(الصفحة 657)
فقال:
«كلّ ما اُكل لحمه فتوضّأ من سؤره و اشرب».
و عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب.
فقال:
«كلّ شيء من الـطير يتوضّأ ممّا يشرب منه، إلاّ أن ترى في منقاره دماً، فإن رأيت في منقاره دماً فلا توضّأ منه، و لا تشرب».(1)
و زاد فيما رواه الـشيخ عن الـكليني: و سئل عن ماء شربت منه الـدجاجـة.
قال:
«إن كان في منقارها قذر لم يتوضّأ منه، و لم يشرب، و إن لم يعلم أنّ في منقارها قذراً توضّأ منه و اشرب».(2)
فإنّ الـحكم بطهارة الـماء الـذي شرب منه باز أو صقر أو عقاب، مع عدم رؤيـة الـدم في منقارها، يدلّ على كون زوال الـعين مطهّراً لمنقارها; لأنّها من جوارح الـطيور، و الـعلم الـعادي حاصل بنجاسـة منقارها بملاقاة شيء من الـنجاسات، فطهارة سؤرها دليل على مطهّريـة زوال الـعين با لـنسبـة إليها.
واُورد على الاستدلال بهذه الأدلّة: بأنّه لم يعلم استناد الـطهارة في هذه الروايات إلى كون زوال الـعين مطهّراً، كما هو الـمدّعى، بل يحتمل أن يكون منشأها عدم سرايـة النجاسة من الـمتنجّس الجامد الـخا لي عن الـعين إلى ملاقياته; لأنّ مفاد الـروايات مجرّد طهارة الـماء، أو مثله كا لـدهن، و أمّا أنّ منشأ الـطهارة ماذا؟ فلا دلالـة لها عليه.
و من الـممكن أن يكون الـمنشأ ما ذكر، كما أنّه يمكن أن يكون الـوجه فيه عدم تنجّس الـحيوانات الـمتقدّمـة بشيء، لا أنّها تتنجّس، و تطهّر بزوال الـعين عنها; و ذلك لأنّه لم يدلّ دليل على نجاسـة كلّ جسم لاقى نجساً بنحو الـعموم أو الإطلاق، بل هو أمر
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الأسئار، الـباب 9، الـحديث 2.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الأسئار، الـباب 9، الـحديث 3.
(الصفحة 658)
متصيّد من ملاحظـة الأخبار الـواردة في موارد خاصّـة; نظراً إلى عدم احتمال خصوصيـة في تلك الـموارد.
و با لـجملـة: لم يدلّ دليل على تنجّس بدن الـحيوان با لـملاقاة، حتّى تكون تلك الأدلّـة ناظرة إلى حصول الـطهارة له بزوال الـعين.
و هنا احتمال آخر; و هو أن يقال: بأنّ هذه الأدلّـة مخصّصـة لدليل الاستصحاب، و ناظرة إلى عدم جريانه في الـحيوان غير الآدمي; فإنّ تعليق نفي الـبأس عمّا شرب منه باز أو صقر أو عقاب ـ في موثّقه عمّار الـمتقدّمـة ـ على ما إذا لم ير في منقارها دم، و الـحكمَ بعدم جواز الـتوضّي و الـشرب مع الـرؤيـة، يشهد بأنّ الـنظر فيها إنّما هو إلى عدم جريان الاستصحاب فيها مع عدم الـرؤيـة، و عدم إحساس الـنجاسـة; لاحتمال ورود مطهّر عليه، كشربه من بحر أو نهر أو ماء كثير و مثله.
و با لـجملـة: مفاد هذه الأدلّـة يمكن أن يكون مجرّد الـتخصيص في دليل الاستصحاب بالإضافـة إلى الـحيوان، لاكون زوال الـعين متطهّراً، كما لايخفى.
و يدفع الاحتمال الأوّل: أنّه لامجال له بعد قيام الـدليل على منجّسيـة الـمتنجّس كا لـنجس، خصوصاً فيما إذا لم يكن هناك واسطـة، كما هو الـمفروض في هذه الـروايات، و قد تقدّم الـبحث في ذلك مفصّلاً في أحكام الـنجاسات، فراجع.
و أمّا الاحتمال الـثاني فيدفعه: أنّ استفادة الـعموم لاتبتني على إلغاء الـخصوصيـة من الـموارد الـخاصّـة الـواردة فيها الـروايات، بل يوجد فيها ما يستفاد منه الـعموم با لـدلالـة اللفظيـة، و ذلك مثل موثّقـة عمّار الـواردة في رجل وجد في إنائه فأرة، الـمشتملـة على قوله (عليه السلام):
«إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه، ثمّ يفعل ذلك بعد ما رآها في الإناء، فعليه أن يغسل ثيابه، و يغسل كلّ ما
(الصفحة 659)
أصابه ذلك الـماء، و يعيد الـوضوء و الـصلاة ...».(1)
و من الـمعلوم: أنّه لا خصوصيـة للفأرة، و لا لنجاسـة الـميتـة، فلابدّ من أن تكون هذه الـروايات، ناظرة إلى عدم اختصاص حصول الـطهارة بعد عروض الـتنجّس با لـغسل، بل له طريق آخر; و هو زوال الـعين في خصوص الـحيوان.
