( صفحه 189 )
الثالث: أنّ هذا اجتهاد في مقابل النصّ، فلعلّ الشارع اعتبر ذلك في الغروب دون الطلوع، ويؤيّده عدم تعرّض الأصحاب له، وهو ظاهر، بل صريح في عدم اعتباره فيه.
الرابع: أنّ هذا قياس مع الفارق; إذ وقت المغرب مسبوق بوقت صلاة العصر، وهذا بخلاف صلاة الفجر; فإنّ استصحاب بقاء وقته يقتضي عدم انقطاعه إلاّ بيقين على الخلاف، وهو لا يحصل إلاّ بظهور قرص الشمس.
وبعبارة اُخرى: ذهاب الحمرة المشرقيّة علامة على تيقّن الغروب الذي هو المعيار في صحّة صلاة المغرب، وانقطاع استصحاب عدمه بخلاف الحمرة المغربيّة; فإنّ أقصاها حصول الشكّ بذلك، وهو لا ينقض اليقين بالوقت.
ولكنّه استشكل هو في هذا الوجه الأخير بأنّ هذا الجواب جيّد لولا ظهور النصوص والفتاوي في خلافه; فإنّ ظاهرها كون زوال الحمرة علامة للغروب نفسه لا لتيقّنه(1).
وأجاب عن البهبهاني (قدس سره) سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره) بوجهين آخرين:
أحدهما: أنّ الاعتبار في صلاة المغرب وإن كان بالغروب، وفي آخر وقت صلاة الصبح بالطلوع، ولكنّه لمـّا كان العلم بتحقّقهما غالباً غير ميسّر، مضافاً إلى كون عدمهما مورداً للاستصحاب، فلا محالة حكم الشارع في ناحية صلاة المغرب بلزوم تأخيرها إلى أن تزول الحمرة المشرقيّة، تحفّظاً لها عن الوقوع في غير الوقت من دون دليل وحجّة على دخوله، وحكم في ناحية صلاة
- (1) جواهر الكلام 7: 199 ـ 201.
( صفحه 190 )
الصبح بجواز الإتيان بها إلى طلوع الشمس من جهة دلالة الأصل العقلائي ـ وهو الاستصحاب ـ على بقائه.
وبالجملة: فقد حكم الشارع في الطرفين على طبق الأصل العقلائي بالحكم الواقعي، لا أنّه أمر بالعمل بالاستصحاب، بل لاحظ في حكمه الواقعي الاستصحاب العقلائيّ وحكم على طبقه.
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لا معنى لأن يكون الحكم الظاهري مبنىً للحكم الواقعي; فإنّ المجعول وظيفة للجاهل كيف يصير مبنىً للحكم الواقعيّ الذي لايختصّ بالجاهل؟ ـ : أنّه لو كان الوقت الواقعي متوقّفاً دخوله على زوال الحمرة المشرقيّة، فلا مجال لدعوى أنّ لزوم التأخير إليها إنّما هو لأجل التحفّظ عن الوقوع في غير الوقت، ولو لم يكن متوقّفاً على دخوله لما كان وجه للزوم التأخير بالإضافة إلى العالم بدخوله ولو لم يتحقّق زوالها.
ثانيهما: أنّ صلاة المغرب من الصلوات الليليّة; بمعنى أنّ الاعتبار في طرف المغرب إنّما هو بدخول الليل لا بتحقّق الغروب، والتعبير بالغروب كما في الأخبار إنّما هو لملاحظة ما عليه المسلمون غير الإماميّة، ولا يكون ذلك مضرّاً بالمطلوب بعد تفسيره بما ينطبق على دخول الليل.
ومن المعلوم أنّ دخول الليل لا يتحقّق إلاّ بغيبوبة الشمس مع جميع توابعها، التي آخرها الحمرة المشرقيّة، وهذا بخلاف صلاة الفجر; فإنّها من الصلوات اليوميّة، ويمكن أن يكون الاعتبار فيها من جهة انتهاء وقتها وانقضاء أجلها بحسب مقام الثبوت بنفس الطلوع.
ويؤيّد ما ذكر من كون العبرة في صلاة المغرب بدخول الليل، وأنّها
( صفحه 191 )
من الصلوات الليليّة، بعض الروايات الواردة في الباب.
كصحيحة بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله سائل عن وقت المغرب؟ فقال: إنّ الله ـ تعالى ـ يقول في كتابه لإبراهيم: (فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) فهذا أوّل الوقت، وآخر ذلك غيبوبة الشفق، الحديث(1).
ويشهد له أيضاً قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(2); فإنّ وقت الإفطار وصلاة المغرب واحد كما هو ظاهر(3).
هذا تمام الكلام في ابتداء وقت المغرب.
الجهة الثانية: في آخر وقت فريضة المغرب، ونقول:
قد اختلفت الآراء في هذه الجهة، فصارت الأقوال متكثّرة. أمّا العامّة، فمحصّل أقوالهم باعتبار الاختلاف في معنى الشفق أيضاً يرجع إلى أربعة:
أحدها: القول بامتداده إلى زمان غيبوبة الشفق; وهو الحمرة، وهو مذهب من عدا أبي حنيفة من القائلين بالامتداد إلى الشفق.
