(الصفحة 549)
كما أنّه على الاحتمال الأوّل، يكون الـوجه في الاعتبار هو الارتكاز فقط، و أمّا عنوان الـطهوريـة فلم يدلّ دليل عليه في الـمقام، حتّى يقال: بأنّه الـطاهر في نفسه، الـمطهّر غيره، بل الـطهوريـة الـثابتـة للتراب، إنّما هي في باب الـتيمّم، كما يدلّ عليه قوله (عليه السلام): الـتراب أحد الـطهورين; يكفيك عشر سنين. و أمّا في الـمقام فلم يظهر من دليل ثبوت هذا الـعنوان له، كما لا يخفى.
ثمّ إنّه لو شكّ في اعتبار الـطهارة في الـتراب، فاستصحاب مطهّريـة الـتراب الـثابتـة له قبل عروض الـنجاسـة له يجري، و نتيجته حصول الـطهارة للإناء مع الـتعفير با لـتراب الـنجس، و لا يعارضه استصحاب نجاسـة الإناء الـمتحقّقـة قبل الـتطهير به; لأنّه حاكم عليه، لأنّ منشأ الـشكّ في بقاء الـنجاسـة هو الـشكّ في بقاء مطهّريـة الـتراب، و مع جريان الاستصحاب فيها، لا يبقى مجال لاستصحاب الـنجاسـة.
كما أنّ استصحاب الـمطهّريـة، لا يكون من قبيل الاستصحاب الـتعليقي بوجه; لأنّ الـمطهّريـة حكم تنجيزي ثابت له قبل عروض الـنجاسـة شكّ في بقائها بعده، كا لـمطهّريـة الـثابتـة للماء; فإنّ ثبوت هذا الـحكم لا يتوقّف على استفادة الـتطهير منه خارجاً. مع أنّ الـمراد من الاستصحاب الـتعليقي هو ما كان الـتعليق في لسان الـشرع، كما في مثل قوله: «ا لـعنب إذا غلى يحرم» و مثل ذلك لا يكون متحقّقاً في الـمقام.
فالإنصاف: أنّه مع وصول الـنوبـة إلى الاستصحاب، يكون مقتضاه عدم اعتبار الـطهارة في الـتراب. لكن عرفت أنّ الـظاهر عدم وصول الـنوبـة إليه، فالأحوط ـ لو لم يكن أقوى ـ هو الاعتبار.
ا لـخامسـة: هل يعتبر مزج الـتراب با لـماء أم لا؟ قولان:
(الصفحة 550)
حكي أوّلهما عن الـحلّي و الـراوندي، و عن الـعلاّمـة في «ا لـمنتهى» و «كاشف اللثام».
و نسب إلى الـمشهور الـقول بعدم اعتباره، لكنّهم ـ على ما في محكيّ «ا لـحدائق» ـ بين ساكت عن حكم الـمزج، و بين مصرّح بجوازه و إجزائه، كا لـشهيد في «ا لـدّروس» و «ا لـبيان» و هو ظاهر الـشهيد الـثاني في «ا لـمسا لـك» أيضاً، إلاّ أنّه اشترط أن لايخرج الـتراب با لـمزج من اسمه.
قال ابن إدريس مستدلاًّ على الاعتبار: الـغسل با لـتراب غسل بمجموع الأمرين منه و من الـماء، لايفرد أحدهما عن الآخر; إذ الـغسل با لـتراب لا يسمّى غسلاً; لأنّ حقيقته جريان الـمايع على الـجسم الـمغسول، و الـتراب وحده غير جار.
و مرجعه إلى أنّ الـمستفاد من قوله (عليه السلام) في الـصحيحـة: «اغسله با لـتراب أوّل مرّة» لزوم تحقّق عنوانين:
أحدهما: عنوان الـغسل الـذي حقيقته جريان الـمايع على الـجسم الـمغسول.
