( صفحه 25 )
ترفع الاختلاف وتعيّن الحقّ، فلا يبقى إشكال حينئذ.
ويمكن الجمع بين الأخبار المختلفة في نافلتي العصر والمغرب بالحمل على مراتب الاستحباب، وأنّ الإتيان بأربع ركعات في نافلة العصر يشترك مع الإتيان فيها بثمان ركعات في أصل فضيلة نافلة العصر، ولكنّه واقع في المرتبة الدانية، وهي في المرتبة العالية، وكذا في نافلة المغرب، ولا ينافيه التعبير عنه بالاختلاف في رواية البزنطي المتقدّمة; فإنّ المراد حينئذ هو الاختلاف في مقام العمل دون الفتوى; وإن كان ظاهرها هو العمل المستمرّ الناشىء عن الفتوى بذلك، دون العمل أحياناً.
ويؤيّد هذا الجمع التعبير عن تمام الخمسين بأفضل ما جرت السنّة به من الصلاة في رواية محمد بن أبي عمير المتقدّمة، وعن الستّ والأربعين بأنّه يستحبّ أن لايقصر منه في رواية أبي بصير المتقدّمة أيضاً، وإن كان المناسب حينئذ وقوع هذا التعبير في رواية الأربع والأربعين.
ثمّ إنّه على تقدير عدم إمكان الجمع بالنحو المذكور، وعدم كون رواية البزنطي رافعة للاختلاف، ووصول النوبة إلى قواعد باب التعارض، فالترجيح مع الطائفة الاُولى; لموافقتها للشهرة(1) من حيث الفتوى، بل المجمع عليه بين الأصحاب(2)، وقد تقرّر في محلّه أنّ أوّل المرجّحات هي الشهرة الفتوائيّة(3).
- (1) تقدّم تخريجها في ص19.
- (2) الانتصار: 159، الخلاف 1: 525 ـ 526 مسألة 266، المهذّب البارع 1: 278، غاية المرام 1: 115، مجمع الفائدة والبرهان 2: 4.
- (3) دراسات في الاُصول 2: 431 ـ 436، سيرى كامل در اصول فقه 16: 532 وما بعدها.
( صفحه 26 )
ثمّ إنّه ورد في بعض الروايات ما يدلّ بظاهره على أنّ نافلة الظهر أربع ركعات; وهو ما رواه الحميري في قرب الإسناد، عن الحسن بن ظريف، عن الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام) أنّه كان يقول: إذا زالت الشمس عن كبد السماء فمن صلّى تلك الساعة أربع ركعات فقد وافق صلاة الأوّابين، وذلك بعد نصف النهار(1).
ولكنّها ـ مضافاً إلى عدم صحّة سندها; لأنّ حسين بن علوان من الزيديّة ـ محمولة على التقيّة من جهة موافقتها لمذهب الحنفيّة(2)، إلاّ أن يقال بأنّ الجمع بين الروايات بالحمل على مراتب الاستحباب يشمل نافلة الظهر أيضاً بعد الإغماض عن سند الرواية، أو الرجوع إلى قاعدة التسامح في أدلّة السنن(3)، فتدبّر.
وينبغي التنبيه في هذه المسألة على أمرين:
أحدهما: أنّ اختلاف تعبير النصوص ـ في نافلة العصر بكونها ثمانياً قبل العصر، أو ستّاً بعد الظهر، وركعتين قبل العصر، أو أربعاً قبل العصر وأربعاً بعد الظهر، وهكذا في نافلة المغرب بكونها أربعاً بعد المغرب، أو ركعتين بعدها، وركعتين قبل العشاء الآخرة ـ لا يكون إلاّ من الاختلاف في التعبير، والمقصود من الكلّ واحد وإن استفاد المحقّق الهمداني (قدس سره) (4) من هذه الجهة
- (1) قرب الإسناد: 115 ح403، وعنه وسائل الشيعة 4: 94، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض ب28 ح4.
- (2) راجع المغني لابن قدامة 1: 765، والبدائع الصنائع 1: 636 ـ 637، وردّ المحتار على الدّر المختار شرح تنوير الأبصار 2: 451.
- (3) العناوين 1: 420 قاعدة 15، عوائد الأيّام: 793 عائدة 81 ، مناهج الأحكام: 178.
- (4) مصباح الفقيه 9: 31 ـ 37.
( صفحه 27 )
مطلباً في الأمر الثاني الذي ننبّه عليه الآن.
ثانيهما: أنّه لا ريب في أنّ نافلة كلّ فريضة عبادة مستقلّة لا ارتباط لها بنافلة فريضة اُخرى، فيجوز الإتيان بها وإن ترك غيرها من النوافل، وهذا ممّا لا إشكال فيه، إنّما الإشكال في أنّ النوافل التي تكون أزيد من صلاة واحدة ـ مثل نافلة المغرب المركّبة من صلاتين، ونافلة الظهر أو العصر المركّبة من أربع صلوات، كلّ واحدة منها ركعتان، بناءً على لزوم الإتيان بالنوافل ركعتين ركعتين، كما هو المشهور(1)، وادّعي عليه الإجماع(2)، كما أنّها تكون متعدّدة بما أنّها مصداق لعنوان الصلاة بلا ريب ـ هل تكون أيضاً متعدّدة بعنوان أنفسها، أم لا؟
وبعبارة اُخرى: هل تكون للظهر مثلاً نافلة واحدة مركّبة من أربع صلوات، أو نوافل متعدّدة حسب تعدّد الصلوات.