ثانيها: هذا القول، ولكنّ المراد بالشفق هو البياض الغربي، اختاره أبو حنيفة.
ثالثها: ضيق وقت المغرب، قاله الشافعي، حيث ذكر أنّ وقت المغرب وقت واحد; وهو إذا غابت الشمس وتطهَّر وستر العورة وأذّن وأقام; فإنّه
- (1) تقدّمت في ص174.
- (2) سورة البقرة 2: 178.
- (3) نهاية التقرير 1: 136 ـ 138.
( صفحه 192 )
يبتدئ بالصلاة في هذا الوقت، فإن أخّر عنه فاته.
رابعها: امتداد وقت المغرب إلى طلوع الفجر الثاني، ذهب إليه مالك(1).
وأمّا أصحابنا الإماميّة، فقد ذكر في الحدائق أنّ المشهور أنّه يمتدّ إلى أن يبقى لانتصاف الليل مقدار أداء العشاء، وهو اختيار السيّد المرتضى في الجمل، وابن الجنيد، وابن زهرة، وابن إدريس، والمحقّق، وابن عمّه نجيب الدين، وسائر المتأخّرين(2).
وقال الشيخ في أكثر كتبه: آخره غيبوبة الشفق المغربي للمختار، وربع الليل مع الاضطرار، وبه قال ابن حمزة وأبو الصلاح(3). وقال في الخلاف: آخره غيبوبة الشفق وأطلق، وبه قال ابن البرّاج(4)،(5).
وحكى الشيخ في الخلاف القول بالامتداد إلى طلوع الفجر الثاني عن بعض أصحابنا(6)، وصرّح المحقّق في محكي المعتبر بامتداد العشاءين إلى طلوع الفجر للمضطرّ، وتبعه صاحب المدارك وشيّده، وتبعه جملة ممّن
- (1) المجموع 3: 37 ـ 38، المغني لابن قدامة 1: 390 ـ 393، الشرح الكبير 1: 438 ـ 439، أحكام القرآن للجصّاص 3: 258، الاُمّ 1: 73، بداية المجتهد 1: 97 ـ 98، تذكرة الفقهاء 2: 311 ـ 312 مسألة 31.
- (2) لم نعثر عليه في الجمل، ولكن قال به في جوابات المسائل الميافارقيات (رسائل الشريف المرتضى) 1: 274 مسألة 5. نعم، حكى عن الجمل وابن الجنيد في المعتبر 2: 40، ومختلف الشيعة 2: 44 مسألة 6. غنية النزوع: 69 ـ 70، السرائر 1: 195، المعتبر 2: 40، الجامع للشرائع: 60، مختلف الشيعة 2: 44 ـ 47 مسألة 6، الدروس الشرعيّة 1: 139، غاية المرام 1: 119، مجمع الفائدة والبرهان 2: 20.
- (3) المبسوط 1: 74 ـ 75، تهذيب الأحكام 2: 259 ذح1033، الاستبصار 1: 269 ذح972، الاقتصاد: 394، الوسيلة: 83 ، الكافي في الفقه: 137.
- (4) الخلاف 1: 261 مسألة 6، المهذّب 1: 69.
- (5) الحدائق الناضرة 6: 175 ـ 176.
- (6) الخلاف 1: 262 مسألة 6.
( صفحه 193 )
تأخّر عنه(1).
ومنشأ الخلاف اختلاف الأخبار الواردة في هذا الباب، فنقول:
إنّها على خمس طوائف:
الطائفة الاُولى: ما ظاهره التضيّق.
كرواية زيد الشحام قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن وقت المغرب؟ فقال: إنّ جبرئيل أتى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لكلّ صلاة بوقتين غير صلاة المغرب; فإنّ وقتها واحد، وإنّ وقتها وجوبها(2).
ورواية أديم بن الحر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنّ جبرئيل أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالصلوات كلّها، فجعل لكلّ صلاة وقتين إلاّ المغرب; فإنّه جعل لها وقتاً واحداً(3).
ولكن هذه الطائفة ـ مضافاً إلى معارضتها لبعض الروايات الدالّة على ثبوت الوقتين لصلاة المغرب أيضاً، وسيأتي(4) التعرّض له ولما هو المقصود من ثبوت الوقتين لكلّ صلاة إن شاء الله تعالى ـ لا دلالة لها على التضيّق بمثل ما قال به الشافعي; لبعض الروايات الآتية، الواردة في أنّ آخر الوقت سقوط الشفق، المصرّحة بثبوت الوقت الواحد للمغرب، وبأنّ وقت فوتها سقوط
- (1) المعتبر 2: 40 و 43 ـ 44، مدارك الأحكام 3: 54، مفاتيح الشرائع 1: 88 ، مفتاح 97، الحدائق الناضرة 6: 176.
- (2) الكافي 3: 280 ح8 ، تهذيب الأحكام 2: 260 ح1036، الاستبصار 1: 245 ح873 ، وص270 ح975، وعنها وسائل الشيعة 4: 187، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب18 ح1.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 260 ح1035، الاستبصار 1: 245 ح872 ، وعنهما وسائل الشيعة 4: 189، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب18 ح11.
- (4) في ص197 ـ 204 و 252 ـ 266.