(الصفحة 110)
للغسل إلاّ ماهيّـة واحدة، و أنّ خصوصيـة الارتماسي إنّما هي من جهـة عدم اعتبار الـدلك فيها، لامن جهـة عدم اعتبار الـترتيب.
و أمّا روايـة زرارة الـواردة في مخا لـفـة الـترتيب، فقد نوقش فيها بأنّ الـبطلان إنّما كان من جهـة الـتشريع الـمنافي لقصد الامتثال، لا من جهـة فوات الـترتيب; لأنّ موردها صورة الـعمد، كما هو ظاهر قوله (عليه السلام):
«ثمّ بدا له»، فلا ارتباط لها با لـمقام أصلاً.
كما أنّ روايـة حريز لاتكون مسندة إلى الإمام (عليه السلام)، نعم عن «ا لـذكرى» أنّه رواها الـصدوق في «مدينـة الـعلم» مسندة عن الـصادق (عليه السلام)، اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ مثل حريز لايروي إلاّ عن الإمام، أو عمّن يروي عنه، كزرارة، خصوصاً مع روايـة الـشيخ للروايـة، و روايـة رجال الـسند و فيهم الأجلاّء، و بعضهم من أصحاب الإجماع.
ولكنّ الـمناقشـة في الـروايات الـدالّـة على اعتبار الترتيب مندفعـة بظهورها فيه، و أنّه لامجال لرفع الـيد عمّا هو ظاهر الـعطف بـ «ثمّ» من اعتبار الـترتيب.
كما أنّ حمل روايـة زرارة الـواردة في مورد مخا لـفـة الـترتيب على صورة الـعمد بعيد جدّاً، لما عرفت من عدم تحقّق مثل ذلك من الـعا لـم الـمريد للامتثال أصلاً، غايـة ما في الـمقام ثبوت الـمعارضـة بين الـطائفتين، و الـلازم بعده الـرجوع إلى الـمرجّحات، و أوّلها على ما هو الـحقّ هي الـشهرة الـفتوائيـة الـموافقـة للطائفـة الاُولى، فلا محيص عن الـقول با لـترتيب.
و يظهر من ذلك أنّه يلزم ارتكاب الـتأويل، أو الـطرح فيما رواه هشام بن سا لـم، قال: كان أبوعبدا للّه (عليه السلام) فيما بين مكّه و الـمدينـة، و معه اُمّ إسماعيل، فأصاب من جاريـة له، فأمرها فغسلت جسدها، و تركت رأسها.
و قال لها:
«إذا أردت أن تركبي فاغسلي رأسك».
(الصفحة 111)
ففعلت ذلك، فعلمت بذلك اُمّ إسماعيل فحلقت رأسها، فلمّا كان من قابل انتهى أبوعبدا للّه (عليه السلام) إلى ذلك الـمكان، فقا لـت له اُمّ إسماعيل: أيّ موضع هذا؟!
قال لها:
«هذا الـموضع الـذي أحبط اللّه فيه حجّك عامّ أوّل».(1)
قال الـشيخ: هذا الـحديث قد وهم الـراوي فيه، و اشتبه عليه، فرواه با لـعكس، لأنّ هشام بن سا لـم ـ راوي هذا الـحديث ـ روى ما قلناه بعينه.
و عنى بذلك ما رواه هشام بن سا لـم، عن محمّد بن مسلم، قال: دخلت على أبي عبدا للّه (عليه السلام) فسطاطه و هو يكلّم إمرأة، فأبطأت عليه.
فقال:
«إدنه، هذه اُمّ إسماعيل جاءت، و أنا أزعم أنّ هذا الـمكان الـذي أحبط اللّه فيه حجّها عامّ أوّل، كنت أردت الإحرام.
فقلت:
ضعوا إليّ الـماء في الـخبا، فذهبت الـجاريـة با لـماء فوضعته، فاستخففتها، فأصبت منها.
فقلت:
اغسلي رأسك، و امسحيه مسحاً شديداً لا تعلم به مولاتك، فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك، و لاتغسلي رأسك، فتستريب مولاتك.