و أمّا الاحتمال الـثا لـث فيردّه: أنّه لو كان الـنظر في هذه الـروايات إلى تخصيص أدلّـة الاستصحاب، لكان الـلازم تعليق الـحكم بعدم الـجواز ـ في مثل موثّقـة عمّار ـ على الـعلم بعدم ورود الـمطهّر، لا على رؤيـة الـدم الـظاهرة في وجود عينه، و من الـمعلوم ثبوت الـفرق بين وجود الـعين، و بين الـعلم بعدم ورود الـمطهّر و إن لم يكن با لـفعل دم مرئي، فتخصيص الـحكم بما إذا شكّ في ورود الـمطهّر عليه الـراجع إلى الـتخصيص في دليل الاستصحاب، خلاف ظاهر الـروايات.
فالإنصاف: أنّ مقتضى الـروايات كا لـسيرة، ثبوت الـطهارة في الـحيوان بزوال الـعين، و لا استبعاد في كونه مطهّراً بالإضافـة إليه أصلاً.
ا لـمقام الـثاني: في مطهّريـة زوال الـعين با لـنسبـة إلى بواطن الإنسان، كفمه، وأنفه، واُذنه
ولكنّه قد وقع الـكلام في أنّ بواطن الإنسان، هل تتنجّس بملاقاة الـنجاسـة، و تطهر بزوال الـعين عنها، أو أنّها لا تقبل الـنجاسـة أصلاً، بل الـنجس إنّما هي الـعين الـموجودة في الـباطن، لا الـباطن؟
و ممّا يترتّب على الـوجهين: أنّه لو كان في فمه شيء من الـدم، فريقه نجس مادام
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـماء الـمطلق، الـباب 4، الـحديث 1.
(الصفحة 660)
ا لـدم موجوداً على الـوجه الأوّل، فإذا لاقى شيئاً نجسه، بخلافه على الـوجه الـثاني، فإنّ الـريق طاهر، و الـنجس هو الـدم فقط، فإن أدخل إصبعه مثلاً في فمه، و لم يلاقِ الـدم لم ينجس.
و إن لاقى الـدم ينجس إذا قلنا: بأنّ ملاقاة الـنجس في الـباطن، أيضاً موجبـة للتنجّس، و إلاّ فلا ينجس أصلاً إلاّ إذا أخرجه و هو ملوّث با لـدم.
و كيف كان: فا لـظاهر أنّ الـبواطن إذا كانت مادون الـحلق، فلا ثمرة لهذا الـنزاع فيها; للقطع بصحّـة الـصلاة من الـمصلّي الـواجد للشرائط الـمراعي لها، مع الـعلم بملاقاة الـدم الـموجود في الـباطن له، و كذا الـعذرة و الـبول، بل بصحّـة الـصّلاة ممّن أكل أو شرب نجساً كا لـخمر، أو متنجّساً كا لـماء مثلاً.
و إذا كانت ما فوق الـحلق، كباطن الـفم و الأنف و الاُذن و الـعين، فا لـظاهر أنّ الـنجاسـة الـملاقيـة له إن كانت متكوّنـة في الـباطن، لا توجب تنجّسه; لموثّقـة عمّار الـساباطي قال: سئل أبوعبدا للّه (عليه السلام) عن رجل يسيل من أنفه الـدم، هل عليه أن يغسل باطنه؟ يعني جوف الأنف.
فقال:
«إنّما عليه أن يغسل ما ظهر منه».(1)
فإنّ عدم وجوب غسل الـباطن الـمستفاد من حصر الـوجوب في الـظاهر، مرجعه إلى عدم تنجّسه، فإنّ الـنجاسـة في جلّ الـنجاسات بل كلّها إنّما استفيدت من الأمر بغسل ملاقيها، فإذا لم يكن غسل الـملاقي واجباً، فهو دليل على عدم تنجّسه. و با لـجملـة: لا دليل على الـتنجّس في هذا الـفرض.
و أمّا إذا كانت الـنجاسـة الـملاقيـة خارجيـة، فا لـظاهر أنّه لادليل على الـتنجّس
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 24، الـحديث 5.
(الصفحة 661)
فيها. و موثّقـة عمّار الـمتقدّمـة الآمرة بغسل كلّ ما أصابه الـظاهرة في تنجّسه، منصرفـة عن الـملاقي الـباطني.
ولو قلنا: با لـنجاسـة فرضاً; بدعوى الإطلاق، و عدم الانصراف، فلا محيص عن الالتزام بطهارته بمجرّد زوال الـعين; للسيرة، و لروايـة عبدا لـحميد بن أبي ا لـديلم قال: قلت لأبي عبدا للّه (عليه السلام): رجل يشرب الـخمر فيبصق، فأصاب ثوبي من بصاقه.
قال:
«ليس بشيء».(1)
و مثلها بعض الـروايات الاُخر و قد تقدّم في الـمسأ لـة الـعاشرة من مسائل كيفيـة الـمتنجّس با لـنجاسات في أحكامها، ما ينفع الـمقام، فراجع.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـنجاسات، الـباب 39، الـحديث 1.