( صفحه 436 )عليها مضافاً إلى ما تقدّم اُمور:
الأوّل: أنّه لم يقع التعرّض لبيان ما هو الضابط للقبلة في لسان النبيّّ والأئـمّة ـ عليه وعليهم الصلاة والسلام ـ ، مع علمهم بأنّ أكثر المسلمين يكون بلادهم في النقاط البعيدة عن الكعبة، وثبوت الفصل بينها وبينها، ومع وضوح ابتلائهم واحتياجهم إلى رعاية القبلة في كثير من الاُمور التي عمدتها الصلاة، وهي الأساس لسائر الأعمال، إن قبلت قُبل ما سواها، وإن رُدّت ردّ ما سواها(1)، واعتبارها فيها لا يختصّ بحال التوجّه والالتفات; لأنّ القبلة من الاُمور الخمسة المستثناة في حديث «لا تعاد»(2).
ومع ذلك لم يقع التعرّض لبيان ضابطة لها مع التعرّض للاُمور التي لا تقاس في الأهمّية بالقبلة أصلا; فإنّه يعلم من ذلك أنّه لا يكون بناؤها على التضيّق ورعاية الدقّة، ولزوم التوجّه إلى نفس العين بنحو يقع الخطّ الخارج من موقف المصلّي إليها.
إن قلت: الروايات المصرّحة بأنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة تكون في مقام بيان الضابطة وإعطاء القاعدة، ومفادها توسعة دائرة القبلة، كما مرّ(3).
قلت: نعم، ولكنّه يتوقّف على أن يكون المراد منها ما ذكرنا من أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة لعامّة المكلّفين وفي جميع الحالات، وأنّ المراد ممّا بينهما هو الربع الذي لا ينطبق على شيء من أجزائه أحد العنوانين.
- (1) تقدّم تخريجه في ص7 ـ 8 .
- (2) تقدّم في ص155، 291، 292، 297، 348، 390 و 405.
- (3) في ص427 ـ 430 و 434.
( صفحه 437 )ويتحصّل ممّا ذكر أنّه لابدّ إمّا من الالتزام بكون هذه الروايات في مقام بيان الضابطة، ولا محيص عن كون المراد منها ما ذكرنا، وإمّا من الالتزام بعدم وقوع التعرّض لبيان الضابطة في ألسنتهم (عليهم السلام) ، وهو أيضاً دليل على التوسعة، غاية الأمر أنّه على التقدير الأوّل: تكون التوسعة في ناحية نفس القبلة; لأنّها عبارة عن مجموع ما بين المشرق والمغرب، وعلى التقدير الثاني: تكون التوسعة المستفادة من عدم التعرّض أعمّ من توسعة القبلة وتوسعة الاستقبال، كما لا يخفى.
الثاني: بعض الروايات الدالّة على أنّ جعل الجدي في القفا أمارة للقبلة.
كرواية محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن القبلة؟ فقال: ضع الجدي في قفاك وصلّ(1).
والمراد من القفا إمّا أن يكون مقدار ما بين الكتفين، وإمّا أن يكون هو المقدار الذي وقع ظهر الوجه، وهو ربع الدائرة التي تتشكّل من الوجه والعنق وطرفي اليمين واليسار، وعلى أيّ تقدير، فمقتضى إطلاق الرواية عدم الاختصاص بوسط القفا، بل يجوز وضعه في كلّ جزء من الأجزاء.
كما أنّ مقتضى الإطلاق عدم الاختصاص بحالتي ارتفاع الجدي وانخفاضه، الذي يكون في الحالتين على دائرة نصف النهار، بل يعمّ جميع حالات الجدي الذي هو نجم لا يزول، وقد فسّر في بعض الروايات قوله ـ تعالى ـ : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)(2) بالجدي.
- (1) تهذيب الأحكام 2: 45 ح143، وعنه وسائل الشيعة 4: 306، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب5 ح1.
- (2) سورة النمل 16: 16.
( صفحه 438 )كما في رواية إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) قال: هو الجدي; لأنّه نجم لا يزول، وعليه بناء القبلة، وبه يهتدي أهل البرّ والبحر(1).
وبالجملة: ظاهر إطلاق الرواية عدم الاختصاص بالحالتين أصلا.
وأمّا من جهة كون المخاطب هو محمد بن مسلم، وهو عراقيّ كوفيّ، فلا ينبغي الإشكال في عدم كون وضع الجدي على القفا علامة لجميع المسلمين مع اختلاف بلادهم وتفاوت مناطقهم، ولكنّه لم يعلم أنّ هذه العلامة علامة لجميع أهل العراق، أو لخصوص أوساطه، كالكوفة التي كان الراوي منسوباً إليها وبغداد ومثلهما.
