( صفحه 428 )فيه ـ قوله ـ تعالى ـ : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنّا لَقادِرُونَ)(1)، بناءً على ما حكي عن بعض المفسِّرين(2) من كون المراد مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيّام السنة وتعدّد الفصول وإن كان في حمل الآية على ذلك تأمّل، إلاّ أنّ التعدّد غير قابل للإنكار. وعليه: فالظاهر أنّ المراد ممّا بينهما هو المقدار الخارج عن العنوانين، وهو لا ينطبق إلاّ على ربع الدائرة المفروضة، كما لا يخفى.
الثانية: في أنّ مفاد الروايتين هل هو كون ما بين المشرق والمغرب قبلة مطلقاً في جميع الحالات وعلى جميع لمكلّفين; بمعنى أنّ الحكم الأوّلي الثابت على الجميع هو أنّ القبلة ما بين المشرق والمغرب، فهو قبلة واقعيّة لا يختلف فيها الحالات، أو أنّ المراد كونه قبلة في الجملة؟ ربّما يقال(3) بالثاني; نظراً إلى أنّ مفاد الروايتين مجرّد صدق عنوان الصلاة على الصلاة الواقعة
إلى ما بين المشرق والمغرب. وأمّا كون ذلك الصدق ثابتاً بنحو الإطلاق وفي جميع الموارد، فلا يستفاد منهما أصلا، ويمكن أن يختصّ ذلك بحال الاشتباه أو خطأ المجتهد في اجتهاده أو غيرهما من الأعذار.
وبالجملة: فالعبارة الواقعة في الروايتين قضيّة مجملة لا دلالة لها على أنّها قبلة لجميع المصلّين في جميع الحالات. هذا، والظاهر أنّ المراد هو المعنى الأوّل، وتوضيحه:
- (1) سورة المعارج 70: 40.
- (2) التبيان في تفسير القرآن 10: 128، مجمع البيان 10: 115.
- (3) نهاية التقرير 1: 237.
( صفحه 429 )أنّ الإمام (عليه السلام) ذكر في رواية زرارة أنّه «لا صلاة إلاّ إلى القبلة»،
وقد مرّ(1) معناه، وأنّ مفاده توقّف انطباق عنوان الصلاة على كلّ فرد يؤتى به في الخارج بهذا العنوان على وقوعها إلى القبلة، وظاهره هو الوقوع إلى القبلة الواقعيّة، ثمّ سأل زرارة عن حدّ القبلة المذكورة في الكلام.
وبعبارة اُخرى: سأل عن حدّ القبلة الواقعيّة، وأجابه الإمام (عليه السلام) بأنّ «ما بين المشرق والمغرب قبلة» مع تأكيده بكلمة «كلّه». ومن الواضح: ظهور الجواب عن ذلك السؤال في كونه بياناً للقبلة الواقعيّة، بحيث لو حمل على كونه قبلة في بعض الحالات ولبعض المصلّين، خصوصاً مع ندرة تلك الحالة وقلّة ذلك الفرد، لا يلائم وقوعه جواباً لذلك السؤال أصلا، فلابدّ من أن يكون المراد هو كون ما بينهما قبلة واقعيّة.
ويؤيّده السؤال بعد ذلك عن الصلاة إلى غير القبلة، والجواب بوجوب الإعادة فتدبّر. وبالجملة: لا مجال لإنكار ظهور صحيحة زرارة في كون المراد منها بيان القبلة الواقعيّة مطلقاً.
وأمّا صحيحة معاوية بن عمّار، فيمكن أن يقال: إنّ هذا التعبير بلحاظ وقوعه جواباً عن سؤال الانحراف عن القبلة يميناً أو شمالا، ظاهر في أنّ القبلة أخصّ ممّا بين المشرق والمغرب، غاية الأمر أنّ الانحراف اليسير اشتباهاً لا يقدح في صحّة الصلاة ومضيّها. وعليه: فلا دلالة لهذه الصحيحة على كون ما بينهما قبلة مطلقاً، بل لها دلالة على عدمه، وأنّ القبلة أخصّ من ذلك العنوان.
( صفحه 430 )ولكنّ الظاهر أنّ المفروض في السؤال وإن كان هو الانحراف عن القبلة يميناً أو شمالا، إلاّ أنّ جواب الإمام (عليه السلام) ردع للسائل عمّا توهّمه من كون صلاته وقعت على غير القبلة، ومفيد بأنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة، فلا يكون الانحراف المتوهّم متحقّقاً أصلا.
ويدلّ عليه ظهورها في كون الجملة بمنزلة التعليل للحكم بمضيّ الصلاة، وما يصلح أن يكون تعليلا ليس إلاّ كون ما بينهما قبلة مطلقاً لا لخصوص المعذور، فتدبّر.
