( صفحه 104 )
مضت الأربعة أقدام ولم يصلّ من النوافل شيئاً فلا يصلّي النوافل، الحديث(1).
وهذه الرواية أيضاً ناظرة إلى وصف التقدّم والتأخّر من دون دلالة على التوقيت أصلاً، كما لا يخفى.
وامّا قول صاحب العروة(2)، فيمكن أن يكون مستنده الأخبار الواردة(3)في نافلتي الظهر والعصر، وأنّ كلّ واحدة منهما ثمان ركعات، وتقعان قبل فريضتهما أو بعد الاُولى وقبل الثانية، من دون دلالة على التقييد بوقت خاصّ; فإنّ مقتضى إطلاقها جواز الإتيان بهما كذلك إلى آخر وقت الفريضة.
والجواب: وضوح عدم كون هذه المطلقات بصدد بيان وقت النوافل، بل هي مسوقة لبيان مجرّد التعداد والقبليّة والبعديّة بالإضافة إلى الفرائض، فلا يجوز التمسّك بإطلاقها من هذه الجهة.
نعم، هنا روايات دالّة على أنّ النافلة بمنزلة الهديّة، وأنّها متى ما اُتي بها قبلت. مثل ما رواه عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال: إعلم أنّ النافلة بمنزلة الهديّة، متى ما اُتي بها قبلت(4).
ولكنّه يحتمل أن يكون المراد بالنافلة فيها هي النوافل المطلقة الابتدائيّة، فلاتشمل النوافل الراتبة، كما أنّه على تقدير الشمول يكون مقتضاها عدم كونها موقّتة بوجه، فيجوز الإتيان بنافلة النهار ولو في الليل وبالعكس،
- (1) تهذيب الأحكام 2: 273 ح1086، وعنه وسائل الشيعة 4: 245، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب40 ح1.
- (2) تقدّم في ص97.
- (3) وسائل الشيعة 4: 45، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض ب13.
- (4) الكافي 3: 454 ح14، وعنه وسائل الشيعة 4: 232، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب37 ح3.
( صفحه 105 )
فلا تنطبق على مرام المستدلّ; لأنّه قائل بالتوقيت، كما لا يخفى.
نعم، في مرسلة علي بن الحكم، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: صلاة النهار ستّ عشرة ركعة أيّ النهار شئت، إن شئت في أوّله، وإن شئت في وسطه، وإن شئت في آخره(1)، التصريح بكونهما صلاة النهار، فلا يجوز الإتيان بهما في الليل.
ولكنّه يجوز الإتيان بهما في أيّة ساعة من النهار شاء، لا بمعنى كون مجموع النهار وقتاً لها، بل بمعنى جواز الإتيان بها في أيّة ساعة شاء وإن كان وقتها أخصّ من ذلك.
كما يظهر من رواية القاسم بن الوليد الغسّاني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك صلاة النهار صلاة النوافل في كم هي؟ قال: ستّ عشرة ركعة، في أيّ ساعات النهار شئت أن تصلّيها صلّيتها إلاّ أنّك إذا صلّيتها في مواقيتها أفضل(2). ولكنّه لا يستفاد منها مقدار وقتها، كما لايخفى.
وربما يتمسّك له باستصحاب بقاء الوقت وعدم انقضائه بالذراع والذراعين، أو بالمثل والمثلين.
ولكنّه يرد عليه ـ مضافاً إلى ابتنائه على قصور الأدلّة اللفظيّة عن الدلالة على بيان وقت النافلتين; لأنّه لا مجال له معها ـ : أنّه لا يجري مثل هذا الاستصحاب ممّا كان لنفس الزمان السابق مدخليّة في القضيّة المتيقّنة; فإنّ
- (1) تهذيب الأحكام 2: 267 ح1064، وص8 ح15، الاستبصار 1: 278 ح1008، وعنهما وسائل الشيعة 4: 233، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب37 ح6.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 9 ح17، وص267 ح1063، الاستبصار 1: 277 ح1007، وعنهما وسائل الشيعة 4: 233، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب37 ح5.
( صفحه 106 )
اتّصاف نافلة الظهر بكونها في الوقت قبل الذراع إنّما هو لأجل كونها قبل الذراع، وبدونه لا يكون هناك يقين، ولا معنى لإبقاء هذا الحكم وإدامته ليستفاد منه بقاء الوقت بعد الذراع أيضاً، فتدبّر.
وأمّا القول بالمثل أو المثلين، فإن كان مستنده كونهما وقتين للفريضة بالإضافة إلى المختار، فلابدّ من أن يبحث معه في مسألة وقت الفريضة، وإلاّ فيمكن أن يكون استناده إلى اُمور:
منها: صحيحة زرارة المتقدّمة(1)، المشتملة على قول أبي جعفر (عليه السلام) : «إنّ حائط مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان قامة، وكان إذا مضى منه ذراع صلّى الظهر، وإذا مضى منه ذراعان صلّى العصر...».
