(الصفحة 216)
ولو سلّم دلالـة الـروايتين على وجوب الـطلب، فلا شبهـة في عدم دلالتهما على الـوجوب الـنفسي; لظهور الأوامر في الإرشاد في مثل الـمقام، فهو إمّا إرشاد إلى حكم الـعقل، و إمّا إرشاد إلى الـشرطيـة. لاسبيل إلى الـثاني; لأنّ الـظاهر من قوله (عليه السلام) في روايـة الـسكوني: «يطلب الـماء في الـسفر» أنّ الـطلب واجب لتحصيل الـماء، لا لشرطيته في الـتيمّم، كما أنّ الـظاهر من الـصحيحـة أيضاً ذلك، و أنّ شرط الـتيمّم هو خوف فوت الـوقت، لاا لـطلب، فلا محيص عن حمل الـروايتين ـ على تقدير دلالتهما على الـوجوب ـ على الإرشاد إلى ما هو مقتضى حكم الـعقل.
و يترتّب على ذلك: أنّ لزوم الـطلب في الـجوانب الأربع إنّما هو مع احتمال وجود الـماء فيها، و إلاّ فمع الـعلم بعدمه في واحد منها أو أزيد أو في جميعها لامعنى لوجوب الـطلب في الـجهـة الـتي يعلم بعدمه فيها.
نعم، لو علم بوجوده فوق الـمقدار يجب تحصيله مع بقاء الـوقت و عدم تعسّره، لخروجه عن منصرف روايـة الـسكوني قطعاً، فيرجع في حكمه إلى ما هو ما مفاد الآيـة، و مقتضى حكم الـعقل، نعم مع ضيق الـوقت أو تعسّر تحصيل الـماء، كما إذا كان الـماء بعيداً، يسقط الـوجوب.
و قد انقدح ممّا ذكرنا: بطلان ما حكي عن الـقائلين بكون وجوب الـطلب نفسياً من لزوم الـطلب ولو مع الـعلم بعدم وجود الـماء; لضعف مبناهم مع أنّ نفس مفهوم الـطلب لايجتمع إلاّ مع رجاء الـوصول إلى الـمطلوب، و احتمال حصوله، و لايلتئم مع الـعلم با لـعدم.
ثمّ الـظاهر أنّ الـظنّ بوجود الـماء في الـزائد على الـمقدار لايكون كا لـعلم به; لعدم الـدليل على اعتباره، و عدم صدق الـوجدان معه، نعم لو بلغ إلى مرتبـة الاطمئنان
(الصفحة 217)
ا لـذي يكون علماً عرفياً، لايبعد وجوب الـطلب معه، لصدق الـوجدان حينئذ كما هو ظاهر.
ا لـثا لـث: في تفسير الـحزونـة و الـسهولـة
ا لـواردتين في روايـة الـسكوني و فتاوى الأصحاب، الـتي قد عرفت أنّهم قد عبّروا فيها بمتنها.
فنقول: قال في «ا لـصحاح»: «ا لـسهل نقيض الـجبل، و الـحزن ما غلظ من الأرض و فيها حزونـة»، و الـمستفاد من تفسير الـحزن كون الأرض مأخوذة في معناه، و أنّه عبارة عن الأرض الـتي كانت فيها غلظـة، ولكن ذيله يشعر بل يدلّ على أنّ الـحزن بمعنى مطلق ما كان واجداً لوصف الـحزونـة، أي الـغلظـة.
و يؤيّد الأوّل: ما عن «ا لـقاموس» و «ا لـمجمع» من تفسيره بما غلظ من الأرض، و كذا ما عن الأصمعي من أنّ الـحزن الـجبال الـغلاظ.
و يؤيّد الـثاني: ما في «ا لـمنجد» من قوله: «حزن يحزن حزونـة، الـمكان صار حزناً أي غليظاً». فإنّه كا لـصريح في أنّ الـحزن هو نفس الـغلظـة الـتي هي معنى وصفي عامّ، و إن قال بعده: «ا لـحزن ما غلظ من الأرض».