فدخلت فسطاط مولاتها، فذهبت تتناول شيئاً، فمسّت مولاتها رأسها فإذا لزوجـة الـماء، فحلقت رأسها و ضربتها.
فقلت لها: هذا الـمكان الـذي أحبط اللّه فيه حجّك».(2)
فا لـروايـة با لـكيفيـة الاُولى مشتبهـة، و إن كان الاعتبار من جهـة عدم اطّلاع مولاتها ربّما يساعد الأوّل كما لايخفى، كما أنّ نفس الـواقعـة محلّ للشكّ و الارتياب;
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 28، الـحديث 2.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 29، الـحديث 1.
(الصفحة 112)
نظراً إلى أنّه لم يكن موجب لحلق رأسها و ضربها، فلم لم ينكر عليها الإمام (عليه السلام) ولو بعد وقوعه، و اقتصر بالإخبار بالإحباط بعد مضيّ الـعامّ.
ا لـجهـة الـثانيـة: في كون الـعنق من الـرأس، فيجب غسله معه بلا خلاف فيه ظاهراً، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه، لكنّه استشكل فيه جماعـة من الـمتأخّرين، كا لـخراساني في «ا لـذخيرة» و بعض آخر.
و منشأ الإشكال: عدم دخول الـرقبـة في مفهوم الـرأس، و عدم ثبوت كون الـرأس حقيقـة فيما يعمّها، مضافاً إلى إشعار روايـة أبي بصير الـمتقدّمـة، الـمشتملـة على قوله (عليه السلام):
«تصبّ الـماء على رأسك ثلاث مرّات، و تغسل وجهك، و تفيض الـماء على جسدك».(1)
بعدم دخول الـوجه في الـرأس، فضلاً عن دخول الـرقبـة فيه.
و الـحقّ: أنّه إن اُطلق الـرأس في مقابل مثل الـوجه، كما في آيـة الـوضوء، فهو كما لايشمل الـرقبـة لايعمّ الـوجه أيضاً، و إن اُطلق في مقابل الـجانبين الأيمن أو الأيسر، فهو يعمّ الـرقبـة قطعاً، فضلاً عمّا إذا اُطلق في مقابل الـمنكبين، كما في صحيحـة زرارة الـمتقدّمـة أيضاً، الـمشتملـة على قوله:
«ثمّ صبّ على رأسه ثلاثـة أكفّ، ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين، و على منكبه الأيسر مرّتين(2)
»، فإنّ الـمتبادر منها ليس إلاّ إرادة غسل ما فوق الـمنكب با لـماء الـذي يصبّ على الـرأس، و ما تحت الـمنكب با لـماء الـذي يصبّ على الـمنكب.
و الـتعبير با لـمنكب مع كون الـمراد هو مجموع الـجانبين، إنّما هو لأنّ صبّ الـماء على الـجزء الـعا لـي يوجب غسل الأجزاء الـسافلـة الـمسامتـة له، و لا وجه
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 26، الـحديث 9.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 26، الـحديث 2.
(الصفحة 113)
للأمر بصبّ الـماء على الـمنكب مع كون الـمراد الـرقبـة أيضاً، لأنّه خلاف الـمتعارف.
و با لـجملـة فجعل الـرأس قسيماً للمنكبين ـ اللذين يكون الـمقصود بهما هما مع جميع الأجزاء الـواقعـة تحتهما ـ دليل على كون الـمراد به أعمّ من الـرقبـة، كما أنّه أعمّ من الـوجه.
و أمّا تخصيص غسل الـوجه با لـذكر، بعد الأمر بصبّ الـماء على الـرأس في روايـة أبي بصير، إن دلّ على الـمغايرة فمقتضاه الـترتيب بين الـرأس و الـوجه أيضاً، مع أنّه لم يقل به أحد، و إلاّ فلا يدلّ على خروج الـرقبـة منه.
ولكن مع ذلك كلّه لاينبغي ترك الاحتياط با لـكيفيّـة الـمذكورة في الـمتن، خروجاً عن شبهـة الـخلاف، و إن كانت ضعيفـة جدّاً، هذا ما يتعلّق بغسل الـرأس.
