(الصفحة 58)
قال:
«نعم، ولكن لايضعان في الـمسجد شيئاً».(1)
و ذيل صحيحـة زرارة و محمّد بن مسلم، الـمتقدّمـة الـواردة في الـحائض و الـجنب الـمشتمل على قول أبي جعفر (عليه السلام):
«و يأخذان من الـمسجد، و لايضعان فيه شيئاً».
قال زرارة قلت له: فما با لـهما يأخذان منه و لايضعان فيه؟
قال:
«لأنّهما لايقدران على أخذ ما فيه إلاّ منه، و يقدران على وضع ما بيدهما في غيره».(2)
و رواه علي بن إبراهيم في «تفسيره» مرسلاً، عن الـصادق (عليه السلام) إلاّ أنّه قال:
«يضعان فيه الـشيء، و لا يأخذان منه».
فقلت: ما با لـهما يضعان فيه، و لا يأخذان منه؟
فقال:
«لأنّهما يقدران على وضع الـشيء فيه من غير دخول، و لايقدران على أخذ ما فيه حتّى يدخلا».(3)
و هل الـمراد من الـروايات تجويز الـدخول بقصد أخذ الـشيء من الـمسجد؟
أو أنّ الـمراد تجويز نفس الأخذ و إن كان الـدخول الـذي يتوقّف الأخذ عليه محرّماً؟
و على الأوّل: تكون هذه الـروايات مخصّصـة لعموم الـكتاب و الـسنّـة، الـدالّ على حرمـة الـمكث في الـمسجد و الـدخول فيه.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 17، الـحديث 1.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 17، الـحديث 2.
- (3)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 17، الـحديث 3.
(الصفحة 59)
و على الـثاني: لا ارتباط لها با لـعموم أصلاً.
و قد حكي عن بعض الـتصريح با لـثاني، ولكنّ الـتأمّل فيها يقضي بكون الـمراد هو تحليل الـدخول بقصد الأخذ، فإنّ الـمتبادر من الـسؤال في صحيحـة ابن سنان إنّما هو الـسؤال عن دخوله لأن يتناول الـمتاع، فا لـجواب بقوله (عليه السلام): «نعم» يدلّ على جواز ذلك، و كذا الـمتبادر من الـتعليل في صحيحـة زرارة و محمّد بن مسلم، هو أنّه حيث يحتاج إلى الـمتاع في الـمسجد، و هو لايمكن أخذه بدون الـدخول، فلا مانع من الـدخول بقصده.
و من الـمعلوم أنّ الـمراد با لـضرورة فيها هي الـضرورة الـعرفيـة، لا الـضرورة الـمحلّلـة للمحرّم بمقتضى حديث رفع
«ما اضطرّوا إليه».
و بعبارة اُخرى: ليس الـمراد هو حلّيـة الـدخول لأجل الاضطرار الـحاصل إلى أخذ الـمتاع الـمتوقّف عليه، بل الـمراد هو حلّيته لأجل احتياجه عرفاً إلى الـمتاع فيه، و لايترتّب على تركه مفسدة أصلاً.
و أظهر من الـجميع مرسلـة علي بن إبراهيم، الـمشتملـة على الـتعليل الـذي له ظهور قويّ في كون الـملاك هو الـدخول، ولكن دلالتها على الـحكم بعكس ما هو الـمشهور، بل الـمجمع عليه، بل عن «ا لـمنتهى» أنّه مذهب علماء الإسلام أوجبت طرحها و تركها، كما لايخفى.
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الـنصّ و الـفتاوى جواز الأخذ من الـمسجد و إن استلزم الـمكث، بل الـجلوس، و عليه فيكون هذا الأمر الـمستثنى مغايراً للأمر الأوّل الـذي دلّت عليه الآيـة، و الـروايات.
و دعوى أنّ الـغا لـب الـمتعارف في الأخذ هو الـدخول و الـخروج بسرعـة من
(الصفحة 60)
غير مكث ـ و هو من مصاديق الـمرور و الـعبور الـذي هو الأمر الأوّل، فلايكون هذا الأمر مغايراً له ـ مدفوعـة، بما عرفت من أنّ الأمر الأوّل هو الـذي يرجع إلى الـدخول من باب، و الـخروج من آخر، مع تغاير الـطريقين، و لم يفرض في هذا الأمر تعدّد الـباب أصلاً، فإرجاعه إليه ممّا لا وجه له أصلاً.
و لأجله وقع الإشكال هنا في أنّه هل يختصّ جواز الـدخول لأخذ شيء بغير الـمسجدين من سائر الـمساجد، أو يعمّهما أيضاً؟
فيه وجهان: من إطلاق الـصحيحتين الـشامل للمسجدين، و من أنّ الـظاهر من صحيحـة زرارة و محمّد بن مسلم كونها مسوقـة لبيان حكم سائر الـمساجد، لدلالـة صدرها على استثناء الاجتياز الـمختصّ بغير الـمسجدين، مع أنّه ربّما يقال بانصراف صحيحـة ابن سنان إلى غيرهما أيضاً.
