(الصفحة 528)
و قد اُورد عليه بوجوه:
الأوّل: عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الـكلّيـة الإلهيّـة، و منها ما نحن فيه.
و الـجواب: أنّه قد حقّق في محلّه جريانه فيها أيضاً.
ا لـثاني: أنّ الـنجاسـة لا تكون من الأحكام الـمجعولـة الـشرعيـة، بل إنّما هي حكم وضعي منتزع من الـحكم الـتكليفي با لـغسل مرّة أو مرّتين، فا لـشكّ في بقائها يرجع إلى الـشكّ في وجوب الـغسل مرّة أو أكثر، و من الـمعلوم أنّ الـمرجع في مثله هي أصا لـة الـبرائـة عن الـزائد; لكونه شكّاً في الـتكليف الـزائد.
و الـجواب: ما حقّقناه سابقاً من أنّ الـظاهر كون الـنجاسـة أمراً وجودياً متحقّقاً في الـنجس، غايـة الأمر أنّ لها في الـشريعـة مصداقين:
أحدهما: حقيقي، و هو الـذي يستقذره الـعرف و الـعقلاء، فإنّه في مثله لم يجعل الـشارع له الـقذارة، و لم يكن له اصطلاح خاصّ في الـقذر وا لـنجس، بل جعل الـشيء الـنجس ـ الـذي كان فيه خصوصيـة وجوديـة موجبـة لاستكراه الـعقلاء و استقذارهم ـ موضوعاً للأحكام الـمتعدّدة.
و ثانيهما: اعتباري جعلي، و هو الـنجاسات الـشرعيـة الـتي لا يكون الـعرف مستقذراً لها، و في مثله جعل الـشارع له الـنجاسـة، و اعتبرها له، ثمّ رتّب أحكاماً بعد جعل الـنجاسـة و الإلحاق الـموضوعيّ، غايـة الأمر اختلاف الـملاك باختلاف أنواع هذا الـقسم من الـنجس.
و كيف كان: فا لـنجاسـة في نفسها، إمّا أن تكون متحقّقـة عند الـعرف، و إمّا أن تكون معتبرة عند الـشارع و مجعولـة من ناحيـة الـشرع، فلا وجه لدعوى انتزاعها من الـحكم الـتكليفي أصلاً.
(الصفحة 529)
ا لـثا لـث: أنّ استصحاب الـنجاسـة من قبيل استصحاب الـفرد الـمردّد بين طويل الـعمر و قصيره، و هو ليس بحجّـة.
و الـجواب أوّلاً: أنّه ليس هنا فرد مردّد بين الـطويل و الـقصير، بل الـمتيقّن فرد معيّن غير مردّد، غايـة الأمر أنّه يشكّ في أنّه هل يزول با لـغسل مرّة، أو أنّه يتوقّف زوا لـه على الـمتعدّد من الـغسل؟ فا لـشكّ في ارتفاع الـفرد الـمعيّن و عدمه.
و ثانياً: أنّه على تقدير تسليمه نقول: إنّه لو اُريد بهذا الاستصحاب إثبات الـفرد الـطويل، و ترتيب الآثار الـمترتّبـة على خصوصه، فلا مجال له; لكونه من الاُصول الـمثبتـة.
وإن اُريد به إثبات بقاء الـكلّي، وترتيب الآثار الـمترتّبة عليه، فلامانع من جريانه أصلاً، و مثل عدم جواز الـصلاة من الآثار الـتي تترتّب على كلّي الـنجاسـة و طبيعيّها، فا لـلازم تكرار الـغسل لتجوّز الـصلاة فيه. و قد انقدح من ذلك تماميـة الاستصحاب.
ولكن الـرجوع إليه إنّما هو فيما إذا لم يكن في مقابله دليل مفاده جواز الاكتفاء با لـمرّة في مقام الـتطهير، و قد عرفت قيامه في جلّ الـنجاسات الـعينيـة، بل الـظاهر وجوده في كلّها ما عدا الـبول، فقد ورد في عرق الإبل الـجلاّلـة في صحيحـة حفص أو حسنته قوله (عليه السلام):
«و إن أصابك شيء من عرقه فاغسله»(1)
.
و أمّا عرق الـجنب من الـحرام، فقد عرفت أنّ الأظهر عدم نجاسته، بل عدم مانعيته عن الـصلاة أيضاً.
و قد ورد في الـدم قوله (عليه السلام):
«إن اجتمع قدر حمّصـة فاغسله، و إلاّ فلا»(2)
.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 15، الـحديث 2.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 20، الـحديث 5.
(الصفحة 530)
أي لايجب غسله لأجل الـصلاة، لا أنّه ليس بنجس، كما ذهب إليه الـصدوق.
و أمّا الـغائط، فلا يجب غسله أصلاً، بل يجوز الـتمسّح بالأحجار و نحوها كما مرّ، في أحكام الـتخلّي.
و با لـجملـة: فا لـدليل على الاكتفاء با لـمرّة في الـمتنجّس بالأعيان الـنجسـة الـمعهودة ما عدا الـبول قائم، و مع قيامه لا يبقى مجال للاستصحاب، و إذا كان الـمتنجّس بها من دون واسطـة يكفي فيه الـمرّة، فا لـمتنجّس بها مع الـواسطـة تكفي فيه الـمرّة بطريق أولى بالأولويـة الـقطعيـة.
