( صفحه 476 ) [تبيّن الانحراف عن القبلة ]تبيّن الانحراف عن القبلة
مسألة 4: من صلّى إلى جهة بطريق معتبر، ثمّ تبيّن خطؤه، فإن كان منحرفاً عنها إلى ما بين اليمين والشمال، صحّت صلاته، وإن كان في أثنائها مضى ما تقدّم منها واستقام في الباقي; من غير فرق بين بقاء الوقت وعدمه. وإن تجاوز انحرافه عمّا بينهما، أعاد في الوقت دون خارجه وإن بان استدباره، إلاّ أنّ الأحوط القضاء مع الاستدبار بل مطلقاً. وإن انكشف في الأثناء انحرافه عمّا بينهما، فإن وسع الوقت حتّى لإدراك ركعة قطع الصلاة وأعادها مستقبلا، وإلاّ استقام للباقي، وصحّت على الأقوى ولو مع الاستدبار، والأحوط قضاؤها أيضاً 1 .
1ـ لا إشكال في أنّ الإخلال بالاستقبال مع العمد والالتفات مبطل للصلاة وموجب للإعادة والقضاء; لأنّه مقتضى الشرطيّة المستفادة من مثل قوله (عليه السلام) في بعض الروايات المتقدّمة(1): «لا صلاة إلاّ إلى القبلة»; ضرورة أنّه بدونه تلزم اللغويّة.
وأمّا الإخلال به بدونه ـ كما إذا صلّى إلى جهة قطع بكونها القبلة ثمّ تبيّن خطؤه أو اعتمد على البيّنة، أو الظنّ في صورة جواز الاعتماد عليه ـ ففيه صورتان:
الاُولى: ما إذا كان الانحراف يسيراً بحيث لم يبلغ حدّ المشرق والمغرب، وفيها قولان:
الأوّل: وجوب الإعادة عليه في الوقت فقط، وقد حكي ذلك
( صفحه 477 )عن الناصريّات، والمقنعة، والمبسوط، والخلاف، والنهاية، والمراسم، والوسيلة، والغنية، والسرائر(1)، حيث إنّهم أطلقوا القول بوجوب الإعادة في الوقت إذا صلّى لغير القبلة; من دون أن يتعرّضوا لحكم خصوص الانحراف اليسير.
الثاني: عدم وجوب الإعادة مطلقاً، وهو الأقوى; للأخبار الكثيرة الدالّة عليه:
كصحيحة معاوية بن عمّار أنّه سأل الصادق (عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ، فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالا؟ فقال له: قد مضت صلاته، وما بين المشرق والمغرب قبلة(2).
وصحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: لا صلاة إلاّ إلى القبلة. قال: قلت: أين حدّ القبلة؟ قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه; قال: قلت: فمن صلّى لغير القبلة، أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال: يعيد(3).
وموثقة عمّار الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في رجل صلّى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته، قال: إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم، وإن كان متوجّهاً إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثمّ يفتتح الصلاة(4).
- (1) مسائل الناصريّات: 202، المقنعة: 97، المبسوط 1: 80 ، الخلاف 1: 303، النهاية: 64، المراسم: 61، الوسيلة: 99، غنية النزوع: 69، السرائر 1: 205.
- (2) تقدّمت في ص426 ـ 427.
- (3) تقدّمت في ص398، 426.
- (4) تقدّمت في ص430.
( صفحه 478 )ورواية الحسين بن علوان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام) أنّه كان يقول: من صلّى على غير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة ثمّ عرف بعد ذلك، فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق والمغرب(1).
وفي مقابل هذه الروايات الأخبار الواردة في مطلق الصلاة على غير القبلة، الدالّة على وجوب الإعادة في الوقت وعدمه في خارجه، وسيأتي نقلها إن شاء الله ـ تعالى ـ في الصورة الثانية، ولكنّ الظاهر عدم صلاحيّتها للمعارضة مع هذه الروايات، وتقدّم هذه عليها، وتوضيحه:
أنّ الصحيحتين الدالّتين على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة، إن كان المراد منهما أنّ ما بينهما قبلة حقيقة لعامّة المكلّفين في جميع الأحوال، وكان المراد منهما تعيين حدّ القبلة وبيان حقيقتها، كما استظهرناه منهما سابقاً(2)،
ولابدّ وأن يكون المراد حينئذ ممّا بين المشرق والمغرب هو المقدار الذي لا يصدق على شيء من أجزائه أنّه مشرق للشمس أو مغرب، بل ما بينهما وهو الربع من الدائرة المفروضة، فهما واردتان على تلك الأخبار; لدلالتهما على تعيين حدّ القبلة، ورودها في حكم من صلّى إلى غير القبلة، فالموضوع فيها أمر، وفي الصحيحتين أمر آخر.