نعم، على تقدير الإطلاق تكون الـنسبـة بينهما، و بين روايـة محمّد بن مسلم الـمتقدّمـة، الـدالّـة على النهي عن قرب المسجدين الحرمين للحائض و الجنب، هو الـعموم من وجه، فيرجع في مورد الـتعارض إلى الـبرائـة، لو لم تكن الـروايـة أظهر في مورد الاجتماع، و لم يكن هناك عموم يرجع إليه بعد الـتعارض، و كلاهما محلّ نظر، و إن كان تكفي واحدة منهما للحكم با لـحرمـة، فتدبّر.
بقي الـكلام في إلحاق الـمشاهد الـمشرّفـة و الـضرائح الـمقدّسـة با لـمساجد، وعن الـشهيد أنّه حكاه في «ا لـذكرى» عن الـمفيد في «ا لـغريـة» و ابن ا لـجنيد و استحسنه، و عن بعضهم نقله عن الـشهيد الـثاني، و عن بعض الـمتأخّرين الـميل إليه، و في «ا لـجواهر» أنّه لايخلو من قوّة.
و استدلّ له:
(الصفحة 61)
تارة: بتحقّق معنى الـمسجديـة فيها و زيادة.
و اُخرى: با لـتعظيم.
و ثا لـثـة: بالأخبار الـدالّـة على المنع عن دخول الجنب بيوت النبي و الأئمّـة (عليهم السلام)في حال الـحياة، بضميمـة ما ورد من أنّ حرمتهم بعد وفاتهم كحرمتهم في حال الـحياة، بل هم أحياء عند ربّهم يرزقون.
و قد جمع هذه الـروايات في «ا لـوسائل» في الـباب الـسادس عشر من أبواب الـجنابـة، و إن كان الـعنوان الـذي ذكره له هي الـكراهـة دون الـحرمـة، ولكنّ الـروايات بنفسها ظاهرة في الـحرمـة، و لايكون لها معارض أصلاً.
أقول: أمّا الأوّل: فيرد عليه أنّ الـحكم قد علّق في ظواهر الأدلّـة على عنوان الـمسجديـة، و لا دليل على إسرائه فيما كان بمعناها; لعدم إحراز كون الـملاك مجرّد شرافـة الـمكان، و أفضليـة الـصلاة فيه; لاحتمال أن يكون لعنوان الـمسجديـة ـ الـمتمحّضـة في الإضافـة إلى اللّه تعا لـى و الانتساب إليه ـ دخلٌ فيه، فلايجوز الـتعديـة.
و أمّا الـثاني: فمضافاً إلى عدم الـدليل على وجوب الـتعظيم، غايـة الأمر حرمـة الـتوهين، و قد مرّ مراراً أنّ الـحكم لايسري من عنوان متعلّقه إلى شيء آخر، فحرمـة الـتوهين لاتستلزم حرمـة الـدخول فيها، نقول: إنّ تحقّق الـتوهين بذلك ممنوع، خصوصاً فيما إذا تعلّق بدخوله في الـمشاهد غرض عقلائي، كما إذا لم يقدر على الـدخول في غير هذه الـحا لـة.
و أمّا الـثا لـث: فتارة، لابدّ من الـبحث في أنّ دخول الـجنب بيوتهم في حال حياتهم هل يكون محرّماً، أم لا؟
(الصفحة 62)
و اُخرى، لابدّ من الـكلام في أنّ الـدخول في مشاهدهم بعد وفاتهم هل يكون كذلك، أم لا؟
أمّا دخول الـجنب بيوتهم في حال حياتهم، فا لـروايات الـواردة فيه الـمجموعـة في الـوسائل في الـباب الـمذكور خمسـة، أربعـة منها ترتبط بقصّـة أبي بصير، غايـة الأمر أنّ الـراوي لها قد يكون هو أبابصير، و قد يكون من معه من الـداخلين على أبي عبدا للّه (عليه السلام)، كما أنّ الـمستفاد منها أنّ الـعلّـة لدخول أبي بصير عليه (عليه السلام) جنباً، مرّة كانت هو الاختبار، و أن يعطيه من دلائل الإمامـة مثل ما أعطاه أبوجعفر (عليه السلام)، واُخرى مخافـة فوت الـدخول معهم.
و واحدة ما رواه جابر، عن علي بن الـحسين (عليهما السلام) أنّ أعرابيّاً دخل على الـحسين فقال له:
«أما تستحي يا أعرابي، تدخل على إمامك و أنت جنب، أنتم معاشر الـعرب إذا خلوتم خضخضتم».
فقال الأعرابي: قد بلغت حاجتي فيما جئت له، فخرج من عنده فاغتسل، و رجع إليه فسأ لـه عمّا كان في قلبه.(1)
أقول: أمّا الـروايات الـواردة في قصّـة أبي بصير فا لـظاهر أنّه لم يكن في الـحقيقـة إلاّ قصّـة واحدة، ضرورة أنّ نقل أبي بصير لها تارة، و نقل مصاحبه لها اُخرى لايوجب تعدّدها.
كما أنّ الـتعدّد بلحاظ الاختبار و بلحاظ فوت الـدخول، أيضاً لايكاد يتمّ; فإنّ ما كان الـغرض منه فوت الـدخول، إن كان واقعاً قبل الآخر، فلايبقى موقع للاختبار بعد إخباره بجنابـة أبي بصير أوّلاً، خصوصاً مع كون الاختبار متحقّقاً بمثل ذلك.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 7، الـحديث 24.