( صفحه 400 )الإمام (عليه السلام) لإفادة ضابطة كلّية، وبيان أنّ الصلاة إلى غير القبلة لا تكاد تصدق عليها الماهيّة وتنطبق عليها الحقيقة، والذيل إنّما وقع جواباً عن سؤال زرارة، وكيف يصلح الجواب الذي لا يكاد يصدر من الإمام (عليه السلام) من دون تحقّق السؤال قرينة على تقييد الضابطة الكلّية التي أفادها في الصدر، بل الذيل بمنزلة رواية مستقلّة مشتملة على السؤال والجواب.
وبعبارة اُخرى: هل يجوز ترك التقييد في مقام إفادة الضابطة اعتماداً على أنّه يمكن أن يقع عقيبها سؤال، ولا محالة يتحقّق بعده جواب، ويكون ذلك الجواب قرينة عليه، وعلمه (عليه السلام) بوقوع السؤال بعده لا يسوغ الترك أصلا، فالإنصاف أنّ ذيل الرواية بمنزلة رواية مستقلّة لا تصلح لأن تصير قرينة على التصرّف في الصدر، فالاستدلال بالرواية لمذهب المشهور تامّ.
ثمّ إنّ المراد من قوله (عليه السلام) في بيان حدّ القبلة: «ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه» سيأتي التكلّم فيه، وأنّه هل المراد كونه قبلة في جميع الحالات ولجميع المكلّفين، كما هو ظاهره، أو في بعض الحالات؟ كما أنّه سيأتي بيان أصل المراد ممّا بين المشرق والمغرب إن شاء الله تعالى، فانتظر(1).
ثانيهما: أنّ خروج الفرد في بعض أحواله عن حكم العامّ يوجب أن لا يجوز التمسّك بالعامّ بالنسبة إلى ذلك الفرد في غير تلك الحال; وذلك لعدم كون الشكّ في تخصيص زائد حتّى يدفع بأصالة العموم الجارية في موارد الشكّ في أصل التخصيص، أو في التخصيص الزائد. وعليه: فلا يجوز التمسّك بعموم قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» بعد خروج النافلة في حال
( صفحه 401 )عدم الاستقرار عنه; لأجل الروايات المتقدّمة الدالّة على عدم اعتبار الاستقبال فيها في تلك الحال لما ذكر، فالاستدلال بالصحيحة غير صحيح(1).
والجواب: أنّ قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلاّ إلى القبلة» إمّا أن يكون نكرة واقعة في سياق النفي وهي تفيد العموم، وإمّا أن يكون لنفي الجنس والطبيعة; نظراً إلى كون المنفي هو اسم الجنس الذي لا دلالة له إلاّ على الطبيعة المطلقة.
فعلى الأوّل: لابدّ من ملاحظة أنّ العموم الذي هو مفاد هذا القول، هل هو العموم الأفرادي الذي مرجعه إلى أنّ كلّ فرد يتحقّق في الخارج بعنوان الصلاة، فهو فرد مستقلّ داخل في العموم من دون واسطة، فالمراد حينئذ أنّ كلّ ما يؤتى به في الخارج بعنوان تحقّق ماهيّة الصلاة، فالانطباق يتوقّف على وقوعه إلى القبلة والتوجّه فيه إليها، أو أنّ العموم الذي هو مفاد هذا القول هو العموم بلحاظ الأنواع الواقعة تحت ماهيّة الصلاة وجنسها، بحيث كانت صلاة النافلة مثلا فرداً واحداً من أفراد العامّ، وصلاة الظهر أيضاً كذلك، وهكذا، ومرجعه حينئذ إلى أنّه لايتحقّق نوع من أنواع الصلاة إلاّ مع التوجّه فيه إلى القبلة؟
فإن كان المراد هو الأوّل الذي يكون كلّ صلاة موجودة في الخارج فرداً واحداً مستقلاًّ، فلا يبقى مجال للإشكال في صحّة التمسّك بعموم قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلاّ إلى القبلة»; لأنّ النافلة في حال الاستقرار فرد مستقلّ بل أفراد مستقلّة شكّ في خروجها، فالشكّ لا محالة إنّما هو في التخصيص الزائد، وخروج أفراد كثيرة بعنوان واحد ـ وهي النافلة في حال عدم الاستقرار ـ
- (1) مصباح الفقيه 10: 148.
( صفحه 402 )لا يوجب عدم كون الشكّ في غير أفراد هذا العنوان في التخصيص الزائد، كما لا يخفى، فعلى هذا الاحتمال لا يبقى للإشكال مجال.
