(الصفحة 218)
أسحقوا من الـدور و الـضياع الـحزانـة، يكون بمعنى واحد، بل لااستبعد أن يكون الـحزن مقابل الـفرح من هذا الأصل و إن اختلفت الـهيآت».
ثمّ إنّه بناء على مدخليـة الأرض في معنى الـحزونـة، لابدّ من ملاحظـة الـغلظـة و الـسهولـة بالإضافـة إلى ذات الأرض، فا لـحزونـة حينئذ عبارة عن الأرض الـتي تكون با لـذات واجدة للغلظـة، ككونها جبلاً مثلاً، و أمّا ما لم تكن كذلك، فلا تكون حزونـة ولو كانت مشتملـة على الـغلظـة الـعرضيـة باعتبار وجود الأشجار و إحداثها فيها، إلاّ أن يقال: إنّ اعتبار الأرض في معنى الـحزونـة لاينافي شمولها لما إذا كانت الـغلظـة عرضيـة، و عليه فإسراء الـحكم إلى الأراضي الـمشجّرة ـ كما في «ا لـعروة» ـ لايحتاج إلى دعوى إلغاء الـخصوصيـة حتّى يقال: إنّ عهدتها على مدّعيها.
و كيف كان: فبناء على اعتبار الأرض في معنى الـحزونـة، لايبقى فرق بين جعل الـكون في قوله (عليه السلام) في روايـة الـسكوني:
«إن كانت الـحزونـة فغلوة ...» تامّاً و الـحزونـة فاعلاً، أو جعله ناقصاً و الأرض الـمحذوفـة اسماً لاعتبار الأرض على كلا الـتقديرين، فلا يكون فرق في الـبين.
و أمّا على تقدير عدم اعتباره فيه، فعلى تقدير جعل الـكون ناقصاً، يكون الأمر كما مرّ، و أمّا على تقدير جعله تامّاً، فحيث لاتكون الأرض حينئذ معتبرة في الـمفهوم، و لاتكون محذوفـة اسماً، فا لـملاك وجود الـمانع و تحقّق الـغلظـة ولو كان مثل الـشجر و الـثلج و نحوهما، و حيث إنّه لايحصل للنفس طمأنينـة بعدم اعتبار الأرض في معنى الـحزونـة، و لالعدم جعل الـكون ناقصاً، فلا محيص عن الاحتياط لدلالـة الآيـة و حكم الـعقل على لزوم الـطلب زائداً على الـمقدار الـمذكور في روايـة الـسكوني، فيحتاط بالأخذ بالأكثر، كما لايخفى.
(الصفحة 219)
ا لـرابع: في تفسير الـغلوة الـواقعـة في الـروايـة
فنقول: قال في «ا لـصحاح»: «غلوت با لـسهم غلواً إذا رميت به أبعد ما تقدر عليه، و الـغلوة الـغايـة رميـة سهم»، و قال: «غلا يغلو غلواً، أي جاوز فيه الـحدّ»، و يظهر منه مجيئها بمعنى رميـة سهم أيضاً.
و قال في «ا لـقاموس»: «غلا في الأمر غلواً: جاوز حدّه، و با لـسهم غلواً و غلواً رفع يديه لأقصى الـغايـة» إلى أن قال: «فهو رجل غلاء كسماء، أي بعيد الـغلو با لـسهم، و الـسهم ارتفع في ذهابه و جاوز الـمدى».
و في «ا لـمنجد»: «غلا يغلو غلواً و غلوا الـسهم و با لـسهم: رمى به أقصى الـغايـة» إلى أن قال: «ا لـغلوة الـمرّة من غلا الـغايـة، و هي رميـة سهم أبعد ما تقدر عليه الـمغلى، و الـمغلاة سهم يغلى به، أي يرمى به أقصى الـغايـة».
و الـمستفاد منها أنّ الـغلوة لاتكون بمعنى مطلق رميـة سهم، بل يكون معناها مقيّداً بأقصى الـغايـة و أبعد مقدور الـرامي.
