(الصفحة 486)
بوجه، و كذا إلى الـتعدّد أيضاً.
و قد يقال في وجهه: إنّ الـنسبـة بين مرسلـة الـكاهلي(1)
و ما دلّ على اعتبار الـتعدّد أو الـعصر، عموم من وجه; اذ الـمرسلـة دلّت بعمومها على أنّ
«كلّ شيء رآه الـمطر فقد طهر» سواء كان ذلك الـشيء ممّا يعتبرفيه الـعصر، أو الـتعدّد، أم لم يكن.
كما أنّ مقتضى إطلاق ما دلّ على اعتبار الـعصر أو الـتعدّد، عدم الـفرق في ذلك بين أن يصيبه الـمطر، و بين أن يغسل بماء آخر.
فيتعارضان في مثل غسل آنيـة الـخمر با لـمطر، و الـترجيح مع الـمرسلـة; لما قرّر في محلّه من أنّ الـعموم مقدّم على الإطلاق، فإنّ دلالـة الـمرسلـة با لـوضع و الـعموم; لمكان لفظـة
«كلّ» فلا يعتبر في إصابـة الـمطر شيء من الـعصر و الـتعدّد، بل يكتفى في تطهيره بمجرّد رؤيـة ا لـمطر.
و أنت خبير: ببطلان هذا الـوجه; لأنّ شمول الـمرسلـة للمقام أيضاً بالإطلاق، لا با لـعموم; ضرورة أنّ اعتبار الـعصر أو الـتعدّد - على فرضه ـ لا يوجب الـتخصيص في الـمرسلـة بإخراج الـمقام، بل يوجب تقييد الـرؤيـة بتحقّق الـعصر بعدها، أو بعدم كونه مرّة واحدة، بداهـة أنّ الـتخصيص، إنّما هو فيما إذا لم يتحقّق الـتطهير بماء الـمطر في مورد أصلاً، لا فيما إذا تحقّق غايـة الأمر مع ضميمـة الـعصر أو الـتعدّد. و هذا من الوضوح بمكان، فدلالة كلا الدليلين إنّما هي بالإطلاق، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر.
- (1)
هي ما رواه عن أبي عبدا للّه (عليه السلام) في حديث قال: قلت له: يسيل علىّ من ماء الـمطر، أرى فيه الـتغيّر، و أرى فيه آثار الـقذر، فتقطر الـقطرات عليّ، و ينتضح عليّ منه، و الـبيت يتوضّأ على سطحه، فيكفّ على ثيابنا. قال: «ما بذا بأس، لا تغسله; كلّ شيء يراه ماء الـمطر فقد طهر».
(وسائل الـشيعـة، أبواب الـماء الـمطلق، الـباب 6، الـحديث 5).
(الصفحة 487)
كما أنّه ربّما يقال في وجه عدم اعتبار شيء من الأمرين في الـتطهير بماء الـمطر: بأنّه على تقدير تماميـة إطلاق الـدليلين بنحو يشمل الـمقام، يكون رفع الـيد عن إطلاق الـمرسلـة و تقييدها بدليلهما، موجباً لإلغاء خصوصيّـة الـمطر، و ذلك خلاف ظاهر الـروايـة جدّاً، فيتعيّن الـعكس; أعني تقييد دليلي الـعصر و الـتعدّد، و الأخذ بإطلاقها.
و الـظاهر عدم تماميـة هذا الـوجه أيضاً; لأنّ ثبوت خصوصيّـة الـمطر في الـمقام أيضاً، إنّما هو فرع تماميّـة الإطلاق، و تقدّمه على الإطلاق الـمعارض، و إلاّ فلم يقم دليل على ثبوتها فيه أيضاً.
و دعوى كونه خلاف الـظاهر جدّاً، مندفعـة بأنّ الـظهور إنّما نشأ من الإطلاق، و الـكلام فعلاً في
تقدّمه على الـمعارض و عدمه.
و دعوى: أنّه لا يبقى حينئذ فرق بين ماء الـمطر و بين غيره من الـمياه; لا فيما لايحتاج إلى الأمرين، و لا فيما يحتاج إليهما أو إلى أحدهما، مدفوعـة أيضاً: بأنّه لم يثبت كون دليل ماء الـمطر ناظراً إلى إثبات خصوصيـة فيه من بين سائر الـمياه، فلعلّ مراده أنّه مع عدم كونه ماءً مجتمعاً
و با لـغاً إلى حدّ مخصوص، يكون بحكم الـمجتمع الـبا لـغ، فتجوز استفادة الـتطهير منه.
