(الصفحة 60)
غير مكث ـ و هو من مصاديق الـمرور و الـعبور الـذي هو الأمر الأوّل، فلايكون هذا الأمر مغايراً له ـ مدفوعـة، بما عرفت من أنّ الأمر الأوّل هو الـذي يرجع إلى الـدخول من باب، و الـخروج من آخر، مع تغاير الـطريقين، و لم يفرض في هذا الأمر تعدّد الـباب أصلاً، فإرجاعه إليه ممّا لا وجه له أصلاً.
و لأجله وقع الإشكال هنا في أنّه هل يختصّ جواز الـدخول لأخذ شيء بغير الـمسجدين من سائر الـمساجد، أو يعمّهما أيضاً؟
فيه وجهان: من إطلاق الـصحيحتين الـشامل للمسجدين، و من أنّ الـظاهر من صحيحـة زرارة و محمّد بن مسلم كونها مسوقـة لبيان حكم سائر الـمساجد، لدلالـة صدرها على استثناء الاجتياز الـمختصّ بغير الـمسجدين، مع أنّه ربّما يقال بانصراف صحيحـة ابن سنان إلى غيرهما أيضاً.
نعم، على تقدير الإطلاق تكون الـنسبـة بينهما، و بين روايـة محمّد بن مسلم الـمتقدّمـة، الـدالّـة على النهي عن قرب المسجدين الحرمين للحائض و الجنب، هو الـعموم من وجه، فيرجع في مورد الـتعارض إلى الـبرائـة، لو لم تكن الـروايـة أظهر في مورد الاجتماع، و لم يكن هناك عموم يرجع إليه بعد الـتعارض، و كلاهما محلّ نظر، و إن كان تكفي واحدة منهما للحكم با لـحرمـة، فتدبّر.
بقي الـكلام في إلحاق الـمشاهد الـمشرّفـة و الـضرائح الـمقدّسـة با لـمساجد، وعن الـشهيد أنّه حكاه في «ا لـذكرى» عن الـمفيد في «ا لـغريـة» و ابن ا لـجنيد و استحسنه، و عن بعضهم نقله عن الـشهيد الـثاني، و عن بعض الـمتأخّرين الـميل إليه، و في «ا لـجواهر» أنّه لايخلو من قوّة.
و استدلّ له:
(الصفحة 61)
تارة: بتحقّق معنى الـمسجديـة فيها و زيادة.
و اُخرى: با لـتعظيم.
و ثا لـثـة: بالأخبار الـدالّـة على المنع عن دخول الجنب بيوت النبي و الأئمّـة (عليهم السلام)في حال الـحياة، بضميمـة ما ورد من أنّ حرمتهم بعد وفاتهم كحرمتهم في حال الـحياة، بل هم أحياء عند ربّهم يرزقون.
و قد جمع هذه الـروايات في «ا لـوسائل» في الـباب الـسادس عشر من أبواب الـجنابـة، و إن كان الـعنوان الـذي ذكره له هي الـكراهـة دون الـحرمـة، ولكنّ الـروايات بنفسها ظاهرة في الـحرمـة، و لايكون لها معارض أصلاً.
أقول: أمّا الأوّل: فيرد عليه أنّ الـحكم قد علّق في ظواهر الأدلّـة على عنوان الـمسجديـة، و لا دليل على إسرائه فيما كان بمعناها; لعدم إحراز كون الـملاك مجرّد شرافـة الـمكان، و أفضليـة الـصلاة فيه; لاحتمال أن يكون لعنوان الـمسجديـة ـ الـمتمحّضـة في الإضافـة إلى اللّه تعا لـى و الانتساب إليه ـ دخلٌ فيه، فلايجوز الـتعديـة.
