(الصفحة 262)
قال:
«يتيمّم أفضل، ألا ترى أنّه إنّما جعل عليه نصف الـطهور».(1)
فلا إشكال فيما إذا خاف على نفسه، و كذلك لاينبغي الإشكال فيما إذا خاف على أولاده و عيا لـه، أو صديقه، بل غلمته، بل حيوانه الـذي يحتاج إليه في سفره إذا كان في حفظه غرض عقلائي، و إن اقتصر في «ا لـشرائع» على عطش نفسه; لشمول دليل نفي الـحرج للجميع، ضرورة أنّه كما يكون الـتكليف با لـوضوء فيما إذا خاف على نفسه الـعطش حرجيّاً، كذلك مع الـخوف عليهم، مضافاً إلى أنّ إعادة الـجواب منكّراً في صحيحـة ابن سنان تدلّ على إطلاق الـعطش، و عدم اختصاصه بنفسه، و إلاّ كان حقّ الـجواب أن يقول فليتيمّم من دون إعادة الـسؤال، سيما بنحو الـتنكير، فهي تفيد توسعـة الـحكم، و كذلك موثّقـة سماعـة الـدالّـة على جواز التيمّم في مورد خوف القلّـة، ضرورة عدم اختصاصه بعطاش الـنفس.
نعم، ربّما يقال: إنّه لامجال للأخذ بإطلاقه، لاقتضائه جواز الـتيمّم مع خوف قلّـة الـماء عن استعما لـه في سائر حوائجه، كطبخه و غسل ثيابه و أوانيه و نحو ذلك ممّا يقطع بعدم مشروعيته لأجله.
ولكنّ الـظاهر انصرافه عن مثل ذلك، فإنّ نفس الـسؤال بلحاظ كون الـرجل في الـسفر و خوف الـقلّـة ظاهرة في الاستعمالات الـضروريـة للماء كا لـشرب، و لاينقدح في ذهن الـسائل توهّم الانتقال إلى الـتيمّم، و صرف الـماء في غسل الـثياب من غير الـنجاسات حتّى يسأل عنه، مع أنّ الـقطع بعدم الـمشروعيـة في الـموارد الـمذكورة لايقتضي إلاّ رفع الـيد عن الإطلاق في خصوص تلك الـموارد، و لامجال لرفع الـيد عنه بالإضافـة إلى مثل الـمقام، فتدبّر.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 25، الـحديث 4.
(الصفحة 263)
بل يمكن أن يقال ـ كما هو مقتضى إطلاق الـمتن ـ بعدم اختصاص الـحكم بما إذا خاف على من يرتبط به أو ما يتعلّق به، بل يشمل ما إذا خاف على إنسان آخر لايرتبط به أصلاً، أو حيوان له كبد حراء يؤذيه الـعطش، لشمول دليل نفي الـحرج، ضرورة أنّ الـتكليف با لـوضوء مع رؤيـة إنسان أو حيوان يتلظّى عطشاً، و يخاف عليهما من هذه الـجهـة يكون حرجيّاً; لأنّ الـنفوس الـطبيعيـة غير الـشقيّـة لاتتحمّل ذلك.
و لايختصّ الـحرج با لـجهات الـجسميـة، بل مثل ذلك ربّما يكون أشدّ، مع أنّ إطلاق صحيحـة ابن سنان يشمل ذلك.
و يؤيّده: أنّ إطفاء حرّ الـكبد من الـظماء في حدّ ذاته من الاُمور الـمستحسنـة الـمرغوبـة لدى الـعقلاء، و قد وقع الـتحريص به في الـشريعـة.
و ممّا ذكرنا يظهر: أنّه لافرق بين الـمسلم و الـكافر، نعم الـظاهر انصرافه عن مثل الـحربي الـذي يجب على الـناس قتله بأيّـة وسيلـة أمكنت، فلو لم يكن مهدور الـدم، لكن يجب أو يجوز قتله حدّاً كا لـقاتل و الـزاني الـمحصن، فا لـظاهر شمول الـروايـة له; لأنّ قتله إنّما هو بيد شخص خاصّ أو بنحو مخصوص، لامطلقاً.
