(الصفحة 55)
نعم، ربّما يستدلّ له بصحيحـة محمّد بن الـقاسم قال: سأ لـت أباا لـحسن (عليه السلام) عن الـجنب ينام في الـمسجد.
فقال:
«يتوضّأ، و لابأس أن ينام في الـمسجد، و يمرّ فيه».(1)
نظراً إلى أنّ مقتضى الجمع بينها، وبين الأخبار الـناهيـة هو الـحمل على الكراهة.
و اُورد عليه: بأنّه إن اقتصر في هذه الـروايـة على موردها فهي أخصّ مطلقاً من سائر الأدلّـة، فيجب في مقام الـجمع تخصيصها بها، و هو ينافي مطلوب سلاّر، و إن تخطّى عن موردها، و استفيد منها جواز الـمكث مطلقاً ولو لغير الـنوم و الـمرور، فيعارضها ظاهر الآيـة و الأخبار الـناهيـة.
إن قلت: إنّ مقتضى الـجمع بينهما هو تقييد مطلقات الأخبار الـناهيـة بما إذا لم يتوضّأ، فيجوز له أن يلبث في الـمسجد بعد الـوضوء مطلقاً.
قلت: مضافاً إلى أنّه لا قائل بهذا الـقول منّا، و إنّما نقل عن أحمد بن حنبل أنّ الـتصرّف في الآيـة الـشريفـة بمثل ذلك مشكل; لأنّ جعل الاغتسال فيها غايـة للنهي يدلّ على انحصار الـسبب الـمبيح با لـغسل، و لايساعد الـعرف على الـجمع بتقييد إطلاق الـنهي، و تنزيل الـغايـة الـظاهرة في الانحصار على عدمه.
و عليه فا لـلازم طرح هذه الـروايـة بعد مخا لـفتها لظاهر الـكتاب و الـسنّـة و فتوى الأصحاب، موافقتها لمذهب بعض الـعامّـة، وقد صرّح الـمحقّق (قدس سره) في محكي «ا لـمعتبر» بأنّها متروكـة بين أصحابنا; لأنّها منافيـة لظاهر الـتنزيل.
نعم، حكي عن الـصدوق الـقول بجواز نوم الـجنب في الـمسجد من دون تعرّض للوضوء.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 15، الـحديث 18.
(الصفحة 56)
و با لـجملـة: لاينبغي الإشكال في حرمـة الـمكث في الـمسجد للجنب، و قد استثني من ذلك أمران:
الأوّل: الـمرور و الاجتياز، الـذي فسّر بأن يدخل من باب و يخرج من آخر، يعني من غير مكث و توقّف، و الأصل فيه الآيـة الـشريفـة الـدالّـة على استثناء عابر السبيل.
و الـظاهر أنّه لايتحقّق هذا الـعنوان با لـدخول و الـخروج من باب واحد، بل الـلازم أن يكون باب الـدخول مغايراً لباب الـخروج، بل لايكفي مجرّد الـمغايرة، فإنّ عبور الـسبيل يقتضي وقوع الـبابين في طريقين، فلو كان هناك بابان في طريق واحد و قد دخل من أحدهما و خرج من آخر، لايتحقّق عنوان عبور الـسبيل، هذا با لـنظر إلى الآيـة.
و أمّا با لـنظر إلى الـروايات الـواردة: فبعضها مشتمل على تجويز الـمرور بمجرّده، أو مع الـنهي عن الـجلوس، و بعضها يدلّ على جواز الـمشي مع الـنهي عن الـجلوس أيضاً، و بعضها ظاهر في الـنهي عن الـدخول إلاّ مع الاجتياز، و بعضها دالّ على كراهـة إتيان الـمساجد جنباً بعد حملها على الـحرمـة، كما عرفت.
و لأجل دلالـة بعضها على تجويز الـمشي، خصوصاً مع اشتما لـه على الـنهي عن الـجلوس، ربّما يقال كما عن بعض بجواز بقائه في الـمسجد ماشياً في جوانبه من غير مكث و لاجلوس، بل يمكن الالتزام عليه بعدم كون الـمكث قائماً أيضاً بمحرّم; لأنّ الـمنهي عنه هو الـجلوس فقط.
ولكن يرد عليه: أنّ استدراك الـمرور بعد الـنهي عن الـجلوس في كثير منها دليل على اختصاص الـجواز با لـمرور، و هو لايصدق عرفاً على مطلق الـمشي، إلاّ أن يقال: إنّه استدراك لبعض الـمصاديق، و لا دلالـة على الانحصار.
(الصفحة 57)
و أمّا تجويز الـمشي مع الـنهي عن الـجلوس ـ كما في روايـة واحدة ـ فيمكن أن يقال بانصراف الـمشي فيها إلى الـمشي الـذي يتحقّق به الـمرور و الاجتياز.
و على تقدير عدم الانصراف، لابدّ من الـحمل عليه في مقام الـجمع بينها و بين سائر الـروايات، مع أنّك عرفت أنّ الـجمود على ظاهره يقتضي عدم تحريم الـقيام مع الـمكث أيضاً، و هو ممّا لايلتزم به الـقائل.
و الـذي يسهّل الـخطب، أنّ الـعناوين الـواقعـة في مقام الاستثناء في الـروايات، إن كانت أعمّ من الـعنوان الـواقع في الآيـة الـشريفـة، فا لـلازم أن تقيّد بما في الآيـة، خصوصاً مع ملاحظـة الاستشهاد بها في بعض الـروايات الـمتقدّمـة.