و أمّا الـثاني: فمضافاً إلى عدم الـدليل على وجوب الـتعظيم، غايـة الأمر حرمـة الـتوهين، و قد مرّ مراراً أنّ الـحكم لايسري من عنوان متعلّقه إلى شيء آخر، فحرمـة الـتوهين لاتستلزم حرمـة الـدخول فيها، نقول: إنّ تحقّق الـتوهين بذلك ممنوع، خصوصاً فيما إذا تعلّق بدخوله في الـمشاهد غرض عقلائي، كما إذا لم يقدر على الـدخول في غير هذه الـحا لـة.
و أمّا الـثا لـث: فتارة، لابدّ من الـبحث في أنّ دخول الـجنب بيوتهم في حال حياتهم هل يكون محرّماً، أم لا؟
(الصفحة 62)
و اُخرى، لابدّ من الـكلام في أنّ الـدخول في مشاهدهم بعد وفاتهم هل يكون كذلك، أم لا؟
أمّا دخول الـجنب بيوتهم في حال حياتهم، فا لـروايات الـواردة فيه الـمجموعـة في الـوسائل في الـباب الـمذكور خمسـة، أربعـة منها ترتبط بقصّـة أبي بصير، غايـة الأمر أنّ الـراوي لها قد يكون هو أبابصير، و قد يكون من معه من الـداخلين على أبي عبدا للّه (عليه السلام)، كما أنّ الـمستفاد منها أنّ الـعلّـة لدخول أبي بصير عليه (عليه السلام) جنباً، مرّة كانت هو الاختبار، و أن يعطيه من دلائل الإمامـة مثل ما أعطاه أبوجعفر (عليه السلام)، واُخرى مخافـة فوت الـدخول معهم.
و واحدة ما رواه جابر، عن علي بن الـحسين (عليهما السلام) أنّ أعرابيّاً دخل على الـحسين فقال له:
«أما تستحي يا أعرابي، تدخل على إمامك و أنت جنب، أنتم معاشر الـعرب إذا خلوتم خضخضتم».
فقال الأعرابي: قد بلغت حاجتي فيما جئت له، فخرج من عنده فاغتسل، و رجع إليه فسأ لـه عمّا كان في قلبه.(1)
أقول: أمّا الـروايات الـواردة في قصّـة أبي بصير فا لـظاهر أنّه لم يكن في الـحقيقـة إلاّ قصّـة واحدة، ضرورة أنّ نقل أبي بصير لها تارة، و نقل مصاحبه لها اُخرى لايوجب تعدّدها.
كما أنّ الـتعدّد بلحاظ الاختبار و بلحاظ فوت الـدخول، أيضاً لايكاد يتمّ; فإنّ ما كان الـغرض منه فوت الـدخول، إن كان واقعاً قبل الآخر، فلايبقى موقع للاختبار بعد إخباره بجنابـة أبي بصير أوّلاً، خصوصاً مع كون الاختبار متحقّقاً بمثل ذلك.
- (1)
وسائل الـشيعـة، أبواب الـجنابـة، الـباب 7، الـحديث 24.
(الصفحة 63)
و إن كان واقعاً بعد الآخر، فكيف يمكن صدور ذلك من أبي بصير مع الـنهي الـصريح قبله عنه؟! و مخافـة فوت الـدخول لاتكون أهمّ من الاختبار الـذي وقع الاعتراض حا لـه، فلا مجال لأن يقال: إنّ أبابصير يحتمل عدم الـحرمـة مع مخافـة فوت الـدخول، كما لايخفى.
و على ما ذكرنا، فا لـظاهر أنّ الـقصّـة لم تكن إلاّ واحدة غير متعدّدة، و حينئذ فلا يعلم أنّ الـتعبير الـصادر من الإمام (عليه السلام) فيها، هل كان بلفظ ظاهر في الـحرمـة، أو بلفظ لايدلّ على أزيد من الـكراهـة، كلفظـة
«لاينبغي» الـواقعـة في روايـة بكر بن محمّد.و ليس غضب الإمام (عليه السلام) ـ على ما يشعر به بعض الـروايات ـ دليلاً على حرمـة الـفعل و استحقاق الـعقاب عليه; لإمكان أن يكون غضبه لكراهـة الـفعل، و منافاته لمرتبـة أبي بصير الـذي لاينبغي أن يصدر منه ما ينافي الأدب و يكون مرجوحاً شرعاً.