نعم، مقتضى إطلاق ذيل صحيحة زرارة وجوب الإعادة مطلقاً على من صلّى لغير القبلة، والمراد من الصلاة لغير القبلة فيها حينئذ هي الصلاة الخارجة عن الربع المفروض وإن لم يصل إلى المشرق والمغرب العرفيين
- (1) تقدّمت في ص430.
- (2) في ص427 ـ 430، 434 و 436.
( صفحه 479 )الاعتداليين، فمقتضى إطلاق الذيل وجوب الإعادة من دون تقييد بالوقت، وبما إذا كان الانحراف بالغاً إليهما.
وإن كان المراد من الصحيحتين أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة تنزيلا، ومرجعه إلى أنّ الانحراف عن القبلة الواقعيّة إذا لم يتجاوز عمّا بينهما لا يقدح بصحّة الصلاة، ولابدّ وأن يكون المراد من المشرق والمغرب حينئذ الاعتداليين، ويكون ما بينهما بمقدار نصف الدائرة تقريباً.
كما أنّ المراد حينئذ من الصلاة إلى غير القبلة المفروضة في ذيل صحيحة زرارة هي الصلاة الخارجة عن النصف المذكور، فهما حاكمتان على تلك الأخبار; لورودها فيمن صلّى إلى غير القبلة، ودلالة الصحيحتين على عدم كون الصلاة إلى ما بين المشرق والمغرب صلاة إلى غير القبلة، بل هي صلاة إليها تعبّداً وتنزيلا، فهما بمنزلة المفسّرة لموردها والشارحة لموضوعها.
نعم، الذي يبعّد الحكومة أنّ فرض الصلاة لغير القبلة قد وقع في أكثر تلك الأخبار في كلام السائل دون الإمام (عليه السلام) ، ومن البعيد أن يكون مراد السائل من الصلاة لغير القبلة هي الصلاة إلى غير ما بين المشرق والمغرب. نعم، لا يبعد فيما وقع هذا الفرض في كلام الإمام (عليه السلام) ، كما في بعض تلك الأخبار. وعليه: فينحصر طريق الجمع بما يأتي في الروايتين الآخرتين.
وأمّا غير الصحيحتين من الروايتين، فربما يقال بأنّ التعارض بينهما، وبين تلك الأخبار هو تعارض العموم من وجه، وكما يمكن تقييد تلك الأخبار المفصّلة بين الوقت وخارجه بما إذا لم يكن الانحراف إلى ما بين المشرق والمغرب بل زائداً عليه، كذلك يمكن تقييد الروايتين بإرادة عدم الإعادة
( صفحه 480 )في خارج الوقت فقط، ولا ترجيح للأوّل على الثاني، بل الأمر بالعكس، كما قاله صاحب الحدائق (قدس سره) (1); لأنّ القدماء من الأصحاب حكموا بوجوب الإعادة في الوقت مطلقاً(2)، وقيّدوا الروايات الدالّة على عدم قادحيّة الانحراف اليسير، فالترجيح حينئذ مع الثاني.
ولكنّ الظاهر عدم تماميّة هذا القول، بل اللاّزم الالتزام بكون الروايتين مخصّصتين لتلك الأخبار، فيختصّ موردها بما إذا كان الانحراف أزيد ممّا بين المشرق والمغرب، ولا يمكن العكس; لأنّه لو كانت تلك الأخبار مخصّصة لهما، واختصّ موردهما بما إذا علم بالانحراف في خارج الوقت، يلزم أن تكون الخصوصيّة المذكورة فيهما ـ وهو كونه بين المشرق والمغرب ـ لغواً، لأنّه حينئذ لايبقى مجال للتفصيل في صور الانحراف، مع أنّهما صريحتان في ثبوت التفصيل ومدخليّة الخصوصيّة المذكورة.
وعليه: فاللاّزم إبقاؤهما على حالهما والتصرّف في تلك الأخبار، كما أنّ اللاّزم الالتزام بالتخصيص بالإضافة إلى ذيل صحيحة زرارة بناءً على كون المراد منها ما ذكرنا، وحمله على كون المراد من الصلاة لغير القبلة هي الصلاة إلى غير ما بين المشرق والمغرب الاعتداليين، كما لا يخفى.
وأمّا القدماء من الأصحاب، فقد عرفت(3) أنّهم لم يتعرّضوا لحكم خصوص الانحراف اليسير، بل أطلقوا القول بوجوب الإعادة في الوقت، وقد ذكر سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (قدس سره) أنّ عدم تعرّضهم له يحتمل أن يكون لأجل طرحهم للروايات الدالّة على ذلك، وهو بعيد مع صحّتها، ويحتمل
- (1) الحدائق الناضرة 6: 437.
- (2 ، 3) تقدّما في ص477.