نعم، لوشكّ في المراد من الـعنوان الـواقع في نفس الآية بأن كان مردّداً بين الأقلّ والأكثر، فربّما يقال: إنّ الـمرجع أصا لـة الـبرائـة، لا الـعمومات الـناهيـة; لأنّ إجمال الـمخصّص يسري إلى عموم الـعامّ، فلايجوز الـتشبّث به في مورد الـشكّ، و الاقتصار على الأقلّ في الـمخصّص الـمجمل إنّما هو إذا كان في كلام منفصل، لا في مثل الـمقام.
ولكنّه يتمّ على تقدير أن لايكون في الـمقام عموم خال عن الـتخصيص أصلاً، مع أنّه قد عرفت دلالـة بعض الـروايات على الـعموم من غير استثناء، ولكنّ الـذي يوجب عدم الـحاجـة إلى هذه الـمباحث عدم كون الـعنوان الـمأخوذ في الآيـة مشكوك الـمراد; إذ قد عرفت ظهوره في الـدخول من باب، و الـخروج من آخر مغاير له من حيث الـطريق، فتدبّر.
ا لـثاني: الـدخول في الـمسجد لأخذ شيء منه، و يدلّ على الـجواز روايات متعدّدة، كصحيحـة عبدا للّه بن سنان قال: سأ لـت أباعبدا للّه (عليه السلام) عن الـجنب وا لـحائض، يتناولان من الـمسجد الـمتاع يكون فيه.
(الصفحة 58)
قال:
«نعم، ولكن لايضعان في الـمسجد شيئاً».(1)
و ذيل صحيحـة زرارة و محمّد بن مسلم، الـمتقدّمـة الـواردة في الـحائض و الـجنب الـمشتمل على قول أبي جعفر (عليه السلام):
«و يأخذان من الـمسجد، و لايضعان فيه شيئاً».
قال زرارة قلت له: فما با لـهما يأخذان منه و لايضعان فيه؟
قال:
«لأنّهما لايقدران على أخذ ما فيه إلاّ منه، و يقدران على وضع ما بيدهما في غيره».(2)
و رواه علي بن إبراهيم في «تفسيره» مرسلاً، عن الـصادق (عليه السلام) إلاّ أنّه قال:
«يضعان فيه الـشيء، و لا يأخذان منه».
فقلت: ما با لـهما يضعان فيه، و لا يأخذان منه؟
فقال:
«لأنّهما يقدران على وضع الـشيء فيه من غير دخول، و لايقدران على أخذ ما فيه حتّى يدخلا».(3)
و هل الـمراد من الـروايات تجويز الـدخول بقصد أخذ الـشيء من الـمسجد؟
أو أنّ الـمراد تجويز نفس الأخذ و إن كان الـدخول الـذي يتوقّف الأخذ عليه محرّماً؟
و على الأوّل: تكون هذه الـروايات مخصّصـة لعموم الـكتاب و الـسنّـة، الـدالّ على حرمـة الـمكث في الـمسجد و الـدخول فيه.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 17، الـحديث 1.
- (2)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 17، الـحديث 2.
- (3)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 17، الـحديث 3.
(الصفحة 59)
و على الـثاني: لا ارتباط لها با لـعموم أصلاً.
و قد حكي عن بعض الـتصريح با لـثاني، ولكنّ الـتأمّل فيها يقضي بكون الـمراد هو تحليل الـدخول بقصد الأخذ، فإنّ الـمتبادر من الـسؤال في صحيحـة ابن سنان إنّما هو الـسؤال عن دخوله لأن يتناول الـمتاع، فا لـجواب بقوله (عليه السلام): «نعم» يدلّ على جواز ذلك، و كذا الـمتبادر من الـتعليل في صحيحـة زرارة و محمّد بن مسلم، هو أنّه حيث يحتاج إلى الـمتاع في الـمسجد، و هو لايمكن أخذه بدون الـدخول، فلا مانع من الـدخول بقصده.
و من الـمعلوم أنّ الـمراد با لـضرورة فيها هي الـضرورة الـعرفيـة، لا الـضرورة الـمحلّلـة للمحرّم بمقتضى حديث رفع
«ما اضطرّوا إليه».
و بعبارة اُخرى: ليس الـمراد هو حلّيـة الـدخول لأجل الاضطرار الـحاصل إلى أخذ الـمتاع الـمتوقّف عليه، بل الـمراد هو حلّيته لأجل احتياجه عرفاً إلى الـمتاع فيه، و لايترتّب على تركه مفسدة أصلاً.
و أظهر من الـجميع مرسلـة علي بن إبراهيم، الـمشتملـة على الـتعليل الـذي له ظهور قويّ في كون الـملاك هو الـدخول، ولكن دلالتها على الـحكم بعكس ما هو الـمشهور، بل الـمجمع عليه، بل عن «ا لـمنتهى» أنّه مذهب علماء الإسلام أوجبت طرحها و تركها، كما لايخفى.
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الـنصّ و الـفتاوى جواز الأخذ من الـمسجد و إن استلزم الـمكث، بل الـجلوس، و عليه فيكون هذا الأمر الـمستثنى مغايراً للأمر الأوّل الـذي دلّت عليه الآيـة، و الـروايات.
و دعوى أنّ الـغا لـب الـمتعارف في الأخذ هو الـدخول و الـخروج بسرعـة من