و ربّما يستدلّ بوجه ثا لـث يجري في خصوص الـعصر: و هو أنّ الـدليل على اعتبار الـعصر في الـغسل، إنّما هو أدلّـة انفعال الـماء الـقليل; لأنّ الـماء الـداخل في جوف الـمتنجّس قليل لاقى متنجّساً، فيتنجّس لا محا لـة مع بقائه في الـجوف، فلابدّ من إخراجه با لـعصر. و من الـواضح أنّ هذا الـدليل، لا يجري في مثل ماء الـمطر من الـمياه الـمعتصمـة; لعدم انفعا لـها بملاقاة الـمتنجّس، فلا وجه حينئذ لاعتبار الـعصر.
(الصفحة 488)
و أورد عليه: بأنّ دليل اعتبار الـعصر ليس ما ذكر، بل الـدليل إنّما هو عدم تحقّق عنوان «ا لـغسل» بدون الـعصر; لأنّ مجرّد إدخال الـمتنجّس في الـماء و إخراجه عنه لا يسمّى غسلاً في لغـة الـعرب، و لا ما يرادفه في سائر اللغات، كما أنّه لا فرق من هذه الـجهـة بين أقسام الـمياه أصلاً. و سيأتي الـبحث في هذا الإيراد.
و هنا وجه رابع اختاره بعض الأعلام حيث قال: الـصحيح في وجه عدم اعتبار الـعصر و الـتعدّد في الـغسل با لـمطر، أن يتمسّك بصحيحـة هشام بن سا لـم(1)
ا لـدالّـة على كفايـة مجرّد إصابـة الـمطر للمتنجّس في تطهيره، معلّلاً
«بأنّ الـماء أكثر ...» حيث دلّت على طهارة الـسطح الـذي يبال عليه إذا رسب فيه الـمطر، فيستفاد منها أنّ للمطر خصوصيـة من بين سائر الـمياه، تقتضي كفايـة إصابته وقاهريّته في تطهير الـمتنجّسات، بلا حاجـة فيه إلى تعدّد أو عصر.
و الـظاهر أنّ الـصحيحـة ـ مضافاً إلى إجمال الـعلّـة الـواردة فيها، و عدم وضوح الـمراد منها ـ لا دلالـة لها على طهارة الـسطح، حتّى يستفاد منها الـخصوصيّـة الـمذكورة; لعدم الـملازمـة، بين الـحكم الـوارد فيها و بين طهارة الـسطح بوجه، كما ذكرناه في بحث الـمياه.
و الـظاهر أنّ الـوجه في ذلك، هو قصور أدلّـة اعتبار الأمرين عن الـشمول للمقام:
أمّا دليل الـعصر، فإن كان هو أدلّـة انفعال الـماء الـقليل ـ كما عرفت في الـوجه الـثا لـث ـ فعدم شموله لماء الـمطر و كذا مثله من الـمياه الـمعتصمـة واضح.
- (1)
و هي ما رواه عن أبي عبدا لـلّه (عليه السلام): أنّه سأ لـه عن الـسطح يبال عليه، فتصيبه الـسماء، فيكفّ فيصيب الـثوب، فقال «لا بأس به; ما أصابه من الـماء أكثر منه».
(وسائل الـشيعـة، أبواب الـماء الـمطلق، الـباب 6، الـحديث 1).
(الصفحة 489)
و إن كان هو عدم تحقّق عنوان الـغسل بدونه ـ كما مرّ في الإيراد على ذلك الـوجه ـ فا لـظاهر تحقّقه بدونه في الـتطهير بماء الـمطر; فإنّ الارتكاز الـعرفيّ في الـغسل بماء الـمطر، ليس إلاّ أن يجعل الـمتنجّس تحته، بحيث يراه الـمطر و يصيب الـمواضع الـمتنجّسـة منه، و لم يعهد بين الـعرف أن يعصر حتّى يتحقّق «يغسل».