و أمّا الـحيوان غير الـمحترم الـذي لايجب قتله، بل يجوز، كا لـكلب غير الـعقور، و الـخنزير و الـذئب، و نحوها، فا لـظاهر عدم مسوّغيـة خوف الـعطش عليه للتيمّم، و إن استظهر صاحب «ا لـعروة» جوازه; لعدم استفادته من الأدلّـة الـمتقدّمـة، و قوله (عليه السلام):
«لكلّ كبد حرّى أجر»، و نحوه، لايقتضي رفع الـيد عن لزوم الـطهارة الـمائيـة بعد ظهوره في غير هذا الـمورد، كما لايخفى.
بقي الـكلام في أنّه ليس الـمراد من خوف الـعطش، أو الـقلّـة الـواقع في الـروايـة، مجرّد حصول أوّل مراتب الـعطش الـذي ليس في تحمّله مشقّـة عرفاً، بل
(الصفحة 264) و منها: الـحرج و الـمشقّـة الـشديدة الـتي لاتتحمّل عادة في تحصيل الـماء أو استعما لـه و إن لم يكن ضرر و لاخوفه، و من ذلك حصول الـمنّـة الـتي لاتتحمّل عادة باستيهابه، و الـذلّ و الـهوان بالاكتساب لشرائه1 .
ا لـمراد احتمال الـعطش الـمتعارف الـذي يكون فيه خطر هلاك أو مرض أو مشقّـة. كما أنّك عرفت أنّ الـمراد بخوف الـقلّـة ما إذا لزم الـمحذور من قلّـة الـماء، لامطلق الـقلّـة، فتدبّر.
ا لـخامس: في لزوم الـحرج و الـمشقّـة
(1) و الـدليل على مسوّغيـة هذا الأمر هو دليل نفي الـحرج، فإنّه إذا كان تحصيل الـماء أو استعما لـه حرجياً، و مشتملاً على الـمشقّـة الـشديدة الـتي لاتتحمّل عادة، بل مطلق الـمشقّـة الـعرفيـة و إن كانت قابلـة للتحمّل على ما عرفت في معنى الـحرج، يكون الـتكليف با لـطهارة الـمائيـة حرجياً منفياً في الـشريعـة مطلقاً، و في خصوص آيـة الـتيمّم، و لايرتبط ذلك بباب الـضرر و خوفه أصلاً.
و يمكن الاستدلال له مضافاً إلى ذلك، بأخبار الـركيـة الـمتقدّمـة، الـدالّـة على عدم وجوب الـدخول فيها مع عدم الـوسيلـة من الـدلو و غيره، بناء على كون الـنظر فيها إلى الـكلفـة و الـمشقّـة دون الإفساد على الـقوم مائهم، كما وقع الـتعليل به في الـروايـة الـواحدة.
و حيث إنّ مناط الـحكم هو الـحرج و الـمشقّـة، فيشمل ما إذا كان في تحصيل الـماء منّـة; لانحصاره بالاستيهاب من غيره، و هي لاتكون متحمّلـة عادة لمثله، كما أنّه يشمل ما إذا توقّف تحصيل الـماء على الاكتساب و الـتجارة لأن يقدر معه على الـشراء و الـمعاملـة، مع كون الاكتساب لمثله مشتملاً على الـذلّـة و الـمهانـة، فإنّه في
(الصفحة 265) و منها: توقّف حصوله على دفع جميع ما عنده، أو دفع ما يضرّ بحا لـه، بخلاف غير الـمضرّ، فإنّه يجب و إن كان أضعاف ثمن الـمثل1 .
مثل ذلك لاينبغي الإشكال في جواز الـطهارة الـترابيـة، لكون الـحرج منفياً في الـشريعـة.