و أمّا روايـة جابر، فا لـظاهر عدم إفادتها للحرمـة أيضاً، و الـشاهد لـه إدامـة الإمام(عليه السلام) لكلامه بعد بيان الـحكم له; و إعلامه بأنّه جنب، ولو كان ذلك محرّماً لما كان ينبغي له (عليه السلام)ذلك.
و با لـجملـة: فلا يظهر من الـروايات حكم الـحرمـة، و قد عرفت أنّ صاحب «ا لـوسائل» ذكر في عنوان الـباب «ا لـكراهـة» دون «ا لـحرمـة».
و يؤيّده أنّه من الـبعيد أن لايدخل في بيوتهم من يعولون من أزواجهم، و أولادهم، و جواريّهم، و خدّامهم إذا كانوا جنباً.
بل يمكن دعوى الـقطع بعدمه، كيف؟! ولو كان الأمر كذلك لشاع الـحكم بين أصحابهم، ولم يكن يختفي على مثل أبي بصير الـذي لم يزل يتردّد إلى بيتهم، و كان مدّة من الـزمن في محضر أبي جعفر (عليه السلام) قبل ذلك، خصوصاً مع عدم الاختفاء على غيره;
(الصفحة 64)
لأجل عدم حدوث مثل الـقصّـة بالإضافـة إليه.
ثمّ إنّه على تقدير الـقول با لـحرمـة نقول: إنّ مقتضى بعض الـروايات أنّ الـمحرّم هو الـدخول على شخص الإمام، الـظاهر في الـدخول عليه في حال حياته; من دون فرق بين أن يكون في بيته، أو في محلّ آخر، و مقتضى بعضها الآخر أنّ الـمحرّم هو الـدخول في بيوتهم الـتي هي بيوت الأنبياء، و ظاهره حرمـة الـدخول في بيوتهم و إن لم يكونوا فيها، و عليه فيمكن أن يقال: بأنّه يكفي في إضافـة «ا لـبيت» إليهم مجرّد الـنسبـة; سواء كان في حياتهم، أو بعد مماتهم، فلا يحتاج أصل الاستدلال إلى مقدّمـة خارجيّـة: و هي أنّ حرمتهم أمواتاً كحرمتهم أحياءً، و إن كان يمكن الـمناقشـة في ذلك: بعدم صدق «ا لـبيت» على الـقبر، و أنّه لايصدق على قبورهم عنوان «ا لـبيت» عرفاً.
و كيف كان فربّما يقال: إنّ الـقول بحرمـة دخول الـجنب في الـمشاهد الـمشرّفـة، أهون من الالتزام بحرمـة الـدخول في بيتهم حال حياتهم; لأنّ الـمشاهد من الـمشاعر الـعظام الـتي تشدّ الـرحال للتشرّف إليها، فلا يبعد دعوى كون دخول الـجنب هتكاً لحرمتها عند الـمتشرّعـة، و هذا بخلاف بيوتهم حال حياتهم، فإنّها لم يعهد كونها ـ من حيث هي ـ في عصرهم بهذه الـمكانـة من الـشرف في أنظار أهل الـعرف، حتّى يكون دخول الـجنب هتكاً.
و أنت خبير بأنّ كونه هتكاً عند الـمتشرّعـة إنّما هو لثبوت الـحرمـة عندهم، لما وصل إليهم من مراجعهم في الـفتوى، و إلاّ فبدونه لامجال لكونه هتكاً، و كأنّه لأجل ما ذكرنا توقّف في الـحكم جماعـة، و إن كان هو الأحوط تبعاً للمتن.
كما أنّ الأحوط هو الإلحاق با لـمسجدين; لتعليق الـحكم على مجرّد الـدخول من غير استثناء.