بضميمة الأخبار المتعدّدة الدالّة على أنّ المراد بالقامة هي الذراع.
كرواية علي بن حنظلة قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) : القامة والقامتان الذراع والذراعان في كتاب عليّ (عليه السلام) (2).
ورواية علي بن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له أبو بصير: كم القامة؟ قال: فقال: ذراع، إنّ قامة رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت ذراعاً(3).
وغير ذلك من الروايات(4) الدالّة عليه، وعلى ذلك فالمراد من جميع الروايات الدالّة على الذراع والذراعين هو المثل والمثلان.
- (1) في ص98.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 23 ح64، وعنه وسائل الشيعة 4: 144، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب8 ح14.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 23 ح66، الاستبصار 1: 251 ح902، وعنهما وسائل الشيعة 4: 145، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب8 ح16.
- (4) وسائل الشيعة 14: 140، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، ب8 .
( صفحه 107 )
ويدفعه ظهور الجمع بين كلمتي القامة والذراع في عبارة واحدة في الرواية في مغايرتهما، وإلاّ لما كان وجه لذلك مع عدم الاحتياج إلى الإظهار وجواز الاقتصار على الاضمار، ومع كونه موهماً للخلاف، فذلك يوجب الظهور في المغايرة.
وأمّا ما اُورد عليه(1) من ظهور قوله (عليه السلام) : «مضى منه» في التبعيض، وأنّ الذراع بعض مقدار الحائط لا أنّه نفسه.
فيمكن الجواب عنه بعدم كون كلمة «من» فيه للتبعيض، بل للابتداء بلحاظ كون شروع الفيء من الجدار، مع أنّه على تقدير التبعيض لابدّ من أن يلاحظ التبعيض بالإضافة إلى الجدار; لرجوع الضمير في «منه» إليه لا إلى الفيء، فتدبّر.
وبالجملة: لا وجه لحمل كلمة «من» على التبعيض.
كما أنّ الإيراد(2) عليه بأنّ قوله (عليه السلام) في ذيل الصحيحة: «فإذا بلغ فيؤك ذراعاً من الزوال بدأت بالفريضة وتركت النافلة...»(3) لا يقبل الحمل على القامة والمثل أبداً; لأنّه حيث جعل الشاخص نفس المكلّف وشخصه، وجعل المدار على الفيء الحاصل منه، لا يصحّ حمله عليهما أبداً.
يمكن دفعه ـ مضافاً إلى أنّه لا ينافي الحمل على المثل لو فرض كون المراد من الذراع ذلك بشهادة الروايات المتقدّمة ـ بعدم ظهور كون المراد هو الفيء
- (1 ، 2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 343، المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 11: 240.
- (3) تقدّمت في ص98.
( صفحه 108 )
الحاصل من شخص المكلّف، واحتمال كون المراد هو الفيء الحاصل من الشاخص الذي عيّنه المكلّف في مقابل جدار مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، الذي لا يمكن الوصول إليه نوعاً أوّلاً، وقد غيّر ثانياً، مع أنّه لا خصوصيّة فيه ثالثاً.
ولكن مع ذلك لا ينبغي الارتياب في أنّ التأمّل في الصحيحة وإرجاعها إلى العرف يقضي بعدم كون المراد من الذراع فيها هو المثل، بل أخصّ منه، كما لا يخفى.
ومنها: ما عن الشهيد (قدس سره) في الروضة البهيّة(1); من أنّ المنقول من فعل النبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمـّة (عليهم السلام) ـ بل وكذا غيرهم من السلف ـ فعل نافلة العصر والإتيان بها متّصلة بالفريضة، ولم يكن بينهما فصل من حيث الوقت.
ومن المعلوم من الخارج أنّ الوقت الذي يصلّون فيه الفريضة هو بعد المثل; لأنّه وقت الفضيلة، فالنافلة أيضاً محدودة به لأجل التواصل بينها، وبين الفريضة.
ويرد عليه: أنّه لم يثبت ما ادّعاه من إتيانهم بالنافلة متّصلة بالفريضة، ومن المحتمل خلافه، مع أنّ صحيحة زرارة المتقدّمة(2) تدلّ بالصراحة على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأتي بصلاة الظهر بمجرّد الذراع، والعصر عند بلوغه ذراعين، فالاتّصال والإتيان بالنافلة مع الفريضة بلا فصل لا يجدي في إثبات جواز التأخير إلى المثل أو المثلين، كما لايخفى.
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه لا يظهر من شيء من الأدلّة المتقدّمة
- (1) الروضة البهيّة 1: 181.
- (2) في ص98.