(الصفحة 112)
نظراً إلى أنّه لم يكن موجب لحلق رأسها و ضربها، فلم لم ينكر عليها الإمام (عليه السلام) ولو بعد وقوعه، و اقتصر بالإخبار بالإحباط بعد مضيّ الـعامّ.
ا لـجهـة الـثانيـة: في كون الـعنق من الـرأس، فيجب غسله معه بلا خلاف فيه ظاهراً، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه، لكنّه استشكل فيه جماعـة من الـمتأخّرين، كا لـخراساني في «ا لـذخيرة» و بعض آخر.
و منشأ الإشكال: عدم دخول الـرقبـة في مفهوم الـرأس، و عدم ثبوت كون الـرأس حقيقـة فيما يعمّها، مضافاً إلى إشعار روايـة أبي بصير الـمتقدّمـة، الـمشتملـة على قوله (عليه السلام):
«تصبّ الـماء على رأسك ثلاث مرّات، و تغسل وجهك، و تفيض الـماء على جسدك».(1)
بعدم دخول الـوجه في الـرأس، فضلاً عن دخول الـرقبـة فيه.
و الـحقّ: أنّه إن اُطلق الـرأس في مقابل مثل الـوجه، كما في آيـة الـوضوء، فهو كما لايشمل الـرقبـة لايعمّ الـوجه أيضاً، و إن اُطلق في مقابل الـجانبين الأيمن أو الأيسر، فهو يعمّ الـرقبـة قطعاً، فضلاً عمّا إذا اُطلق في مقابل الـمنكبين، كما في صحيحـة زرارة الـمتقدّمـة أيضاً، الـمشتملـة على قوله:
«ثمّ صبّ على رأسه ثلاثـة أكفّ، ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين، و على منكبه الأيسر مرّتين(2)
»، فإنّ الـمتبادر منها ليس إلاّ إرادة غسل ما فوق الـمنكب با لـماء الـذي يصبّ على الـرأس، و ما تحت الـمنكب با لـماء الـذي يصبّ على الـمنكب.
و الـتعبير با لـمنكب مع كون الـمراد هو مجموع الـجانبين، إنّما هو لأنّ صبّ الـماء على الـجزء الـعا لـي يوجب غسل الأجزاء الـسافلـة الـمسامتـة له، و لا وجه
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 26، الـحديث 9.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 26، الـحديث 2.
(الصفحة 113)
للأمر بصبّ الـماء على الـمنكب مع كون الـمراد الـرقبـة أيضاً، لأنّه خلاف الـمتعارف.
و با لـجملـة فجعل الـرأس قسيماً للمنكبين ـ اللذين يكون الـمقصود بهما هما مع جميع الأجزاء الـواقعـة تحتهما ـ دليل على كون الـمراد به أعمّ من الـرقبـة، كما أنّه أعمّ من الـوجه.
و أمّا تخصيص غسل الـوجه با لـذكر، بعد الأمر بصبّ الـماء على الـرأس في روايـة أبي بصير، إن دلّ على الـمغايرة فمقتضاه الـترتيب بين الـرأس و الـوجه أيضاً، مع أنّه لم يقل به أحد، و إلاّ فلا يدلّ على خروج الـرقبـة منه.
ولكن مع ذلك كلّه لاينبغي ترك الاحتياط با لـكيفيّـة الـمذكورة في الـمتن، خروجاً عن شبهـة الـخلاف، و إن كانت ضعيفـة جدّاً، هذا ما يتعلّق بغسل الـرأس.
و أمّا الـجانبان فا لـترتيب بينهما في الـغسل ـ بتقديم الأيمن على الأيسر ـ هو الـمشهور بين الأصحاب على ما ادّعاه غير واحد، بل عن جماعـة دعوى الإجماع عليه، و عن جماعـة دعوى الإجماع على عدم الـفصل في الـترتيب بين الـرأس و الـجانبين، و بينهما.