نعم، ذكر في «مجمع الـبحرين»: «و في الـحديث: ذكر الـغلوة، و هي ـ با لـفتح ـ مقدار رميـة سهم». ولكنّ الـظاهر أنّه لايلائم مع معنى هذه الـمادّة الـمستعملـة في موارد كثيرة، كا لـغليان في مثل الـعصير، و الـغلوّ في رديف الـمبا لـغـة، و الـغلاة في فرق الـمسلمين، و الـغلاء في الـسعر، و الـغا لـيـة الـتي تكون مركّبـة من عدّة من الـطيب كأنّها هي نهايـة مراتب الـطيب، و أغلى الـثمن في شراء الـزوجـة، و نحوها من موارد الاستعمال، فا لـظاهر بحسب اللغـة ما ذكره جلّ اللغويين من كونها عبارة عن الـرميـة لأقصى الـغايـة.
و أمّا الـفقهاء: فقد اختلفت كلماتهم، فجملـة منهم قد عبّروا بمتن روايـة الـسكوني
(الصفحة 220)
ا لـمتقدّمـة من الـغلوة و الـغلوتين، و بعضهم بدّل الـغلوتين بغلوة سهمين، و طائفـة منهم كا لـشيخ في بعض كتبه و الـمفيد و أبي ا لـصلاح و جمع آخر قدّر الـمقدار برميـة سهم أو سهمين.
و الـظاهر أنّ هذا الـتفسير اجتهاد منهم و إلاّ فا للفظ الـواقع في الـروايـة هو الـمذكور، و قد عرفت أنّ معنى الـغلوة ليس مطلق الـرميـة ولو حمل كلام هذه الـجماعـة على الـتعريف الإجما لـي غير الـمنافي للقيد الـمذكور، لكنّه يوجد فيهم من لايكون كلامه قابلاً للحمل الـمذكور، لتصريحه بخلافه، ككاشف الـغطاء (قدس سره) قال: «ا لـغلوة الـرميـة با لـسهم الـمتوسّط في الـقوس الـمتوسّط من الـرامي الـمتوسّط مع الـحا لـة الـمتوسّطـة في الـهواء الـمتوسّط و الـوضع الـمتوسّط و الـجذب و الـدفع الـمتوسّطين»، و الـشهيد (قدس سره) في «ا لـمسا لـك» قال: «ا لـغلوة مقدار الـرميـة من الـرامي الـمعتدل بالآلـة الـمعتدلـة»، و غيرهما من بعض مقاربي عصرنا.
ولكنّه لادليل على هذا الـمعنى مع كونه مخا لـفاً لللغـة، بل الـعرف، فا لـمعتبر في الـرمي هو الـرمي إلى أقصى الـغايـة و أبعد ما يقدر عليه الـرامي، نعم يعتبر في الـرامي و الآلـة و سائر الـجهات الـمتوسّط; لأنّه الـمتعارف، فلا ينبغي الإشكال فيما ذكر.
إنّما الإشكال في الـمقام في عدم إمكان تعيين هذا الـمقدار خارجاً في هذه الأزمنـة; لعدم تداول الـرمي با لـسهم فيها، و عدم وجود الـرامي الـماهر الـمتدرّب في فنّ الـرمي، و من الـمعلوم أنّ الـمعتبر هو رمي مثله، فا لـلازم في موارد الـشكّ الاحتياط، و الأخذ با لـمقدار الـمحتمل الـعقلائي; لما عرفت من دلالـة الآيـة، و اقتضاء حكم الـعقل وجوب الـطلب إلى حدّ الـيأس. و أنّ روايـة الـسكوني لا دلالـة لها على أصل إيجابه، بل هي مبنيـة لمقداره، فمع الـشكّ في تحقّقه يجب الـرجوع إلى
(الصفحة 221)
حكم الـعقل. و لامجال للأخذ با لـمقدار الـمتيقّن و نفي الـزائد بالأصل، مع أنّه يمكن أن يقال بلزوم إحراز كون الـطلب با لـمقدار الـمذكور في الـروايـة، لعدم إجما لـه مفهوماً، بل الـشكّ في تحقّقه في الـخارج، و الـلازم في مثله الاحتياط، فتدبّر.
