(الصفحة 115)
مع الـتصريح بالأيمن و الأيسر، ولو كان الـمراد هو الـغسل من دون الـترتيب، لما كان ملزم للتنصيف مع الـكيفيـة الـمذكورة، و ليس هذا راجعاً إلى مفهوم اللقب حتّى يمنع بعدم ثبوت الـمفهوم له، بل إلى ما هو الـمتبادر و الـمتفاهم عند الـعرف من الـعبارة.
و على الـمبا لـغـة فيها: أنّه لو فرض كون الـواو مفيدة لمعنى «ثمّ» فأيّ قصور يبقى في إفادة الـترتيب؟! كما استفيد با لـنسبـة إلى الـرأس من نفس كلمتها; إذ لم يتوهّم أحد كون الـمراد نفس الـمنكبين، بعد وضوح لزوم غسل الـجسد كلّه في غسل الـجنابـة، خصوصاً لمثل زرارة، فا لـمراد هما الـمنكبان مع الأجزاء الـسافلـة الـواقعـة تحتهما، فأيّ فرق يبقى بينهما، و بين الـترتيب الـمدلول عليه في الـرأس؟! و إنكار أغلب الـمتصدّين للاستدلال إنّما هو لأجل إنكارهم دلالـة الـواو على الـترتيب، و إلاّ فمع الـبناء على الـدلالـة ـ كما هو الـمفروض ـ لم يعلم إنكار من أحد، فالإنصاف تماميّـة دلالـة الـروايـة.
و أمّا موثّقـة سماعـة، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال:
«إذا أصاب الـرجل جنابـة، فأراد الـغسل، فليفرغ على كفّيه و ليغسلهما دون الـمرفق، ثمّ يدخل يده في إنائه، ثمّ يغسل فرجه، ثمّ ليصبّ على رأسه ثلاث مرّات ملاء كفّيه، ثمّ يضرب بكفّ من ماء على صدره، و كفّ بين كتفيه، ثمّ يفيض الـماء على جسده كلّه، فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع ما وصفت فلا بأس».(1)
فا لـظاهر أنّها لاتكون في مقام بيان كيفيـة الـغسل، بل الاُمور الـموصوفـة فيها إنّما هي مقدّمـة للغسل، يؤتى بها قبله استحباباً.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 26، الـحديث 8.
(الصفحة 116)
و الـشاهد لذلك ـ مضافاً إلى ظهور قوله:
«إذا أصاب الـرجل جنابـة، فأراد الـغسل» في كون هذه الاُمور إنّما يؤتى بها قبله، و أنّ نفس الـغسل معلومـة، لاتكون الـروايـة بصدد بيانها، و إلى قوله:
«فما انتضح ...» نظراً إلى أنّه مع تماميّـة الـغسل لايبقى ماء منتضح في الإناء ـ أنّ ضرب كفّ من الـماء على الـصدر، و كفّ بين الـكتفين، لايكون في الـغسل واجباً أصلاً، فضلاً عن لزوم الـترتيب بينه و بين الـرأس أوّلاً بتقدّمه عليه، و بينه و بين الـجسد ثانياً بتأخّره عنه.
فلا وجه لجعل الـموثّقـة دالّـة على نفي الترتيب بين الجانبين، كما في «المستمسك» فتدبّر.
ثمّ إنّه قد يستدلّ لثبوت الـترتيب بين الـجانبين بالأخبار الـمستفيضـة، الـواردة في كيفيـة غسل الـميّت، الـظاهرة في وجوب الـترتيب بينهما، بضميمـة الأخبار الـكثيرة الـمصرّحـة بأنّ غسل الـميّت بعينه هو غسل الـجنابـة، و إنّما وجب تغسيله لصيرورته جنباً عند الـموت.
و في بعض الـروايات أنّه مثله، كروايـة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال:
«غسل الـميّت مثل غسل الـجنابـة، و إن كان كثير الـشعر; فردّ عليه الـماء ثلاث مرّات».(1)
و يرد عليه: ما اُفيد من أنّ ما دلّ على أنّه غسل جنابـة، إن كان الـمراد منه أنّه غسل جنابـة تنزيلاً، فمقتضاه ترتيب أحكام غسل الـجنابـة عليه، لا ترتيب أحكامه على غسل الـجنابـة.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب غسل الـميّت، الـباب 3، الـحديث 1.
(الصفحة 117)
و إن كان الـمراد أنّه غسل جنابـة حقيقـة، فوجوب الـترتيب فيه لايوجب الـتعدّي منه إلى الـمقام، لإمكان الـفرق بين جنابـة الـحيّ و الـميّت; و لذا لايتوهّم الـتعدّي في غير الـترتيب من الأحكام الـمختصّـة به، كا لـسدر، و الـكافور، و غيرهما.
و من الـجائز أن يكون إلزام الـشارع بهذا الـقسم من الـغسل، أعني ما كان مرتّباً بالإضافـة إلى الـميّت، مسبّباً عن خصوصيـة فيه; لكونه تعظيماً للميّت، أو كون غيره توهيناً له بإقامته على قدميه أو إقعاده، فلا يبقى مجال لإلغاء الـخصوصيـة.
و أمّا روايـة محمّد بن مسلم الـدالّـة على المماثلـة، فا لـعرف لايساعد على استفادة عموم الـمنزلـة منها، فإنّ الـمنسبق إلى الـذهن في مثله، هو إرادة تشبيه غسل الـميّت بغسل الـجنابـة في الـكيفيّات الـمعهودة الـمعتبرة فيه، دون الـعكس.