و ثانيهما: عنوان الـتراب و الـجمع بينهما لا يتحقّق بغير الـمزج، و اختلاطِ الـمايع با لـتراب.
ولكنّه ربّما يجعل الـتراب قرينـة على أنّ الـمراد من الـغسل ليس هو الـغسل بمعناه الـحقيقي، بل الـمراد به هو الـمسح، و قد استعمل فيه الـغسل مجازاً; بجامع الـمدخليـة في الـتطهير و زوال الـنجاسـة، و عليه فا لـلازم إمّا عدم الـمزج، و إمّا الـمزج بنحو لا يخرج الـتراب عن اسمه، كما عرفت من «ا لـمسا لـك».
و يرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ لازمه الـغسل با لـماء بعده ثلاث مرّات; لأنّ تقديم الـصحيحـة على الـموثّقـة الـحاكمـة بلزوم الـغسلات الـثلاث، إنّما كان لأجل
(الصفحة 551)
ا لـحكم بكون الاُولى مبيّنـة للثانيـة، و حاكمـة بتقييد الـغسل الأوّل با لـتراب، و أمّا مع حمل الـغسل على الـمسح، فا لـصحيحـة و إن كانت مقدّمـة على الـموثّقـة حينئذ أيضاً، إلاّ أنّ وجه تقديمها، هو حكمها بلزوم الـمسح با لـتراب زائداً على الـغسلات الـثلاث، فتدبّر ـ أنّ عطف قوله (عليه السلام)بعد ذلك: «ثمّ با لـماء» لايجتمع مع حمل الـغسل على الـمسح; لأنّ الـمسح با لـماء غير كاف قطعاً، بل لابدّ من الـغسل به.
و عليه، فلامناص من أن يكون الـمراد من الـغسل با لـتراب هو الـغسل با لـماء باستعانـة الـتراب، فا لـباء في الـروايـة للاستعانـة، كما في قولهم: اغسل رأسك با لـصابون، أو الـسدر، أو الـخطمي فإنّ الـمراد منه ليس هو مسح الـرأس بأحدها، بل معناه الـغسل با لـماء، لكن لا بوحدته، بل بضمّ شيء آخر معه.
و ليس مرجع ذلك إلى الـغسل با لـماء غير الـصافي الـمشتمل على بعض أجزاء ترابيـة، كما في تغسيل الأموات با لـسّدر و الـكافور; و ذلك لأنّ حفظ عنوان الـتراب يقتضي عدم الاكتفاء بمثل ذلك، بل لابدّ من أن لا يخرج الـتراب با لـمزج عن صدق اسمه، و لايلازم ذلك خروج الـغسل عن حقيقته.
و هذا بخلاف تغسيل الأموات، فإنّ الـلازم هناك الـماء الـذي كان له إضافـة إلى الـسدر وا لـكافور، و يكفي في تحقّق الإضافـة الاشتمال على أجزائهما، فا لـتعبير في الـمقامين لا يكون على نحو واحد.
و با لـجملـة: فا لـجمع بين الـحقيقتين في الـمقام ـ على ما هو الـمتفاهم عند الـعرف ـ هو الـمزج با لـكيفيـة الـمذكورة.
و أمّا الاحتياط الـمذكور في الـمتن، فمنشأه إجمال الـصحيحـة، و عدم وضوح الـمراد من الـغسل الـمذكور فيها، و قد حكي لزومه عن الـوحيد و «ا لـرياض».
(الصفحة 552)
ولكن بملاحظـة ما ذكرنا ظهر: أنّه لا إجمال في الـروايـة; و أنّ الـمراد هو امتزاج الـماء با لـتراب على نحو لا يخرج با لـمزج عن صدق اسم الـتراب و اللّه أعلم، و الاحتياط حسن على كلّ حال.