فعلى الأوّل: تصير مثل صلاة جعفر (عليه السلام) (3)، التي لا يترتّب عليها شيء من الآثار المترتّبة عليها، المترقّبة منها: من غفران الذنوب، وسعة الرزق، وغيرهما من الآثار إلاّ بعد الإتيان بأربع ركعات المركّبة من صلاتين مفصولتين.
وعلى الثاني: كالنوافل المطلقة، ظاهر الروايات الواردة في الباب(4) هو
- (1) في الحدائق الناضرة 6: 75، المعروف من مذهب الأصحاب. ولم نعثر على من ادّعى الشهرة عاجلاً.
- (2) الخلاف 1: 527 مسألة 267، غنية النزوع: 106 ـ 107، السرائر 1: 193، مجمع الفائدة والبرهان 3: 40، وحكاه في مفتاح الكرامة 5: 38 عن إرشاد الجعفريّة.
- (3) وسائل الشيعة 8 : 49 ـ 53، كتاب الصلاة، أبواب صلاة جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) ب1.
- (4) راجع وسائل الشيعة 4: 45 ـ 66، كتاب الصلاة، أبواب أعداد الفرائض ب13 ـ 15.
( صفحه 28 )
كون المجموع نافلة واحدة متعلّقة لأمر استحبابيّ واحد وإن كانت بما هي صلاة متعدّدة; فإنّ مثل قوله (عليه السلام) : «ثمان ركعات للظهر»(1) ليس له ظهور إلاّ في كون الثمان كالأربع التي هي فريضة الظهر متعلّقة لأمر واحد، غاية الأمر اختلاف الأمرين في الوجوب والاستحباب، واختلاف العبادتين في كونها صلاة واحدة أو متعدّدة. وأمّا من جهة عدم تعدّد الأمر، والعنوان الواحد المأمور به، فلا اختلاف بينهما.
ويظهر من الجواهر خلاف ذلك، ونسبه إلى العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) ، واستدلّ عليه بالأصل وتحقّق الفصل، وهو يقتضي التعدّد وعدم وجوب إكمالها بالشروع فيها، وكونها مشروعة لتكميل الفرائض، فيكون لكلّ بعض منها قسط منه(2).
ويرد على التمسّك بالأصل ـ مضافاً إلى أنّه لا مجال له مع وجود الدليل الاجتهادي مطلقاً موافقاً كان أم مخالفاً، وقد عرفت ظهور الروايات في كون المجموع نافلة واحدة متعلّقة لأمر استحبابي واحد ـ : أنّ محلّ البحث في المقام هو ارتباط الأجزاء والصلوات المتعدّدة بعضها مع بعض، والأصل الذي يتصوّر هو استصحاب عدم الارتباط بلحاظ أنّه قبل تشريع النافلة لم يكن ارتباط بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، فيستصحب العدم وينتج عدم الارتباط بعد تشريعها أيضاً.
وقد قرّرنا في محلّه(3) أنّه لا أصل لمثل هذه الاُصول التي كانت الحالة
- (1) تقدّم في ص23.
- (2) جواهر الكلام 7: 54 ـ 55.
- (3) سيرى كامل در اُصول فقه 8 : 239 ـ 248، وج15: 318.
( صفحه 29 )
السابقة المتيقّنة منتفية بانتفاء الموضوع، والحالة المشكوكة هي المنتفية بانتفاء المحمول، بل الأصل الذي يمكن التمسّك به في المقام هي أصالة عدم استحباب الأقلّ من المجموع، بعد وضوح كون المجموع مستحبّاً قطعاً بجميع أجزائه وأبعاضه، ومنه يعلم الفرق بين المقام، وبين مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيين المعروفة(1); فإنّه في تلك المسألة يكون تعلّق الأمر بالأكثر كتعلّقه بالأقلّ مشكوكاً، فهذا الدليل غير تامّ.
وأمّا تحقّق الفصل وجواز الإتيان بالمنافي بين كلّ ركعتين، فهو يقتضي التعدّد بما أنّها صلاة ولا بحث فيها، ولكنّه لا يقتضي التعدّد بما أنّها نافلة الظهر مثلاً، وذلك كصلاة جعفر (عليه السلام) ; فإنّها مع تحقّق الفصل بين كلّ ركعتين لا تكون إلاّ عملاً واحداً مستحبّاً.
وأمّا عدم وجوب إكمالها بالشروع فيها، فهو لا دلالة له على اتّصاف البعض المأتيّ بكونه منطبقاً عليه عنوان المأمور به; لأنّه لا منافاة بين اعتبار الارتباط بين الأبعاض، والحكم بعدم وجوب الإكمال وجواز رفع اليد عنه في الأثناء، كما أنّ النافلة المطلقة يجوز قطعها بناءً على الجواز، ولا يوجب اتّصاف المأتيّ به بكونه صلاة مترتّباً عليها آثار الصلاة ومزاياها، كما لا يخفى.
وأمّا كونها مشروعة لتكميل الفرائض، فهو أيضاً لا يقتضي جواز التقسيط بحيث كان كلّ قسط دخيلاً في التكميل مستقلاًّ، وإلاّ لجاز الاقتصار على بعض صلاة واحدة، كالركعة وما دونها أيضاً.
- (1) كفاية الاُصول: 413، مصباح الاُصول، موسوعة الإمام الخوئي 1: 494، سيرى كامل در اُصول فقه 12: 327 وما بعدها.