ولكنّ الإنصاف: دلالـة هذه الـطائفـة على اعتبار الـترتيب كما هو الـمتفاهم عند الـعرف، فإنّه مع عدم كون الـنظر إلى الـترتيب أيضاً لايبقى وجه للعينيـة و الـمماثلـة، و اعتبار خصوصيات زائدة فيه من ثلاث تغسيلات، و الـسدر، و الـكافور، قد علم عدمه في غسل الـجنابـة با لـضرورة، فلايصير شاهداً على عدم اعتبار الـترتيب.
و دعوى الـفرق بين جنابـة الـحيّ و الـميّت من هذه الـجهـة واضحـة الـمنع، كما أنّ الـفرق بين كونه راجعاً إلى الـتغسيل ـ و الـبحث في الـمقام إنّما هو عن الـغسل ـ أيضاً كذلك.
و يؤيّد ما ذكرنا ما يقال من أنّه: لو كانت كيفيـة غسل الـجنابـة مخا لـفـة لغسل الـميّت من حيث اعتبار الـترتيب و عدمه، لوجب في كلّ مقام أمر فيه با لـغسل الاستفصال عن أنّه كغسل الـجنابـة أو غسل الأموات، فمنه يستكشف أنّ أصل
(الصفحة 118)
ا لـكيفيـة في جميع الـموارد واحدة، غايـة الأمر اعتبار اُمور زائدة في غسل الـميّت، مع الـقطع بالاختصاص به.
نعم، ربّما يدّعى دلالـة بعض الـروايات على الـعدم، مضافاً إلى الإطلاقات الـواردة في مقام الـبيان، الآمرة بغسل الـجسد كلّه بعد غسل الـرأس، من دون تعرّض لاعتبار الـترتيب بين الـجانبين، و هي صحيحـة حكم بن حكيم قال: سأ لـت أباعبدا للّه (عليه السلام)عن غسل الـجنابـة.
فقال:
«أفض على كفّك الـيمنى من الـماء فاغسلها، ثمّ اغسل ما أصاب جسدك من أذى، ثمّ اغسل فرجك، و أفض على رأسك و جسدك فاغتسل، فإن كنت في مكان نظيف فلايضرّك أن لاتغسل رجليك، و إن كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك».(1)
نظراً إلى ظهورها في إرادة غسل الـرجلين، بعد الـفراغ عن غسل سائر الـجسد، فيدلّ على عدم اشتراط الترتيب بين الجانبين، و لايتفاوت الحال في ذلك بين أن يراد بغسل الرجلين غسلهما جزء من الغسل، أو لإزا لة القذارة الـتي يتوقّف عليها الـغسل.
هذا، ولكنّ الـظاهر كون غسل الـرجلين في الـروايـة أمراً زائداً على الـغسل، متأخّراً عن تماميته، كما يدلّ عليه الـتفريع با لـفاء.
و الـقذارة الـعارضـة له في هذه الـصورة إنّما كان عروضها بعد الـفراغ، و إلاّ فالأذي الـعارض للجسد الـشامل للرجلين قطعاً قد اُمر بغسله قبل الـشروع في الاغتسال، فتدبّر.
- (1)
أورد صدرها في وسائل الـشيعـة، في الـباب 26، من أبواب الـجنابـة، الـحديث 7، و ذيلها في الـباب 27، الـحديث 1.
(الصفحة 119)
و صحيحـة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: قلت له: رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده من غسل الـجنابـة.
فقال:
«إذا شكّ و كانت به بلّـة و هو في صلاته، مسح بها عليه، و إن كان استيقن رجع فأعاد عليهما، ما لم يصبّ بلّـة، فإن دخله الـشكّ، و قد دخل في صلاته فليمض في صلاتـه، و لاشيء عليـه، و إن استيقن رجع فأعاد عليـه الـماء، و إن رآه وبـه بلّـة مسح عليه، و أعاد الـصلاة باستيقان، و إن كان شاكّاً فليس عليـه في شكّه شيء، فلـيمض في صلاته».(1)
نظراً إلى أنّ ظاهرها بمقتضى ترك الاستفصال كفايـة غسل خصوص الـموضع الـمتروك، و إن كان في الـطرف الأيمن، و هذا ينافي اشتراط الـترتيب، بل ظاهرها كفايـة مسح الـموضع با لـبلّـة الـتي رآها فيه، من دون حاجـة إلى ماء خارجي، و من المعلوم عدم كفايتها على وجه يحصل معه الترتيب، على تقدير كونه في الطرف الأيمن.
هذا، ولكنّ الـظاهر أنّ الـروايـة مضطربـة من جهـة فرض الـشكّ، و قد دخل في الـصلاة ثلاث مرّات، حكم في الاُولى با لـمسح با لـبلّـة عليه، و في الاُخريين با لـمضي في الـصلاة، و أنّه لاشيء عليه.
و من جهـة الـحكم با لـرجوع و الإعادة عليهما، الـظاهر في كون الـمراد با لـضمير هو الـصلاة و الـغسل، مع أنّ إعادة الـغسل من الأوّل لا وجه لها، و إن رجع الـضمير إلى بعض الـذراع، و بعض الـجسد الـمفروضين في الـسؤال، فهو لايجتمع مع كون الـسؤال عن واحد منهما، لاعن مجموعهما.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 41، الـحديث 2.