كما أنّه لم يعلم أنّ المراد من الرواية أنّ الرجوع إلى هذه العلامة إنّما هو في خصوص صورة عدم التمكّن من تحصيل العلم، أو أنّه لا يختصّ بذلك، بل يجوز للمتمكّن أيضاً أن يضع الجدي في قفاه ويصلّي، ولكن لا يبعد دعوى أنّ ظاهر الرواية عدم الاختصاص، فهل يمكن القول باختصاص الاستفادة من هذه العلامة بما إذا لم يكن مثل الراوي قادراً على الوصول إلى البلد، والدخول في مسجد الكوفة وتشخيص القبلة بسببه؟ فالرواية من هذه الجهة مطلقة أيضاً.
وبالجملة: فالمستفاد من الرواية ـ بلحاظ جعل الجدي مطلقاً في القفا كذلك علامة لجميع بلاد العراق، أو خصوص الأوساط منه، مع أنّ أراضي العراق غير واقعة في شمال الكعبة حقيقة، بل هي مائلة إلى الشرق ـ أنّ القبلة
- (1) تفسير العيّاشي 2: 256 ح12، وعنه وسائل الشيعة 4: 307، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب5 ح3.
( صفحه 439 )مبتنية على التوسعة; ضرورة أنّ اختلاف حالات الجدي، وإطلاق إجزاء القفا يقتضي التوجّه إلى نقطة الجنوب تارة، والانحراف عنها قليلا اُخرى، وكثيراً ثالثة، كما لا يخفى.
وهذا لا يتمّ إلاّ مع التوسعة المذكورة، وقد عرفت عدم اختصاص الرواية بغير المتمكّن، بل هي مطلقة، ومرجعها إلى جواز الرجوع إلى هذه العلامة كذلك.
الثالث: ما جعله المحقّق (قدس سره) في الشرائع علامة لأهل العراق; من جعل الجدي خلف المنكب الأيمن، أو جعل عين الشمس وقت الزوال على الحاجب الأيمن، أو جعل المشرق على الأيسر والمغرب على الأيمن(1); فإنّ مقتضى هذه العلامات مختلف; ضرورة أنّ المصلّي لو عمل على طبق الأمارة الاُولى يلزم أن ينحرف عن نقطة الجنوب نحو المغرب، إمّا قليلا لو جعلنا المنكب عبارة عمّا بين المفصل والعنق، وإمّا كثيراً لو جعلناه عبارة عمّا بين المفصل والعضد.
ولو عمل على طبق الأمارة الثانية، لزم الانحراف عن نقطة الجنوب نحو المشرق; فإنّ الشمس تكون في تلك الحالة على دائرة نصف النهار، وجعلها في هذه الحالة على الحاجب الأيمن يستلزم الانحراف المذكور.
ولو عمل على طبق الأمارة الثالثة، فاللاّزم أن يتوجّه نحو نقطة الجنوب، فمقتضى العلامات مختلف، ولذا اعترض عليه جماعة من الأصحاب بذلك، ولكنّ الذي يدفع الاعتراض كون أمر القبلة مبنيّاً على التوسعة بحيث
لا يقدح فيها الاختلاف المذكور.
ودعوى عدم كون هذه الأمارات علامات لجميع أهل العراق، بل يختصّ
( صفحه 440 )كلّ واحدة منها بطائفة من بلاد العراق، فالعلامة الاُولى تكون أمارة لأوساط العراق كالكوفة وبغداد، والثانية للبلاد الغربيّة كسنجار والموصل، والثالثة للبلاد الشرقيّة كالبصرة وما والاها.
مدفوعة بعدم الشاهد عليها; لعدم القرينة في التخصيص، مضافاً إلى ما ربما يقال: من أنّ قبلة الأطراف الغربيّة من العراق كالموصل، هي نقطة الجنوب دون الانحراف عنها إلى جانب المشرق، فهذه الدعوى ساقطة.
تتميم
ذكر المحقّق في الشرائع بعد العلامات المتقدّمة لأهل العراق أنّه يستحبّ لهم التياسر إلى يسار المصلّي منهم قليلا(1)، وادّعى في الجواهر أنّه المشهور نقلا(2) وتحصيلا، واستشكل على سلطان المحقّقين نصير الملّة والدين على ما حكي عنه، لمّا حضر مجلس درسه يوماً، واتّفق الكلام في هذه المسألة بما يرجع إلى «أنّ التياسر أمر إضافيّ لا يتحقّق إلاّ بالإضافة إلى صاحب يسار متوجّه إلى جهة، فإن كانت تلك الجهة محصّلة لزم التياسر عمّا وجب التوجّه إليه، وهو حرام; لأنّه خلاف مدلول الآية، وإن لم تكن محصّلة لزم عدم إمكان التياسر; إذ تحقّقه موقوف على تحقّق الجهة التي يتياسر عنها»، فكيف يتصوّر الاستحباب؟ بل المتّجه حينئذ وجوب التياسر المحصّل لها(3).
- (1) شرائع الإسلام 1: 66.
- (2) كجامع المقاصد 2: 56، وروض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 529 ـ 530، ومدارك الأحكام 3: 130، والحدائق الناضرة 6: 383.
- (3) جواهر الكلام 7: 596 ـ 597.