و عن «الانتصار» و «ا لـذكرى» الإجماع على عدم الـفصل بين الـترتيب في الـوضوء، و بينه في جميع أعضاء الـغسل.
ولكنّه مال إلى الـنفي جماعـة، كا لـبهائي، و الـمجلسي، و صاحبي «ا لـمدارك» و «ا لـذخيرة»، بل نسب إلى الـصدوقين و بعض آخر أيضاً.
و قد استدلّ على الـمشهور مضافاً إلى ذلك ـ بصحيحـة زرارة الـمتقدّمـة، الـمعبّرة با لـمنكبين الأيمن و الأيسر، الـعاطفـة للثاني على الأوّل با لـواو.
و اُورد عليه: بعدم دلالـة الـواو على الـترتيب عند الـجمهور.
(الصفحة 114)
و اُجيب: بأنّه يستفاد من الـروايـة كون الـجسد في الـغسل ثلاثـة أجزاء: الـرأس، و الـمنكب الأيمن، و الـمنكب الأيسر، و لا أحد ممّن يقول بذلك إلاّ و هو قائل با لـترتيب، إذ الـقائل بعدمه يدّعي أنّه جزءان: الـرأس، و الـجسد، أو يقال: إنّ الـمنساق إلى الـذهن من هذه الـعبارة ـ مع قطع الـنظر عن قاعدة الـواو ـ الـترتيب.
و نوقش في هذا الـجواب: بأنّ الـعرف و الـعادة يشهدان بأنّ من يريد أن يكلّف عبده بغسل جسده بالأكفّ بعد غسل رأسه، ربّما يعبّر بقوله: اغسل رأسك، ثمّ أفض الـماء على جسدك كلّه، و قد يعبّر بقوله: صبّ كفّاً أو كفّين ـ مثلاً ـ على هذا الـطرف، و كذا صبّ كفّاً على ذلك الـطرف، و أجر الـماء الـمصبوب على سائر جسدك، كما وقع الـتعبير به في هذه الـروايـة.
و مجرّد عدم إمكان إيجاد الـفعلين دفعـة، و إن كان موجباً لاستشعار الـترتيب، من تعلّق الـطلب بأحدهما قبل الآخر، إلاّ أنّه مجرّد إشعار لايبلغ مرتبـة الـدلالـة.
و با لـغ الـمناقش في ذلك بحيث أنكر كون الـمقصود من الـروايـة الـترتيب بين الـمنكبين ولو على الـقول بإفادة الـواو الـترتيب، كما عن الـفرّاء خلافاً للجمهور; نظراً إلى أنّه من الـمستبعد جدّاً، بل الـمستحيل عقلاً أن يكون غرض الإمام بيان وجوب الـفراغ من الـجانب الأيمن حتّى باطن الـرجلين، ثمّ الـشروع في الـجانب الأيسر، و يعبّر بمثل هذه الـعبارة الـتي أنكر ظهورها في الـمدّعى أغلب من تصدّى للاستدلال بها، مع كون ما اُريد منها من الأفراد الـنادرة، الـتي لاتكاد تتحقّق في الـخارج، ممّن يريد غسل جسده إلاّ بملزم تعبّدي، و لاينصرف الـذهن إليه إلاّ با لـتنصيص عليه.
و يرد على أصل الـمناقشـة: أنّ إرادة تكليف الـعبد بغسل الـجسد بالأكفّ بعد غسل رأسه، لاتكاد تجتمع مع تنصيف الـجسد، و تخصيص كلّ نصف بمقدار، خصوصاً
(الصفحة 115)
مع الـتصريح بالأيمن و الأيسر، ولو كان الـمراد هو الـغسل من دون الـترتيب، لما كان ملزم للتنصيف مع الـكيفيـة الـمذكورة، و ليس هذا راجعاً إلى مفهوم اللقب حتّى يمنع بعدم ثبوت الـمفهوم له، بل إلى ما هو الـمتبادر و الـمتفاهم عند الـعرف من الـعبارة.
