( صفحه 409 )الفرائض، فلابدّ فيها من استقبال القبلة(1).
فإنّ إطلاقه يشمل النافلة في حال الاستقرار، والتقييد بحال السفر ليس لأجل اختصاص الحكم به، بل لأجل غلبة وقوع النوافل في حال السفر إلى غير القبلة، ولذا لا يكون الاستقبال شرطاً لها في الأمصار أيضاً في حال عدم استقرار المصلّي بلا خلاف كما عرفت(2)، ويؤيّده التقابل بين الفريضة ومطلق النافلة.
وغير ذلك من الروايات(3) التي تدلّ على ذلك، ولكن إعراض المشهور عنها وعدم الفتوى على طبقها مع وضوح دلالتها وصحّة سند أكثرها يوجب الوهن فيها، خصوصاً مع ما عرفت(4) من إنكار المتشرّعة الصلاة إلى غير القبلة في حال الاستقرار، ولا فرق عندهم بين الفريضة والنافلة في هذه الجهة أصلا. وعليه: فالظاهر ما هو المشهور(5)، فتدبّر.
ثمّ إنّه وقع الخلاف أو الإشكال في جواز صلاة النافلة مع عدم الاستقرار إلى غير القبلة إذا كانت متعلّقة للنذر وغيره، وأنّه هل لا يكون الاستقبال معتبراً فيها كذلك؟ وكذا في اعتبار الاستقبال فيما إذا صارت الفريضة مستحبّة، كصلاة المعادة جماعة بعد الإتيان بها فرادى.
- (1) تقدّم في ص393.
- (2) في ص390 ـ 395.
- (3) وسائل الشيعة 4: 328 ـ 336، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب15 و 16، وذكرها في الحدائق الناضرة 6: 424 ـ 429.
- (4) في ص398.
- (5) تقدّم تخريجه في ص398.
( صفحه 410 )ومنشأ الإشكال أنّ عنوان الفريضة المأخوذ في الأدلّة، هل يكون المراد به ما هو واجب بالفعل، ويلزم على المكلّف الإتيان به كذلك، أو أنّ التعبير به إنّما هو للإشارة إلى العناوين المفروضة بالذات؟ وكذا عنوان النافلة المأخوذ في دليل عدم اعتبار الاستقبال، هل المراد به ما هو مستحبّ بالفعل ولو كان بحسب عنوانه واجباً، أو أنّه إشارة إلى العناوين المستحبّة، كصلاة الليل ونحوها؟
فعلى الأوّل: تلزم رعاية الاستقبال في النافلة المنذورة لوجوبها بالفعل، ولزوم الإتيان بها على المكلّف كذلك، كما أنّه لا تلزم رعايته في الصلاة المعادة; لعدم وجوبها فعلا.
وعلى الثاني: ينعكس الحكم، فيعتبر في الثاني دون الأوّل، كما لا يخفى. هذا ما يستفاد من كلماتهم.
ولكنّ الظاهر أنّه لا مجال لهذا البحث أصلا; لعدم صيرورة النافلة واجبة أصلا ولو كانت متعلّقة للنذر ونحوه، وذلك لما مرّ(1) سابقاً من أنّ تعلّق النذر بالنافلة لايوجب صيرورة النافلة واجبة; فإنّ الوجوب الجائي من قبل النذر إنّما يكون متعلّقاً بالوفاء بالنذر، الذي هو عنوان خاصّ، ومجرّد تحقّق الوفاء بالنذر خارجاً بسبب الإتيان بالمنذور لا يوجب تغيّر حكمه; لعدم سراية الحكم من متعلّقه إلى شيء آخر ولو كان متّحداً معه وجوداً، بل لا يعقل التغيّر; فإنّ اتّصاف صلاة الليل مثلا بالاستحباب إنّما يكون له دخل في صحّة النذر وانعقاده ووجوب الوفاء به; وذلك لاعتبار الرجحان في متعلّقه الذي
( صفحه 411 )هو ملازم لثبوت الاستحباب في المقام.
وعليه: فكيف: يمكن أن يكون الوجوب المتفرّع على الاستحباب موجباً لزواله وقيامه مقامه؟ واجتماعهما أيضاً مستحيل بداهة. وعليه: فلا يعقل أن يكون النذر مغيّراً للاستحباب الثابت للمنذور قبل تعلّق النذر، فكما أنّ تعلّق النذر بالفعل الواجب لا يوجب زوال وجوبه وقيام الوجوب النذري مقامه، فكذلك إذا كان المنذور مستحبّاً; فإنّه لا يتغيّر حكمه الاستحبابي بسبب تعلّق النذر.
فانقدح أنّ النافلة لا تصير واجبة بوجه حتّى يبحث في اعتبار الاستقبال فيها مطلقاً، أو في حال عدم الاستقرار، ووجوب صلاة الليل أو خصوص الوتر على النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا دلالة له على صيرورة النافلة واجبة; فإنّ صلاة الليل عنوان خاصّ يختلف حكمه باختلاف الأفراد، فبالإضافة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) يكون واجباً، وبالنسبة إلى غيره يكون مستحبّاً، فالنافلة لم تصر واجبة، بل ما كانت نافلة في حقّنا تكون واجبة في حقّه (صلى الله عليه وآله) ، وهو غير ما نحن فيه.
