( صفحه 392 )مجرّد الوقوع على الأرض وعدمه.
وقد دفعت المناقشة بإمكان استفادة عدم اعتبار الاستقبال أيضاً من غلبة كون طرق المسير على غير القبلة، بل الغالب انحراف ما يكون منها على القبلة عنها يميناً وشمالا ولو في الأثناء، بل تمكن دعوى عدم وجود ما يكون منها على القبلة مستقيماً من أوّله إلى آخره، فيكون عدم التعرّض لذكر الاستقبال فيها دليلا على عدم اعتباره.
أقول: وإن كان يؤيّد هذا الدفع حمل السؤال عن صلاة النافلة على البعير والدابّة في رواية الحلبي المتقدّمة ـ مع كونه مماثلا للسؤال فيهما ـ على كون المراد هو النظر إلى القبلة، كما يظهر من الجواب، وهو يدلّ على عدم كون النظر إلى حيث الاستقرار فقط، بل إلى حيث الاستقبال أيضاً، إلاّ أنّ الذي يبعّده عدم المنافاة بين كون سير الدابّة وتوجّهها إلى غير القبلة، وبين رعاية الاستقبال في الصلاة، ولذا سئل في رواية الكرخي المتقدّمة عن لزوم التوجّه إليها مع القدرة على التوجّه في المحمل، إلاّ أن يقال:
إنّ استلزامه للضيق والعسر ـ كما تشهد به الرواية ـ يمنع عن كون النظر في الروايات المذكورة إلى خصوص الاستقرار، بحيث لا ينافي اعتبار الاستقبال، وكيف كان، ففي غيرها غنى وكفاية.
وما رواه الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) في قوله ـ تعالى ـ : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ)(1) إنّها ليست بمنسوخة، وأنّها مخصوصة
( صفحه 393 )بالنوافل في حال السفر(1).
ومثلها ما رواه الشيخ (قدس سره) في النهاية عن الصادق (عليه السلام) في قوله ـ تعالى ـ : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال: هذا في النوافل خاصّة في حال السفر. فأمّا الفرائض، فلابدّ فيها من استقبال القبلة(2).
ثمّ إنّ المحكي عن ابن أبي عقيل(3) اختصاص عدم اعتبار الاستقبال في النافلة بالسفر، والظاهر أنّ منشأه هو مثل الروايتين الأخيرتين الواردتين في تفسير الآية، الظاهرتين في مدخليّة السفر، مع أنّ المتفاهم منهما عرفاً هو كون حال السفر جارياً مجرى التمثيل اُريد به حال الحاجة إلى السير في الأرض، كما هو الغالب في السفر، لا حال السفر من حيث هو، ولذا لا ينسبق إلى الذهن منه إلاّ إرادة حال الضرب لا الاستقرار في المنزل، مع أنّ حال السفر أعمّ منها.
ويؤيّده رواية معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا بأس بأن يصلّي الرجل صلاة الليل في السفر وهو يمشي، ولا بأس إن فاتته صلاة الليل أن يقضيها بالنهار وهو يمشي يتوجّه إلى القبلة، ثمّ يمشي ويقرأ، فإذا أراد أن يركع حوّل وجهه إلى القبلة وركع وسجد ثمّ مشى(4).
فإنّ تقييد السفر بالمشي في الجملة الاُولى والاقتصار على المشي فقط في الجملة الثانية ربما يشهد بعدم مدخليّة السفر في هذا الحكم، وأنّ المناط
- (1) مجمع البيان 1: 385، وعنه وسائل الشيعة 4: 332، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب15 ح18.
- (2) النهاية: 64، وعنه وسائل الشيعة 4: 332، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب15 ح19.
- (3) حكى عنه في مختلف الشيعة 2: 90 مسألة 34.
- (4) تهذيب الأحكام 3: 229 ح585، وعنه وسائل الشيعة 4: 334، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب16 ح1.
( صفحه 394 )هو المشي وعدم الاستقرار.
هذا، مضافاً إلى إطلاق بعض الروايات المتقدّمة وصراحة البعض الآخر في عدم الاختصاص، كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الاُولى المتقدّمة(1)، الواردة في الرجل يصلّي النوافل في الأمصار.
ودعوى أنّه يحتمل كون المراد من الأمصار هي الأمصار التي تكون غير مصره، فهو عبارة اُخرى عن السفر، مدفوعة ـ مضافاً إلى أنّه على هذا التقدير كان اللاّزم هو التعبير بالسفر، وإلى أنّ عمدة النظر في حيثيّة السفر إلى الطريق والحركة فيه، لا الكون في غير مصره من مصر آخر ـ بأنّ ما يتقوّم به عنوان السفر هو عدم الكون في بلده، لا الكون في بلد آخر، فالمراد من السؤال هو صلاة النافلة في الحضر على الدابّة.