قال الـماتن دام ظلّه في «رسا لـة الـتيمّم»: «و لايبعد أن يكون الاحتمال الـثاني أرجح، فيقال: أرض سهلـة و حزنـة، و رجل سهل الـخلق، و نهر سهل أي ذو سهولـة، و سهل الـموضع، بل و أسهل الـدواء بمعنى، و يفهم بالانتساب إلى الـمتعلّقات كيفيـة الـسهولـة، و كذا الـحزن، فإذا قيل للجبال الـغلاظ الـحزن كصرد، و للشاة الـسيّئـة الـخلق الـحزون، و لقدمـة الـعرب على الـعجم في أوّل قدومهم الـذي أسحقوا فيه ما
(الصفحة 218)
أسحقوا من الـدور و الـضياع الـحزانـة، يكون بمعنى واحد، بل لااستبعد أن يكون الـحزن مقابل الـفرح من هذا الأصل و إن اختلفت الـهيآت».
ثمّ إنّه بناء على مدخليـة الأرض في معنى الـحزونـة، لابدّ من ملاحظـة الـغلظـة و الـسهولـة بالإضافـة إلى ذات الأرض، فا لـحزونـة حينئذ عبارة عن الأرض الـتي تكون با لـذات واجدة للغلظـة، ككونها جبلاً مثلاً، و أمّا ما لم تكن كذلك، فلا تكون حزونـة ولو كانت مشتملـة على الـغلظـة الـعرضيـة باعتبار وجود الأشجار و إحداثها فيها، إلاّ أن يقال: إنّ اعتبار الأرض في معنى الـحزونـة لاينافي شمولها لما إذا كانت الـغلظـة عرضيـة، و عليه فإسراء الـحكم إلى الأراضي الـمشجّرة ـ كما في «ا لـعروة» ـ لايحتاج إلى دعوى إلغاء الـخصوصيـة حتّى يقال: إنّ عهدتها على مدّعيها.
و كيف كان: فبناء على اعتبار الأرض في معنى الـحزونـة، لايبقى فرق بين جعل الـكون في قوله (عليه السلام) في روايـة الـسكوني: «إن كانت الـحزونـة فغلوة ...» تامّاً و الـحزونـة فاعلاً، أو جعله ناقصاً و الأرض الـمحذوفـة اسماً لاعتبار الأرض على كلا الـتقديرين، فلا يكون فرق في الـبين.
و أمّا على تقدير عدم اعتباره فيه، فعلى تقدير جعل الـكون ناقصاً، يكون الأمر كما مرّ، و أمّا على تقدير جعله تامّاً، فحيث لاتكون الأرض حينئذ معتبرة في الـمفهوم، و لاتكون محذوفـة اسماً، فا لـملاك وجود الـمانع و تحقّق الـغلظـة ولو كان مثل الـشجر و الـثلج و نحوهما، و حيث إنّه لايحصل للنفس طمأنينـة بعدم اعتبار الأرض في معنى الـحزونـة، و لالعدم جعل الـكون ناقصاً، فلا محيص عن الاحتياط لدلالـة الآيـة و حكم الـعقل على لزوم الـطلب زائداً على الـمقدار الـمذكور في روايـة الـسكوني، فيحتاط بالأخذ بالأكثر، كما لايخفى.
(الصفحة 219)
ا لـرابع: في تفسير الـغلوة الـواقعـة في الـروايـة
فنقول: قال في «ا لـصحاح»: «غلوت با لـسهم غلواً إذا رميت به أبعد ما تقدر عليه، و الـغلوة الـغايـة رميـة سهم»، و قال: «غلا يغلو غلواً، أي جاوز فيه الـحدّ»، و يظهر منه مجيئها بمعنى رميـة سهم أيضاً.
و قال في «ا لـقاموس»: «غلا في الأمر غلواً: جاوز حدّه، و با لـسهم غلواً و غلواً رفع يديه لأقصى الـغايـة» إلى أن قال: «فهو رجل غلاء كسماء، أي بعيد الـغلو با لـسهم، و الـسهم ارتفع في ذهابه و جاوز الـمدى».
و في «ا لـمنجد»: «غلا يغلو غلواً و غلوا الـسهم و با لـسهم: رمى به أقصى الـغايـة» إلى أن قال: «ا لـغلوة الـمرّة من غلا الـغايـة، و هي رميـة سهم أبعد ما تقدر عليه الـمغلى، و الـمغلاة سهم يغلى به، أي يرمى به أقصى الـغايـة».
