( صفحه 438 )كما في رواية إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) قال: هو الجدي; لأنّه نجم لا يزول، وعليه بناء القبلة، وبه يهتدي أهل البرّ والبحر(1).
وبالجملة: ظاهر إطلاق الرواية عدم الاختصاص بالحالتين أصلا.
وأمّا من جهة كون المخاطب هو محمد بن مسلم، وهو عراقيّ كوفيّ، فلا ينبغي الإشكال في عدم كون وضع الجدي على القفا علامة لجميع المسلمين مع اختلاف بلادهم وتفاوت مناطقهم، ولكنّه لم يعلم أنّ هذه العلامة علامة لجميع أهل العراق، أو لخصوص أوساطه، كالكوفة التي كان الراوي منسوباً إليها وبغداد ومثلهما.
كما أنّه لم يعلم أنّ المراد من الرواية أنّ الرجوع إلى هذه العلامة إنّما هو في خصوص صورة عدم التمكّن من تحصيل العلم، أو أنّه لا يختصّ بذلك، بل يجوز للمتمكّن أيضاً أن يضع الجدي في قفاه ويصلّي، ولكن لا يبعد دعوى أنّ ظاهر الرواية عدم الاختصاص، فهل يمكن القول باختصاص الاستفادة من هذه العلامة بما إذا لم يكن مثل الراوي قادراً على الوصول إلى البلد، والدخول في مسجد الكوفة وتشخيص القبلة بسببه؟ فالرواية من هذه الجهة مطلقة أيضاً.
وبالجملة: فالمستفاد من الرواية ـ بلحاظ جعل الجدي مطلقاً في القفا كذلك علامة لجميع بلاد العراق، أو خصوص الأوساط منه، مع أنّ أراضي العراق غير واقعة في شمال الكعبة حقيقة، بل هي مائلة إلى الشرق ـ أنّ القبلة
- (1) تفسير العيّاشي 2: 256 ح12، وعنه وسائل الشيعة 4: 307، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب5 ح3.
( صفحه 439 )مبتنية على التوسعة; ضرورة أنّ اختلاف حالات الجدي، وإطلاق إجزاء القفا يقتضي التوجّه إلى نقطة الجنوب تارة، والانحراف عنها قليلا اُخرى، وكثيراً ثالثة، كما لا يخفى.
وهذا لا يتمّ إلاّ مع التوسعة المذكورة، وقد عرفت عدم اختصاص الرواية بغير المتمكّن، بل هي مطلقة، ومرجعها إلى جواز الرجوع إلى هذه العلامة كذلك.
الثالث: ما جعله المحقّق (قدس سره) في الشرائع علامة لأهل العراق; من جعل الجدي خلف المنكب الأيمن، أو جعل عين الشمس وقت الزوال على الحاجب الأيمن، أو جعل المشرق على الأيسر والمغرب على الأيمن(1); فإنّ مقتضى هذه العلامات مختلف; ضرورة أنّ المصلّي لو عمل على طبق الأمارة الاُولى يلزم أن ينحرف عن نقطة الجنوب نحو المغرب، إمّا قليلا لو جعلنا المنكب عبارة عمّا بين المفصل والعنق، وإمّا كثيراً لو جعلناه عبارة عمّا بين المفصل والعضد.
ولو عمل على طبق الأمارة الثانية، لزم الانحراف عن نقطة الجنوب نحو المشرق; فإنّ الشمس تكون في تلك الحالة على دائرة نصف النهار، وجعلها في هذه الحالة على الحاجب الأيمن يستلزم الانحراف المذكور.
ولو عمل على طبق الأمارة الثالثة، فاللاّزم أن يتوجّه نحو نقطة الجنوب، فمقتضى العلامات مختلف، ولذا اعترض عليه جماعة من الأصحاب بذلك، ولكنّ الذي يدفع الاعتراض كون أمر القبلة مبنيّاً على التوسعة بحيث
لا يقدح فيها الاختلاف المذكور.
ودعوى عدم كون هذه الأمارات علامات لجميع أهل العراق، بل يختصّ
( صفحه 440 )كلّ واحدة منها بطائفة من بلاد العراق، فالعلامة الاُولى تكون أمارة لأوساط العراق كالكوفة وبغداد، والثانية للبلاد الغربيّة كسنجار والموصل، والثالثة للبلاد الشرقيّة كالبصرة وما والاها.
مدفوعة بعدم الشاهد عليها; لعدم القرينة في التخصيص، مضافاً إلى ما ربما يقال: من أنّ قبلة الأطراف الغربيّة من العراق كالموصل، هي نقطة الجنوب دون الانحراف عنها إلى جانب المشرق، فهذه الدعوى ساقطة.