وأصرح منها صحيحته الاُخرى(2)، الواردة في صلاة النافلة في الحضر على ظهر الدابّة، بناءً على كون النظر فيها إلى حيث الاستقبال أيضاً، كما مرّ الكلام فيه.
وبالجملة: فالظاهر عدم اختصاص الحكم بالسفر وشموله للحضر أيضاً.
ثمّ إنّ ظاهر المشهور(3) أنّه لا تجب رعاية الاستقبال في التكبير، وأنّه لا فرق بينه وبين غيره، ويدلّ عليه مضافاً إلى إطلاق أكثر النصوص رواية
- (1) في ص390.
- (2) تقدّمت في ص391.
- (3) مستمسك العروة الوثقى 5: 221 ـ 223، وراجع أيضاً مفتاح الكرامة 5: 338 ـ 339، وجواهر الكلام 8 : 13 ـ 20، والمستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 24 ـ 25.
( صفحه 395 )الحلبي المتقدّمة(1) على نقل الكافي.
لكن في مقابلها رواية عبد الرحمن بن أبي نجران قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الصلاة بالليل في السفر في المحمل؟ قال: إذا كنت على غير القبلة فاستقبل القبلة ثمّ كبّر وصلِّ حيث ذهب بك بعيرك. قلت: جعلت فداك في أوّل الليل؟ فقال: إذا خفت الفوت في آخره(2). ورواية معاوية بن عمّار المتقدّمة.
ومقتضى الجمع هو الحمل على الاستحباب، ولكن ربما يقال بعدم صلاحيّة مثلهما لتقييد المطلقات ولو مع عدم وجود رواية الحلبي في مقابلهما; وذلك لما اشتهر في باب المندوبات من عدم وجوب حمل المطلق على المقيّد، واختصاصه بالواجبات(3).
واُورد عليه بأنّ هذا فيما إذا كان الكلام المطلق مسوقاً لبيان الحكم التكليفي، لا لبيان كيفيّة العمل الذي لم تثبت مشروعيّة مطلقه كما في المقام، وإلاّ فحاله حال الواجبات(4).
ويدفعه أنّه يكفي في إثبات مشروعيّة المطلق نفس الإطلاقات الواردة الظاهرة فيها، ودليل التقييد لا يقتضي التضييق بعد عدم إحراز وحدة الحكم وإمكان التعدّد، كما في سائر الموارد، فتدبّر.
وكيف كان، فمقتضى قاعدة الجمع في المقام هو الحمل على الاستحباب، كما عرفت، هذا بالنسبة إلى التكبير.
- (1) في ص391.
- (2) تهذيب الأحكام 3: 233 ح606، وعنه وسائل الشيعة 4: 331، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب15 ح13.
- (3 ، 4) مصباح الفقيه 10: 146.
( صفحه 396 )وأمّا بالإضافة إلى الركوع والسجود، فقد حكي عن الشيخ (قدس سره) الإجماع على عدم اعتبار الاستقبال فيهما(1)، ولكن رواية معاوية بن عمّار المتقدّمة ظاهرة في وجوب تحويل الوجه إلى القبلة في حالات التكبير والركوع والسجود، ومقتضى المطلقات خلافه.
كما أنّ رواية عبد الرحمن بن أبي نجران المتقدّمة ـ الظاهرة في اعتبار الاستقبال في التكبير ـ تدلّ على عدم اعتباره فيهما، باعتبار قوله (عليه السلام) : «وصلِّ حيث ذهب بك بعيرك».
ويدلّ عليه أيضاً صحيحة يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يصلّي على راحلته؟ قال: يومىء إيماءً يجعل السجود أخفض من الركوع، قلت: يصلّي وهو يمشي؟ قال: نعم، يومىء إيماءً، وليجعل السجود أخفض من الركوع(2).
فإنّ السؤال وإن لم يكن في نفسه ظاهراً في كون النظر إلى الاستقبال أيضاً، إلاّ أنّ التعرّض في الجواب لكيفيّة الركوع والسجود أيضاً دليل على كون الرواية بصدد بيان جميع الخصوصيّات التي تشتمل عليها الصلاة على الراحلة، فعدم التعرّض للاستقبال فيهما دليل على عدم اعتباره في شيء من أجزاء الصلاة، كما لا يخفى، وعلى ما ذكرنا فرواية معاوية بن عمّار محمولة على الاستحباب كما هو ظاهر.
- (1) الخلاف 1: 298 مسألة 43.
- (2) الكافي 3: 440 ح7، وعنه وسائل الشيعة 4: 332، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب15 ح15، وص335 ب16 ح4.