ا لـسادس: فيما إذا كان تحصيله موجباً للتضرّر
(1) أمّا الانتقال إلى الـترابيـة مع توقّف حصول الـماء على دفع ما يضرّ بحا لـه ـ سواء كان جميع ما عنده أو بعضاً منه ـ فيدلّ عليه دليل نفي الـحرج; لصدق الـضيق و الـحرج معه.
و أمّا دليل نفي الـضرر، فقد عرفت أ نّه لايرتبط بباب الأحكام، بل هو حكم صدر عن الـرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بما هو سلطان و حاكم، لابما هو واسطـة في بيان الأحكام و تبليغها.
و أمّا إذا لم يكن مضرّاً بحا لـه، فيجب الـدفع و إن كان أضعاف ثمن الـمثل، و عن «ا لـخلاف» الإجماع عليه، و عن «ا لـمهذّب الـبارع» أ نّه فتوى فقهائنا، و عن غيرهم نسبته إلى الـمشهور.
و الـدليل عليه ـ مضافاً إلى أ نّه لايتحقّق حينئذ موضوع عدم وجدان الـماء; لأنّ الـمفروض عدم كون تحصيله ولو با لـشراء موجباً للضرر و الـحرج ـ صحيحـة صفوان قال: سأ لـت أباا لـحسن (عليه السلام) عن رجل احتاج إلى الـوضوء للصلاة، و هو لايقدر على الـماء، فوجد بقدر ما يتوضّأ به بمأة درهم أو بأ لـف درهم و هو واجد لها، أيشتري و يتوضّأ، أو يتيمّم؟
قال:
«لا، بل يشتري، قد أصابني مثل ذلك فاشتريت و توضّأت، و ما يسؤوني
(الصفحة 266)
(يسرّني) بذلك مال كثير».(1)
و قد وقع نقلها في الـكتب الـفقهيـة مكان «يسوؤني» «يشتري»، و هو الـظاهر.
و خبر الـحسين بن أبي طلحـة قال: سأ لـت عبداً صا لـحاً عن قول اللّه عزّوجلّ:
(أَوْ لامَسْتُمُ الـنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ما حدّ ذلك؟
قال:
«فإن لم تجدوا بشراء و غير شراء».
قلت: إن وجد قدر وضوء بمأة أ لـف، أو بأ لـف و كم بلغ.
قال:
«ذلك على قدر جدّته».(2)
وعن فخرالإسلام في «شرح الإرشاد» أنّ الصادق (عليه السلام) اشترى وضوئه بمأة دينار.
و كيف كان: فا لـمستفاد من قوله (عليه السلام) في خبر ابن أبي طلحـة
«ذلك على قدر جدّته» أنّ الـمناط هي استطاعـة الـمتوضّي عرفاً، كما أنّ الـمراد من قوله: «واجد لها» في سؤال الـصحيحـة، ليس مجرّد وجدانه لها ولو كان هو تمام ما لـه و ثروته، بل الـمتبادر أنّه يقدر عرفاً على دفع هذا الـمقدار، و يستطيع بحيث لايضرّ بحا لـه، و لايوجب اختلال شأنه، فا لـملاك هو الـمتوضّي من جهـة الـتضرّر و عدمه.
فما عن بعضهم من تقييد وجوب الـشراء بما إذا لم يجحف في الـثمن، لاوجه له، ولعلّ الـمراد كونه إجحافاً بحسب حال الـمشتري، لامن حيث هو، فيؤول إلى الأوّل.
كما أنّ ما عن ابن ا لـجنيد من عدم وجوب الـشراء إذا كان الـماء غا لـياً، ضعيف.
ثمّ إنّ الـمستفاد ممّا هو بمنزلـة الـتعليل في الـصحيحـة، و هو قوله (عليه السلام):
«ومايشتري بذلك مال كثير» أنّ صرف أضعاف الـثمن لتحصيل ماء الـوضوء، لايكون
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 26، الـحديث 1.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـتيمّم، الـباب 26، الـحديث 2.