هذا، والظاهر أنّ الفريضة أيضاً لا تصير مستحبّة حتّى يبحث فيها كذلك، وصلاة المعادة جماعة لا تكون شاهدة على هذا الأمر; وذلك لأنّ متعلّق الاستحباب ليس هي نفس صلاة الظهر مثلا الفريضة التي اُتي بها فرادى، بل متعلّقه هو عنوان الإعادة جماعة، وهذا يغاير عنوان الصلاة التي هي فريضة، كعنوان الجماعة المستحبّ فيها.
وبعبارة اُخرى: الصلاة المعادة لها حيثيّتان: فباعتبار كونها صلاة الظهر فريضة واجبة، وباعتبار كونها تكراراً لصلاة الظهر وإعادة لها جماعة
( صفحه 412 ) مستحبّة، ولا يلزم من ذلك وجوب الإتيان بها ثانياً; فإنّ متعلّق الوجوب هي نفس العنوان من دون مدخليّة التعدّد والتكرّر، فلا وجه للزوم الإتيان بها كذلك، فصلاة الفريضة لا تصير مستحبّة بوجه، فلا مجال للبحث المذكور أصلا.
بعض الاُمور التي لم يتعرّضها الماتن
ثمّ إنّه لم يقع التعرّض في المتن للقبلة وأنّها أيّ شيء، وكذا للخصوصيّات المعتبرة في الاستقبال، وكذا للبحث عن المستقبِل بالكسر، وأنّه هل يكون فرق بين القريب والبعيد، أم لا، ونحن نتعرّض لها في ضمن اُمور:
الأوّل: أنّه لا شكّ في أنّ قبلة المسلمين هي الكعبة المشرّفة، والظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين من كان في المسجد، ومن كان في الحرم خارجاً عن المسجد، ومن كان خارجاً عنهما، وقد حكي ذلك عن السيّد، وابن الجنيد، وأبي الصلاح، وابن إدريس، والمحقّق في بعض كتبه(1)، ونسب إلى المتأخّرين(2) بل إلى الأكثر(3) والمشهور(4).
ولكنّه حكي عن الشيخين وجماعة من القدماء وبعض المتأخّرين: أنّ الكعبة قبلة لمن في المسجد، والمسجد قبلة لمن في الحرم، والحرم قبلة لمن خرج عنه(5)، وفي الشرائع: أنّه الأظهر(6)، وفي الذكرى نسبه إلى أكثر
- (1) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3: 29، وحكاه عن ابن الجنيد في مختلف الشيعة 2: 79 مسألة 1، الكافي في الفقه: 138، السرائر 1: 204، المعتبر 2: 65، المختصر النافع: 70.
- (2) مسالك الأفهام 1: 185، بحار الأنوار 84 : 51.
- (3) مدارك الأحكام 3: 119، رياض المسائل 3: 111، مستند الشيعة 4: 155 ـ 156، جواهر الكلام 7: 517.
- (4) زبدة البيان 1: 102، مفاتيح الشرائع 1: 112، مفتاح الكرامة 5: 254 ـ 257، جواهر الكلام 7: 514 ـ 520.
- (5) المبسوط 1: 77 ـ 78، الجمل والعقود (الرسائل العشر): 175، المقنعة: 95 ـ 96، المراسم: 60، المهذّب 1: 84 ، إصباح الشيعة: 61 ـ 62، مسالك الأفهام 1: 151.
- (6) شرائع الإسلام 1: 65.
( صفحه 413 )أصحابنا(1)، وعن الخلاف الإجماع عليه(2)، ونقول:
أمّا الآيات(3) الواردة في القبلة، فمفاد جميعها هو وجوب تولية الوجه شطر المسجد الحرام، ومحلّ نزولها إنّما هي المدينة المنوّرة التي تكون خارجة عن الحرم، فمن جهة دلالتها على وجوب التوجّه شطر المسجد يدلّ على أنّ الحرم لا يكون قبلة بوجه، والظاهر أنّ المراد بالمسجد الحرام فيها هي نفس البيت شرّفه الله تعالى، والتعبير عنه به إنّما هو لأجل قلّة التفاوت بينهما من حيث المقدار; لأنّ توسعة المسجد إنّما تحقّقت في الأزمنة المتأخّرة، مع أنّ الحمل على ظاهره يقتضي عدم دلالتها على حكم من يصلّي في نفس المسجد، بل كانت الصلاة حينئذ في المسجد; كالصلاة في جوف الكعبة كما هو ظاهر.
فانقدح أنّ المراد من المسجد في الآيات الواردة إنّما هي الكعبة، ويؤيّده أنّ تولية الوجه شطره في مثل المدينة يوجب التولية شطر الكعبة، فتدبّر.
وأمّا الروايات، فكثيرة:
منها: ما تدلّ على المشهور، بل ربما تبلغ عشرين رواية، مثل:
رواية معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: متى صرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة؟ قال: بعد رجوعه من بدر(4). وفي نقل آخر عنه ـ الذي جعله في الوسائل رواية مستقلّة، مع أنّها لا تكون كذلك ـ زيادة: وكان يصلّي في المدينة إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً، ثمّ اُعيد
- (1) ذكرى الشيعة 3: 159.
- (2) الخلاف 1: 295 مسألة 41.
- (3) سورة البقرة 2: 144، 149 ـ 150.
- (4) تهذيب الأحكام 2: 43 ح135، وعنه وسائل الشيعة 4: 297، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب2 ح1.