ا لـمقام الـثاني: في موضوع الـحكم
و قد ادّعى في «ا لـجواهر»: أنّ الـمشهور شهرة كادت تبلغ الإجماع، قصر الـحكم على الـولوغ، و هو الـشرب كما عن «ا لـمصباح» أو بزيادة «طرف لسانه» كما عن «ا لـصحاح» أو هو ذلك، أو «إدخال لسانه في الإناء و تحريكه» كما في «ا لـقاموس».
و قد ظهر لك خلوّ الـروايات عن هذا الـتعبير، إلاّ الـنبويّان الـمتقدّمان الـضعيفان، و إنّما الـوارد في الـصحيحـة الـتي هي الـعمدة في الـباب، عنوان الـفضل و ظاهره الـباقي من الـطعام و الـشرب.
نعم، الـحكم بعدم جواز الـتوضّي بفضله، يختصّ با لـماء الـباقي من الـشراب، لكن قد عرفت عدم الـفرق بين الـماء و غيره من الـمايعات، بل في «ا لـجواهر»: ينبغي الـقطع به.
و أمّا اللطع، فا لـظاهر عدم صدق عنوان الـفضل عليه، كوضوح عدم صدق عنوان الـولوغ.
و يظهر منهم أنّ اللطع يكون عندهم بمعنى الـولوغ; قال في محكيّ «ا لـمعا لـم»: «و الـمشهور بين الأصحاب قصر الـحكم على الـولوغ، و ما في معناه و هو اللطع ... لكن عن الأردبيلي منع الـتعديـة إلى اللطع أيضاً».
و دعوى: أنّ اللطع لايفقد شيئاً ممّا يتضمّنه الـولوغ; من الاُمور الـمناسبـة
(الصفحة 553)
للتنجيس أو الـتعفير، مدفوعـة بعدم الـعلم بمناطات الأحكام الـشرعيـة، و ليس لنا قطع بعدم الـفرق.
كما أنّ ما ذكرنا: من أنّ الـتعفير إنّما هو لأجل ما اشتهر: من كون فم الـكلب و لسانه مشتملاً على (ميكروبات) لا تموت إلاّ با لـتراب، فإنّما هو حكمـة للحكم بعد ثبوته، و ليس ذلك بمقطوع حتّى يدور الـحكم مداره.
كما أنّ دعوى الأولويـة ـ من جهـة أنّ الـنجاسـة مع اللطع، إنّما تسري من الـفم إلى الإناء من دون واسطـة، فهي أولى من الـنجاسـة الـساريـة إلى الإناء بتوسّط الـمايع ـ ممنوعـة; لأنّ الـكلام ليس في أصل نجاسـة الإناء، بل في الـنجاسـة الـخاصّـة الـتي يترتّب عليها الـتعفير و الـغسلتان بعده، و لم يعلم ثبوتها في اللطع، كيف، و لازم هذه الـدعوى، ثبوت الـحكم فيما إذا باشر الإناء ـ من دون واسطـة ـ بسائر أعضائه مع الـرطوبـة فيه، أو في الإناء؟! و من الـمعلوم وضوح بطلان هذه الـدعوى فيه.
بل الـظاهر عدم الاشتراك في الـحكم; لعدم تحقّق عنوان الـولوغ و لا عنوان الـفضل الـمأخوذ في الـصحيحـة بوجه. و ممّا ذكرنا يظهر، عدم جريان الـحكم في اللعاب أيضاً.
و دعوى: أنّ الإنصاف أنّ اللعاب، لايقصر عن سائر الـمايعات في سرايـة الأثر بواسطـة من الـفم أو اللسان إلى الإناء، فإلحاق الـمايعات با لـماء دون اللعاب غير ظاهر.
مدفوعـة: بأنّ إلحاق الـمايعات به إنّما هو لصدق عنوان الـفضل فيها أيضاً و هو غير متحقّق في اللعاب، و قد عرفت عدم معلوميـة الـمناط في مثل هذه الأحكام، و لا يجوز الـتعدّي عمّا هو الـموضوع في الـنصّ الـدالّ على الـحكم.
|