ا لـكلام في الـمتنجّس با لـبول مع الـواسطـة
نعم، يبقى الـكلام في الـمتنجّس با لـبول مع الـواسطـة، و أنّه هل يعتبر فيه الـتعدّد كا لـمتنجّس من دون واسطـة، أو يكتفي فيه با لـمرّة؟
ربّما يقال: با لـثاني نظراً إلى روايـة الـعيص بن الـقاسم قال: سأ لـته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء.
فقال:
«إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه»(1)
.
فإنّ مقتضى إطلاقها الاكتفاء با لـغسلـة الـواحدة في الـمتنجّس با لـماء الـمتنجّس با لـبول أو بغيره من الـنجاسات و الأقذار.
ولكنّه ربّما يناقش في الاستدلال با لـروايـة تارة: من جهـة الإضمار، و اُخرى: من جهـة الإرسال.
ولكن يدفعها: أنّ جلالـة شأن الـعيص و علوّ مقامه، مانع عن احتمال رجوعه في
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـماء الـمضاف، الـباب 9، الـحديث 14.
(الصفحة 531)
أخذ الـحكم الـشرعيّ إلى غير الإمام (عليه السلام) و حيث إنّ الـشهيد في «ا لـذكرى» و الـمحقّق في «ا لـمعتبر» رويا الـروايـة عن الـعيص من دون واسطـة، فيدلّ ذلك على أنّهما وجداها في كتاب قطعي الانتساب إليه، و من الـواضح اعتبار نقلهما بعد علوّ مقامهما، و وضوح عدا لـتهما و وثاقتهما، فالإشكال من جهـة الإرسال ممّا ليس له مجال أيضاً.
و قد انقدح من جميع ما ذكرنا: جواز الاكتفاء با لـمرّة في تطهير عموم الـنجاسات و الـمتنجّسات ما عدا الـمتنجّس با لـبول من دون واسطـة. هذا في غير الإناء، و أمّا الإناء فسيأتى حكمه.
نعم، لا ينبغي الإشكال في أنّ الأحوط الـتعدّد، و هو الـذي قوّاه جماعـة إمّا مطلقاً، أو في خصوص ما له ثخن و قوام.
بقي في هذا الـفرع أمران:
في الـغسلـة الـمزيلـة و الـمطهّرة
الأمر الأوّل: أنّه هل تكفي الـغسلـة الـمزيلـة في حصول الـطهارة، أو أنّه لابدّ من أن تكون الـغسلـة الـمطهّرة بعد غسلـة الإزا لـة، كما عن جماعـة؟
منهم الـمحقّق في «ا لـمعتبر» قال فيه: و هل يراعى الـعدد في غير الـبول؟ فيه تردّد، و أشبههه يكفي الـمرّة بعد إزا لـة الـعين; لقوله (عليه السلام) في دم الـحيض:
«حتّيه ثمّ اغسليه ...».
و اُجيب عنه: بأنّه يمتنع حمل الأمر على الـوجوب; للقطع بعدم وجوب الـحتّ، فالأمر به لابدّ أن يكون محمولاً على الاستحباب كما عن جماعـة، بل في «ا لـمنتهى»
(الصفحة 532)
نسبته إلى علمائنا و أكثر أهل الـعلم، أو على الإرشاد إلى أمر عرفيّ; لأنّ الـحتّ قبل صبّ الـماء أرفق في الـتطهير، فإطلاق الأمر با لـغسل و غيره الـصادق على الـغسلـة الـمزيلـة ـ كما اعترف به جماعـة منهم الـسيّد ـ محكّم، و دعوى الانصراف إلى غيرها و لو ببقاء الـصبّ مستمرّاً بعد زوا لـها، غير ظاهرة.
و يؤيّده: أنّ الـظاهر أنّ الـغسل الـمأمور به لحصول الـطهارة و ارتفاع الـنجاسـة، ليس إلاّ مثل الـغسل الـمتداول في إزا لـة الأوساخ و الـقذارات الـعرفيـة، فكما أنّه يكفي في تحقّق زوال الـوسخ و الـقذارة مجرّد الـغسل الـمزيل، فكذلك في الـشرعيّات، و ما تقدّم من ارتكاز ثبوت غسلتين ـ الاُولى: للإزا لـة، و الـثانيـة: للإنقاء ـ فانّما هو لأجل نفي ثبوت الـغسلتين بعد الإزا لـة بحيث يصير الـمجموع ثلاث غسلات، و إلاّ ففي الـحقيقـة لا مغايرة بين غسلـة الإزا لـة و غسلـة الإنقاء; فإنّ زوال الـعين مرجعه إلى حصول الـطهارة لها; لأنّها ـ كما مرّ سابقاً ـ عبارة عن أمر عدميّ; و هو عدم ثبوت الـنجاسـة الـتي هي خصوصيـة وجوديـة في الـشيء الـنجس، فالإزا لـة و الإنقاء غير متغايرين.
و قد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ مقتضى الـقاعدة هو الاكتفاء با لـغسلـة الـمزيلـة، و عدم الـحاجـة إلى غسلـة اُخرى زائدة.
نعم، يبقى الـكلام في وجه الـفرق بين الـبول و غيره، حيث إنّه احتاط في الـمتن في الأوّل بكون الـغسلتين غير غسلـة الإزا لـة، وظاهره في الـثاني الـفتوى با لـمغايرة; و لزوم كون الـغسلـة بعد زوال الـعين.
و الـظاهر أنّ الـوجه أنّ دليل الـغسلتين، يجري فيه الارتكاز الـذي ذكرنا; و هو كون الاُولى للإزا لـة و الـثانيـة للإنقاء، خصوصاً مع ملاحظـة تفسير الـمحقّق (قدس سره)