ا لـخامس: حكم عدم كفايـة الـماء للطهارة
أنّه لافرق في سقوط الـتكليف با لـطهارة الـمائيـة و وجوب الـتيمّم، بين عدم الـماء أصلاً، و بين وجود ما لايكفيه لطهارته وضوءً و غسلاً، فعدم الـماء بمقدار الـكفايـة كعدمه الـمطلق; لأنّ الـطهارة الـحدثيـة لاتقبل الـتبعّض، و لاتتلفّق من الـماء و الـتراب، و الـمتبادر من قوله تعا لـى:
(وَ لَمْ تَجِدُوا ماءً) ليس هو عدم وجدان الـماء مطلقاً، نظراً إلى أنّ الـنكرة في سياق الـنفي تقتضي الـعموم، بل هو عدم وجدان الـماء بقدر أن يتوضّأ با لـكيفيّه الـمذكورة في صدر الآيـة، أو أن يغتسل، و قد استظهر عدم الـخلاف في ذلك.
لكنّه حكي عن بعض الـعامّـة الـقول بأنّ الـجنب إذا وجد ماءً لايكفيه لطهارته استعمل الـماء و تيمّم. و في محكيّ «ا لـمنتهى» عن بعض الـشافعيـة الـقول بذلك في الـحدث الأصغر أيضاً; لأنّه واجد للماء ما لم يستعمله، فلا يسوغ له الـتيمّم.
و قد حكي عن الـعلاّمـة في «ا لـنهايـة» أنّه احتمل في الـجنب الـذي يكون واجداً للماء بقدر ما لايكفي لغسله وجوب صرف الـماء إلى بعض أعضائه، لجواز وجود ما يكمل به الـطهارة، و الـموالاة ساقطـة في الـغسل دون الـوضوء.
و من الـمعلوم أنّه لايكون خلافاً فيما نحن فيه من عدم تبعّض الـطهارة و عدم الـتلفيق، مع أنّه ليس بتمام في نفسه; لأنّ احتمال الـقدرة على تكميل الـغسل لايتوقّف
(الصفحة 222)
رعايته على استعمال الماء، بل يمكن حفظه لرجاء وجدان مقدار آخر تكمل به الطهارة.
وكيف كان: فيردّ مثل ذلك ـ مضافاً إلى ظاهر الآيـة با لـمعنى الـمتبادر منه ـ روايات واردة في الـجنب الـواجد للماء بقدر الـوضوء، دالّـة على وجوب التيمّم عليه، كصحيحـة الـحلبي أنّه سأل أباعبدا للّه (عليه السلام) عن الـرجل يجنب و معه قدر ما يكفيه من الـماء للوضوء للصلاة، أيتوضّأ با لـماء، أو يتيمّم؟
قال:
«لا، بل يتيمّم، ألاترى أنّه إنّما جعل عليه نصف الـوضوء».(1)
و مثلها روايـة الـحسين بن أبي ا لـعلاء، إلاّ أنّ في آخرها بدل «نصف الـوضوء»، «نصف الـطهور»(2)
و لعلّ الـتعليل بقوله: «ألا ترى ...» إرشاد إلى ما هو الـمتبادر من الآيـة الـشريفـة بلحاظ دلالتها على أنّ من لم يجد ماء بقدر أن يغتسل، ينتقل فرضه إلى الـتيمّم الـذي هو نصف الـوضوء، بلحاظ عدم وجوب مسح جميع الـوجه و الأيدي، و الـخلو من مسح الـرأس و الأرجل.
و صحيحـة محمّد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) في رجل أجنب في سفر و معه ماء قدر ما يتوضّأ به.
قال:
«يتيمّم و لايتوضّأ».(3)
و مفاد هذه الـروايات و إن كان هو نفي وجوب الـوضوء في الـفرض الـمذكور فيها، دفعاً لتوهّم انتقال الـفرض من الـغسل إلى الـوضوء، إلاّ أنّ الاقتصار على وجوب الـتيمّم و الـسكوت في مقام الـبيان، و عدم إيجاب صرف الـماء في بعض مواضع
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 24، الـحديث 1.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 24، الـحديث 3.
- (3)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 24، الـحديث 4.