و الـمستفاد منها أنّ الـغلوة لاتكون بمعنى مطلق رميـة سهم، بل يكون معناها مقيّداً بأقصى الـغايـة و أبعد مقدور الـرامي.
نعم، ذكر في «مجمع الـبحرين»: «و في الـحديث: ذكر الـغلوة، و هي ـ با لـفتح ـ مقدار رميـة سهم». ولكنّ الـظاهر أنّه لايلائم مع معنى هذه الـمادّة الـمستعملـة في موارد كثيرة، كا لـغليان في مثل الـعصير، و الـغلوّ في رديف الـمبا لـغـة، و الـغلاة في فرق الـمسلمين، و الـغلاء في الـسعر، و الـغا لـيـة الـتي تكون مركّبـة من عدّة من الـطيب كأنّها هي نهايـة مراتب الـطيب، و أغلى الـثمن في شراء الـزوجـة، و نحوها من موارد الاستعمال، فا لـظاهر بحسب اللغـة ما ذكره جلّ اللغويين من كونها عبارة عن الـرميـة لأقصى الـغايـة.
و أمّا الـفقهاء: فقد اختلفت كلماتهم، فجملـة منهم قد عبّروا بمتن روايـة الـسكوني
(الصفحة 220)
ا لـمتقدّمـة من الـغلوة و الـغلوتين، و بعضهم بدّل الـغلوتين بغلوة سهمين، و طائفـة منهم كا لـشيخ في بعض كتبه و الـمفيد و أبي ا لـصلاح و جمع آخر قدّر الـمقدار برميـة سهم أو سهمين.
و الـظاهر أنّ هذا الـتفسير اجتهاد منهم و إلاّ فا للفظ الـواقع في الـروايـة هو الـمذكور، و قد عرفت أنّ معنى الـغلوة ليس مطلق الـرميـة ولو حمل كلام هذه الـجماعـة على الـتعريف الإجما لـي غير الـمنافي للقيد الـمذكور، لكنّه يوجد فيهم من لايكون كلامه قابلاً للحمل الـمذكور، لتصريحه بخلافه، ككاشف الـغطاء (قدس سره) قال: «ا لـغلوة الـرميـة با لـسهم الـمتوسّط في الـقوس الـمتوسّط من الـرامي الـمتوسّط مع الـحا لـة الـمتوسّطـة في الـهواء الـمتوسّط و الـوضع الـمتوسّط و الـجذب و الـدفع الـمتوسّطين»، و الـشهيد (قدس سره) في «ا لـمسا لـك» قال: «ا لـغلوة مقدار الـرميـة من الـرامي الـمعتدل بالآلـة الـمعتدلـة»، و غيرهما من بعض مقاربي عصرنا.
ولكنّه لادليل على هذا الـمعنى مع كونه مخا لـفاً لللغـة، بل الـعرف، فا لـمعتبر في الـرمي هو الـرمي إلى أقصى الـغايـة و أبعد ما يقدر عليه الـرامي، نعم يعتبر في الـرامي و الآلـة و سائر الـجهات الـمتوسّط; لأنّه الـمتعارف، فلا ينبغي الإشكال فيما ذكر.
إنّما الإشكال في الـمقام في عدم إمكان تعيين هذا الـمقدار خارجاً في هذه الأزمنـة; لعدم تداول الـرمي با لـسهم فيها، و عدم وجود الـرامي الـماهر الـمتدرّب في فنّ الـرمي، و من الـمعلوم أنّ الـمعتبر هو رمي مثله، فا لـلازم في موارد الـشكّ الاحتياط، و الأخذ با لـمقدار الـمحتمل الـعقلائي; لما عرفت من دلالـة الآيـة، و اقتضاء حكم الـعقل وجوب الـطلب إلى حدّ الـيأس. و أنّ روايـة الـسكوني لا دلالـة لها على أصل إيجابه، بل هي مبنيـة لمقداره، فمع الـشكّ في تحقّقه يجب الـرجوع إلى
|