و على الـمبا لـغـة فيها: أنّه لو فرض كون الـواو مفيدة لمعنى «ثمّ» فأيّ قصور يبقى في إفادة الـترتيب؟! كما استفيد با لـنسبـة إلى الـرأس من نفس كلمتها; إذ لم يتوهّم أحد كون الـمراد نفس الـمنكبين، بعد وضوح لزوم غسل الـجسد كلّه في غسل الـجنابـة، خصوصاً لمثل زرارة، فا لـمراد هما الـمنكبان مع الأجزاء الـسافلـة الـواقعـة تحتهما، فأيّ فرق يبقى بينهما، و بين الـترتيب الـمدلول عليه في الـرأس؟! و إنكار أغلب الـمتصدّين للاستدلال إنّما هو لأجل إنكارهم دلالـة الـواو على الـترتيب، و إلاّ فمع الـبناء على الـدلالـة ـ كما هو الـمفروض ـ لم يعلم إنكار من أحد، فالإنصاف تماميّـة دلالـة الـروايـة.
و أمّا موثّقـة سماعـة، عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) قال:
«إذا أصاب الـرجل جنابـة، فأراد الـغسل، فليفرغ على كفّيه و ليغسلهما دون الـمرفق، ثمّ يدخل يده في إنائه، ثمّ يغسل فرجه، ثمّ ليصبّ على رأسه ثلاث مرّات ملاء كفّيه، ثمّ يضرب بكفّ من ماء على صدره، و كفّ بين كتفيه، ثمّ يفيض الـماء على جسده كلّه، فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع ما وصفت فلا بأس».(1)
فا لـظاهر أنّها لاتكون في مقام بيان كيفيـة الـغسل، بل الاُمور الـموصوفـة فيها إنّما هي مقدّمـة للغسل، يؤتى بها قبله استحباباً.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 26، الـحديث 8.
(الصفحة 116)
و الـشاهد لذلك ـ مضافاً إلى ظهور قوله:
«إذا أصاب الـرجل جنابـة، فأراد الـغسل» في كون هذه الاُمور إنّما يؤتى بها قبله، و أنّ نفس الـغسل معلومـة، لاتكون الـروايـة بصدد بيانها، و إلى قوله:
«فما انتضح ...» نظراً إلى أنّه مع تماميّـة الـغسل لايبقى ماء منتضح في الإناء ـ أنّ ضرب كفّ من الـماء على الـصدر، و كفّ بين الـكتفين، لايكون في الـغسل واجباً أصلاً، فضلاً عن لزوم الـترتيب بينه و بين الـرأس أوّلاً بتقدّمه عليه، و بينه و بين الـجسد ثانياً بتأخّره عنه.
فلا وجه لجعل الـموثّقـة دالّـة على نفي الترتيب بين الجانبين، كما في «المستمسك» فتدبّر.
ثمّ إنّه قد يستدلّ لثبوت الـترتيب بين الـجانبين بالأخبار الـمستفيضـة، الـواردة في كيفيـة غسل الـميّت، الـظاهرة في وجوب الـترتيب بينهما، بضميمـة الأخبار الـكثيرة الـمصرّحـة بأنّ غسل الـميّت بعينه هو غسل الـجنابـة، و إنّما وجب تغسيله لصيرورته جنباً عند الـموت.
و في بعض الـروايات أنّه مثله، كروايـة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال:
«غسل الـميّت مثل غسل الـجنابـة، و إن كان كثير الـشعر; فردّ عليه الـماء ثلاث مرّات».(1)
و يرد عليه: ما اُفيد من أنّ ما دلّ على أنّه غسل جنابـة، إن كان الـمراد منه أنّه غسل جنابـة تنزيلاً، فمقتضاه ترتيب أحكام غسل الـجنابـة عليه، لا ترتيب أحكامه على غسل الـجنابـة.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب غسل الـميّت، الـباب 3، الـحديث 1.