وإن كان المراد هو الثاني الذي يكون كلّ نوع فرداً واحداً، فالنافلة في حال عدم الاستقرار فرد واحد خارج في بعض الأحوال، فالمقام نظير ما إذا ورد «أكرم كلّ عالم»، ثمّ قام الدليل على عدم وجوب إكرام زيد العالم في يوم الجمعة، وشكّ في وجوب إكرامه في غير ذلك اليوم، حيث إنّ زيداً فرد واحد خارج عن العموم في يوم الجمعة، فعدم جواز التمسّك بالعامّ حينئذ محلّ نظر بل منع، ولتوضيحه نقول:
لابدّ من ملاحظة أنّ إخراج فرد في حال، هل يكون مرجعه إلى التصرّف في عموم العامّ وإخراج الفرد منه، أو أنّ حقيقته التصرّف في الإطلاق الأحوالي الثابت للعامّ، مضافاً إلى العموم الأفرادي، بحيث لو فرض عدم ثبوت الإطلاق الأحوالي لا يكون هناك تصرّف أصلا؟
الظاهر هو الثاني; لأنّ إخراج الفرد في حال لا ينافي العموم اللغوي بوجه; لأنّ مفاده دخول تمام الأفراد في حكم العامّ من غير تعرّض لحالات الافراد، والدليل المخرج لا دلالة له على خروج فرد من العامّ رأساً حتّى يكون تخصيصاً، بل يدلّ على خروجه في حال، وهذا مخالف لظهور الإطلاق في الشمول لجميع الحالات.
وعليه: فالشكّ في ثبوت حكم العامّ بالنسبة إلى ذلك الفرد في غير تلك الحال مرجعه إلى الشكّ في تقييد زائد على التقييد المعلوم، وأصالة الإطلاق ترفع هذا الشكّ، فإذا قام الدليل على وجوب الوفاء بكلّ عقد، كما هو مفاد
( صفحه 403 )قوله ـ تعالى ـ : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1)، وقام الدليل على عدم وجوب الوفاء بعقد في زمان، كما لو انعقد الإجماع أو دليل نفي الضرر فرضاً على عدم وجوب الوفاء بالعقد الذي ظهر فيه الغبن إلى ساعة مثلا، فهذا الدليل الثاني لا يكون منافياً للعموم الأفرادي اللغوي الذي هو مفاد الدليل الأوّل، بل يكون منافياً للإطلاق الأزماني الثابت له، ولامحيص إلاّ للرجوع إلى الإطلاق في الشكّ في التقييد الزائد.
والشاهد لما ذكرنا من عدم كون إخراج الفرد في بعض الأحوال تخصيصاً للعامّ وتصرّفاً في العموم، أنّه لو فرض قيام الدليل على خروج جميع الأفراد في بعض الحالات، لا يتوهّم أحد ثبوت المنافاة بينه، وبين الدليل الأوّل، فلو فرض ثبوت الخيار في تمام العقود في الساعة الاُولى بعد تحقّق العقد، لا يكون ذلك منافياً لعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أصلا، فإذا لم يكن إخراج جميع الأفراد كذلك منافياً، فكيف يكون إخراج فرد واحد كذلك تصرّفاً في العامّ؟ ولعمري هذا واضح.
فانقدح أنّه على هذا التقدير لا يكون إخراج النافلة في حال عدم الاستقرار منافياً لجواز التمسّك بالدليل لإثبات اعتبار الاستقبال فيها في حال الاستقرار; لأنّ مقتضى أصالة الإطلاق ثبوت حكم العامّ في غير تلك الحال كما عرفت، هذا كلّه لو كان المنفيّ هي النكرة، وقلنا بإفادتها مع وقوعها في سياق النفي للعموم.
وأمّا لو كان المنفيّ هو الجنس والطبيعة، فإمّا أن يقال بأنّ الطبيعة المنفيّة
( صفحه 404 )هي الطبيعة بلحاظ سريانها في الأفراد وجريانها في المصاديق، وإمّا أن يقال بأنّها هي نفس الطبيعة والماهيّة مع قطع النظر عن السريان والجريان.
فعلى الأوّل: يرجع هذا الفرض إلى الفرض الأوّل; وهو العموم الأفرادي بلحاظ كلّ فرد; لأنّ معنى السريان هو الشمول لكلّ فرد، وقيام الدليل على منع السريان في طائفة من الأفراد لا يوجب إهمال الدليل بلحاظ الأفراد التي لم يقم فيها دليل على منع السريان; لأنّ الشكّ في الشمول لهذه الأفراد شكّ في مانع مستقلّ، ومقتضى الدليل هو عدمه، كما لا يخفى.
وعلى الثاني: يكون الموضوع صرف الطبيعة بلا تكثّر فيه ولا عموم وسريان، فمع قيام الدليل على خروج النافلة في حال عدم الاستقرار لابدّ إمّا من الالتزام بخروج هذه الحال عن مطلق الصلاة، والقول بأنّ صلاة الفريضة في حال عدم الاستقرار لا يعتبر فيها الاستقبال، وإمّا من الالتزام بصيرورة ذلك الدليل قرينة على اختصاص الموضوع المنفي بخصوص صلاة الفريضة، والحكم بأنّ الدليل لا يدلّ على أزيد من اعتبار الاستقلال فيها، وحينئذ فيصحّ للمورد أن يقول بأنّه حيث لا يصحّ الالتزام الأوّل، فلابدّ من الالتزام الثاني.
ولكنّ الجواب عنه حينئذ أن يقال: إنّه على تقدير تسليم كون هذا التركيب ظاهراً في نفي الجنس والطبيعة، ولكن لا نسلّم ظهوره في عدم كون نفي الجنس بلحاظ السريان، بل هو الظاهر منه، خصوصاً مع ملاحظة ورود الدليل المذكور في النافلة، الشاهد على كون الطبيعة الملحوظة إنّما هي الطبيعة السارية لا صرف الماهيّة، فانقدح من جميع ما ذكرنا صحّة التمسّك