و أمّا الـجانبان فا لـترتيب بينهما في الـغسل ـ بتقديم الأيمن على الأيسر ـ هو الـمشهور بين الأصحاب على ما ادّعاه غير واحد، بل عن جماعـة دعوى الإجماع عليه، و عن جماعـة دعوى الإجماع على عدم الـفصل في الـترتيب بين الـرأس و الـجانبين، و بينهما.
و عن «الانتصار» و «ا لـذكرى» الإجماع على عدم الـفصل بين الـترتيب في الـوضوء، و بينه في جميع أعضاء الـغسل.
ولكنّه مال إلى الـنفي جماعـة، كا لـبهائي، و الـمجلسي، و صاحبي «ا لـمدارك» و «ا لـذخيرة»، بل نسب إلى الـصدوقين و بعض آخر أيضاً.
و قد استدلّ على الـمشهور مضافاً إلى ذلك ـ بصحيحـة زرارة الـمتقدّمـة، الـمعبّرة با لـمنكبين الأيمن و الأيسر، الـعاطفـة للثاني على الأوّل با لـواو.
و اُورد عليه: بعدم دلالـة الـواو على الـترتيب عند الـجمهور.
(الصفحة 114)
و اُجيب: بأنّه يستفاد من الـروايـة كون الـجسد في الـغسل ثلاثـة أجزاء: الـرأس، و الـمنكب الأيمن، و الـمنكب الأيسر، و لا أحد ممّن يقول بذلك إلاّ و هو قائل با لـترتيب، إذ الـقائل بعدمه يدّعي أنّه جزءان: الـرأس، و الـجسد، أو يقال: إنّ الـمنساق إلى الـذهن من هذه الـعبارة ـ مع قطع الـنظر عن قاعدة الـواو ـ الـترتيب.
و نوقش في هذا الـجواب: بأنّ الـعرف و الـعادة يشهدان بأنّ من يريد أن يكلّف عبده بغسل جسده بالأكفّ بعد غسل رأسه، ربّما يعبّر بقوله: اغسل رأسك، ثمّ أفض الـماء على جسدك كلّه، و قد يعبّر بقوله: صبّ كفّاً أو كفّين ـ مثلاً ـ على هذا الـطرف، و كذا صبّ كفّاً على ذلك الـطرف، و أجر الـماء الـمصبوب على سائر جسدك، كما وقع الـتعبير به في هذه الـروايـة.
و مجرّد عدم إمكان إيجاد الـفعلين دفعـة، و إن كان موجباً لاستشعار الـترتيب، من تعلّق الـطلب بأحدهما قبل الآخر، إلاّ أنّه مجرّد إشعار لايبلغ مرتبـة الـدلالـة.
و با لـغ الـمناقش في ذلك بحيث أنكر كون الـمقصود من الـروايـة الـترتيب بين الـمنكبين ولو على الـقول بإفادة الـواو الـترتيب، كما عن الـفرّاء خلافاً للجمهور; نظراً إلى أنّه من الـمستبعد جدّاً، بل الـمستحيل عقلاً أن يكون غرض الإمام بيان وجوب الـفراغ من الـجانب الأيمن حتّى باطن الـرجلين، ثمّ الـشروع في الـجانب الأيسر، و يعبّر بمثل هذه الـعبارة الـتي أنكر ظهورها في الـمدّعى أغلب من تصدّى للاستدلال بها، مع كون ما اُريد منها من الأفراد الـنادرة، الـتي لاتكاد تتحقّق في الـخارج، ممّن يريد غسل جسده إلاّ بملزم تعبّدي، و لاينصرف الـذهن إليه إلاّ با لـتنصيص عليه.
و يرد على أصل الـمناقشـة: أنّ إرادة تكليف الـعبد بغسل الـجسد بالأكفّ بعد غسل رأسه، لاتكاد تجتمع مع تنصيف الـجسد، و تخصيص كلّ نصف بمقدار، خصوصاً