كما أنّ عنوان الـتعدّد لايجري في ماء الـمطر، فإنّه ليس ماء مجتمعاً في محلّ حتّى يتحقّق فيه الـتعدّد، بل هو قطرات غير متّصلـة نازلـة، و في مثلها لا مفهوم للتعدّد أصلاً; فإنّ كلّ قطرة لها وجود مستقلّ، و لا معنى لفرض عدّة منها شيئاً واحداً، و فرض عدّة اُخرى شيئاً آخر فتدبّر. هذا بالإضافـة إلى الـعصر.
و أمّا با لـنسبـة إلى الـتعفير، فا لـظاهر لزومه قبل رؤيـة ماء الـمطر، لأنّ دليل مطهّريـة الـمطر، ليس بأقوى ممّا دلّ على اعتبار الـتعفير، بل لا منافاة بين الـدليلين أصلاً; و ذلك لأنّ دليل اعتبار الـتعفير مفاده: أنّ ولوغ الـكلب في الإناء يوجب تنجّسه; بحيث لا يكفي في تطهيره الـماء، بل يتوقّف على الـتعفير با لـتراب.
و إن شئت قلت: إنّ الـولوغ يوجب حصول موادّ مسمّاة في الـعصر الـحاضر بـ (ا لـميكرب) للإناء، و لا يوجب انعدامها إلاّ الـتراب و الأجزاء الـترابيّـة. هذا مفاد دليل اعتبار الـتعفير.
و أمّا دليل الـمطر، فلا دلالـة له على أنّ ماء الـمطر يقوم مقام كلّ مطهّر، حتّى يمكن الـتمسّك بعمومه لمطهّريـة الـكافر أيضاً كالإسلام، بل مدلوله أنّ ماء الـمطر يكفي في مطهّريـة كلّ شيء تتحقّق الـطهارة له با لـماء، فغايـة مدلوله ثبوت خصوصيـة جميع الـمياه من جهـة الـتطهير في ماء الـمطر، و عليه فلا منافاة بينه و بين دليل الـتعفير أصلاً.
(الصفحة 490)
و إن أبيت إلاّ عن ثبوت الـمعارضـة بين الـدليلين، و عدم وجود مرجّح في الـبين، فمقتضى الـتساقط في مادّة الاجتماع و الـرجوع إلى استصحاب الـنجاسـة فيها، عدم تحقّق الـطهارة بدون الـتعفير.
و لازم ما أفاده بعض الأعلام: من كون دلالـة الـمرسلـة با لـعموم، و دلالـة الأدلّـة الاُخرى بالإطلاق، عدم الاحتياج إلى الـتعفير في الـمقام أيضاً. ولكنّك عرفت بطلان هذا الـمقال; و أنّ دلالـة الـمرسلـة أيضاً بالإطلاق، كسائر الأدلّـة. هذا كلّه في ماء الـمطر.
في كيفيـة الـتطهير با لـكرّ و الـجاري
فيما يقبل الـعصر
و أمّا في الـماء الـجاري و الـكرّ، فربّما يقال: باعتبار الـعصر فيما يقبله كا لـثياب و نحوها; نظراً إلى أنّ مقتضى الأدلّـة لزوم غسلها; ليتحقّق لها الـطهارة، و «ا لـغسل» مفهوم عرفي لم يرد تحديده في الـشرع، فلا مناص فيه من الـرجوع إلى الـعرف، و هم يرون اعتباره في مفهومه بلا ريب. و من هنا لو أمر الـسيّد عبده بغسل شيء، لا يكتفي الـعبد في امتثا لـه بإدخال الـثوب في الـماء فحسب، بل ترى أنّه يعصره و يخرج غسا لـته.
ولكن يرد عليه: أنّه إن أراد أنّ الـعصر داخل في مفهوم الـغسل مطلقاً، فا لـجواب عنه: أنّ الـغسل إذا كان متعلّقاً بمثل الـجسد، لا يعتبر فيه الـعصر بوجه، و لا يفهم منه هذه الـجهـة، فلا يستفاد من مثل قوله تعا لـى:
(اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ ...) إلاّ مجرّد صبّ الـماء عليها و جريه، من دون أن ينتقل الـذهن إلى مفهوم الـعصر، فا لـغسل