل؟ فا لـشكّ في ارتفاع الـفرد الـمعيّن و عدمه.
و ثانياً: أنّه على تقدير تسليمه نقول: إنّه لو اُريد بهذا الاستصحاب إثبات الـفرد الـطويل، و ترتيب الآثار الـمترتّبـة على خصوصه، فلا مجال له; لكونه من الاُصول الـمثبتـة.
وإن اُريد به إثبات بقاء الـكلّي، وترتيب الآثار الـمترتّبة عليه، فلامانع من جريانه أصلاً، و مثل عدم جواز الـصلاة من الآثار الـتي تترتّب على كلّي الـنجاسـة و طبيعيّها، فا لـلازم تكرار الـغسل لتجوّز الـصلاة فيه. و قد انقدح من ذلك تماميـة الاستصحاب.
ولكن الـرجوع إليه إنّما هو فيما إذا لم يكن في مقابله دليل مفاده جواز الاكتفاء با لـمرّة في مقام الـتطهير، و قد عرفت قيامه في جلّ الـنجاسات الـعينيـة، بل الـظاهر وجوده في كلّها ما عدا الـبول، فقد ورد في عرق الإبل الـجلاّلـة في صحيحـة حفص أو حسنته قوله (عليه السلام):
«و إن أصابك شيء من عرقه فاغسله»(1)
.
و أمّا عرق الـجنب من الـحرام، فقد عرفت أنّ الأظهر عدم نجاسته، بل عدم مانعيته عن الـصلاة أيضاً.
و قد ورد في الـدم قوله (عليه السلام):
«إن اجتمع قدر حمّصـة فاغسله، و إلاّ فلا»(2)
.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 15، الـحديث 2.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 20، الـحديث 5.
(الصفحة 530)
أي لايجب غسله لأجل الـصلاة، لا أنّه ليس بنجس، كما ذهب إليه الـصدوق.
و أمّا الـغائط، فلا يجب غسله أصلاً، بل يجوز الـتمسّح بالأحجار و نحوها كما مرّ، في أحكام الـتخلّي.
و با لـجملـة: فا لـدليل على الاكتفاء با لـمرّة في الـمتنجّس بالأعيان الـنجسـة الـمعهودة ما عدا الـبول قائم، و مع قيامه لا يبقى مجال للاستصحاب، و إذا كان الـمتنجّس بها من دون واسطـة يكفي فيه الـمرّة، فا لـمتنجّس بها مع الـواسطـة تكفي فيه الـمرّة بطريق أولى بالأولويـة الـقطعيـة.
ا لـكلام في الـمتنجّس با لـبول مع الـواسطـة
نعم، يبقى الـكلام في الـمتنجّس با لـبول مع الـواسطـة، و أنّه هل يعتبر فيه الـتعدّد كا لـمتنجّس من دون واسطـة، أو يكتفي فيه با لـمرّة؟
ربّما يقال: با لـثاني نظراً إلى روايـة الـعيص بن الـقاسم قال: سأ لـته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء.
فقال:
«إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه»(1)
.
فإنّ مقتضى إطلاقها الاكتفاء با لـغسلـة الـواحدة في الـمتنجّس با لـماء الـمتنجّس با لـبول أو بغيره من الـنجاسات و الأقذار.
ولكنّه ربّما يناقش في الاستدلال با لـروايـة تارة: من جهـة الإضمار، و اُخرى: من جهـة الإرسال.
ولكن يدفعها: أنّ جلالـة شأن الـعيص و علوّ مقامه، مانع عن احتمال رجوعه في
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـماء الـمضاف، الـباب 9، الـحديث 14.