تتميم
ذكر المحقّق في الشرائع بعد العلامات المتقدّمة لأهل العراق أنّه يستحبّ لهم التياسر إلى يسار المصلّي منهم قليلا(1)، وادّعى في الجواهر أنّه المشهور نقلا(2) وتحصيلا، واستشكل على سلطان المحقّقين نصير الملّة والدين على ما حكي عنه، لمّا حضر مجلس درسه يوماً، واتّفق الكلام في هذه المسألة بما يرجع إلى «أنّ التياسر أمر إضافيّ لا يتحقّق إلاّ بالإضافة إلى صاحب يسار متوجّه إلى جهة، فإن كانت تلك الجهة محصّلة لزم التياسر عمّا وجب التوجّه إليه، وهو حرام; لأنّه خلاف مدلول الآية، وإن لم تكن محصّلة لزم عدم إمكان التياسر; إذ تحقّقه موقوف على تحقّق الجهة التي يتياسر عنها»، فكيف يتصوّر الاستحباب؟ بل المتّجه حينئذ وجوب التياسر المحصّل لها(3).
- (1) شرائع الإسلام 1: 66.
- (2) كجامع المقاصد 2: 56، وروض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 529 ـ 530، ومدارك الأحكام 3: 130، والحدائق الناضرة 6: 383.
- (3) جواهر الكلام 7: 596 ـ 597.
( صفحه 441 )وأجابه المحقّق بأنّه من القبلة(1) إلى القبلة، ثمّ كتب في المسألة رسالة في تحقيق الجواب، فاستحسنه المحقّق المزبور، وحكي عن الحدائق أنّ ابن فهد نقل الرسالة المزبورة بعينها في كتابه المهذّب(2)، من أحبّ الوقوف على ذلك فليراجع الكتاب المذكور.
وربما يقال(3) بأنّ مبني الحكم المزبور أنّ القبلة للبعيد هي عين الحرم، والوقوف إلى يسار المصلّي منهم يوجب محاذاة العين قطعاً; لما في بعض الروايات(4) من أنّ الحرم عن يمين الكعبة أربعة أميال، وعن يسارها ثمانية أميال، كلّها اثنى عشر ميلا، فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن القبلة; لقلّة انصاب الحرم، وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجاً عن حدّ القبلة.
ويؤيّد هذا القول ما عن نهاية الشيخ (قدس سره) قال: من توجّه إلى القبلة من أهل العراق والمشرق قاطبة، فعليه أن يتياسر قليلا ليكون متوجّهاً إلى الحرم بذلك، جاء الأثر عنهم (عليهم السلام) (5).
ولكنّ الظاهر عدم كون مبنى الحكم المزبور ذلك لأنّه لا يجتمع مع ثبوت الشهرة عليه، كما عرفت من الجواهر، مع أنّه لو كان مبناه ذلك لكان الجواب عن المحقّق المزبور بذلك أولى، مع أنّ الظاهر أنّ استحباب التياسر ليس
- (1) على ما في لؤلؤة البحرين: 230، ومصابيح الظلام 6: 410.
- (2) المهذّب البارع 1: 312 ـ 317، الحدائق الناضرة 6: 385.
- (3) كما في الحدائق الناضرة 6: 383 ـ 385.
- (4) وسائل الشيعة 4: 305، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب4 ح1 و 2، مستدرك الوسائل 3: 180، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب3 ح3302.
- (5) النهاية: 63.
( صفحه 442 )في مقابل التيامن فقط، بل في مقابل عدم الانحراف أيضاً، ومقتضى المبنى المزبور نفي التيامن فقط، كما لايخفى.
وأحسن ما ذكر في هذا المقام ما أفاده العلاّمة المجلسي (قدس سره) ، في مجلّد الصلاة من كتاب بحار الأنوار، حيث قال: والذي يخطر في ذلك بالبال أنّه يمكن أن يكون الأمر بالانحراف; لأنّ محاريب الكوفة وسائر بلاد العراق أكثرها كانت منحرفة عن خطّ نصف النهار كثيراً، مع أنّ الانحراف في أكثرها يسير بحسب القواعد الرياضيّة كمسجد الكوفة; فإنّ انحراف قبلته إلى اليمين أزيد ممّا تقتضيه القواعد بعشرين درجة تقريباً. وكذا مسجد السهلة، ومسجد يونس.
ولـمّا كان أكثر تلك المساجد مبنيّة في زمن عمر وسائر خلفاء الجور، لم يمكنهم القدح فيها تقيّة، فأمروا بالتياسر، وعلّلوه بتلك الوجوه الخطابيّة لإسكاتهم، وعدم التصريح بخطأ خلفاء الجور واُمرائهم.
وما ذكره أصحابنا من أنّ محراب مسجد الكوفة محراب المعصوم (عليه السلام) لايجوز الانحراف عنه، إنّما يثبت إذا علم أنّ الإمام (عليه السلام) بناه، ومعلوم أنّه (عليه السلام) لم يبنه، أو صلّى فيه من غير انحراف، وهو أيضاً غير ثابت، بل يظهر من بعض ما سنح لنا من الآثار القديمة عند تعمير المسجد في زماننا ما يدلّ على خلافه(1)، كما سيأتي ذكره، مع أنّ الظاهر من بعض الأخبار أنّ هذا البناء غير البناء الذي كان في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) (2).
- (1) بحار الأنوار 100: 431 ـ 434.
- (2) بحار الأنوار 84 : 53 ـ 54.