فالإنصاف أنّ دلالة الصحيحتين على كون ما بينهما قبلة واقعيّة مطلقاً ممّا لا مجال للمناقشة فيه أصلا.
الثالثة: في معارضة بعض الروايات للصحيحتين.
كرواية عمّار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في رجل صلّى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته، قال: إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم، وإن كان متوجّهاً إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثمّ يحوّل وجهه إلى القبلة ثمّ يفتتح الصلاة(1).
ورواية حسين بن علوان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام) أنّه كان يقول: من صلّى على غير القبلة وهو يرى أنّه على القبلة ثمّ عرف بعد ذلك، فلا إعادة عليه إذا كان فيما بين المشرق والمغرب(2).
- (1) الكافي 3: 285 ح8 ، تهذيب الأحكام 2: 48 ح159، الاستبصار 1: 298 ح1100، وعنها وسائل الشيعة 4: 315، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب10 ح4.
- (2) قرب الإسناد: 114 ح394، وعنه وسائل الشيعة 4: 315، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب10 ح5.
( صفحه 431 )فإنّ ظهور الروايتين في أنّ القبلة أخصّ ممّا بين المشرق والمغرب، وأنّ الانحراف عنها قد يكون إلى ما بينهما، وقد يكون إلى غيرهما ممّا لا يكاد ينكر، فتعارضان مع الصحيحتين المتقدّمتين.
وهل الجمع بينهما يقتضي جعل هاتين الروايتين شاهدتين على أنّ قضيّة كون مابين المشرق والمغرب قبلة، قضيّة مجملة لا دلالة لها على أنّه قبلة لجميع المكلّفين وفي جميع الحالات، بل مفادها أنّه قبلة في الجملة، كما يظهر ذلك من سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (قدس سره) (1).
أو أنّ مقتضى التأمّل بلحاظ ما عرفت من كون صحيحة زرارة كالصريحة في أنّه قبلة مطلقاً ـ بحيث لا تقبل الحمل على إفادة كونه قبلة في الجملة ـ حمل المشرق والمغرب في هاتين الروايتين على ما هو المفهوم منهما عند العرف، بحيث يكون ما بينهما نصف الدائرة تقريباً، وغرضهما بيان حكم الانحراف عن ربع القبلة إلى قريب النصف، فمفاد الصحيحتين تعيين القبلة الواقعيّة، ومفادهما بيان حكم الانحراف عنها، فلا معارضة بينهما بوجه، وهذا هو الظاهر عندي.
وعليه: فلا معارض للصحيحتين في مفادهما أصلا.
ثمّ إنّه ذهب جماعة من محقّقي المتأخّرين ـ كصاحب الجواهر (قدس سره) ـ إلى أنّ قبلة البعيد هي بعينها قبلة القريب; وهي عين الكعبة، وقد أفاد في وجهه ما ملخّصه: أنّ قبلة البعيد هي بعينها قبلة القريب، فكما أنّ القريب المشاهد يجب أن يستقبل عين الكعبة، فكذلك البعيد يجب أن يتوجّه نحوها.
- (1) نهاية التقرير 1: 237.
( صفحه 432 )وهذا المعنى ـ أي التوجّه نحو العين ـ ليس أمراً ممتنعاً; لأنّه كما يصدق الاستقبال في المشاهد، كذلك يصدق في البعيد; لأنّه لا يعتبر في صدقه وقوع خطّ المستقبِل ـ بالكسر ـ على المستقبَل بالفتح; لأنّ الاستقبال الذي اُمر به أمر عرفيّ، وهو يصدق عرفاً بدون ذلك; ضرورة تحقّقه في الأجرام المشاهدة من بعد وإن نقطع بعدم اتّصال جميع الخطوط الخارجة بها.
والحاصل: أنّه وإن كان يتوقّف صدق الاستقبال الحقيقي على ذلك; أي على وقوع خطّ المستقبِل على المستقبَل، إلاّ أنّه لا يعتبر في تحقّق الاستقبال العرفي; لما عرفت، وإلى ذلك يرجع ما هو المشهور بين الأعلام(1) من أنّ الجرم الصغير كلّما ازداد بُعداً إزداد محاذاة; لأنّهم لا يريدون أنّه في صورة ازدياد البعد يكون صدق المحاذي الذي يقع خطّه على المحاذى أوسع من صورة القرب; لأنّ وقوع خطّ المحاذي على المحاذى وعدمه لا فرق فيه بين محاذاة القريب والبعيد، بل مرادهم أنّه في صورة كثرة البعد يكون صدق المحاذي على الأشخاص الذين وقعوا في مقابل الجسم في نظر العرف أكثر وأوسع من صورة القرب.
فعلى هذا لا إشكال في صحّة الصلاة في الصورة المفروضة في كلام الشيخ (قدس سره) (2); لأنّه يصدق عرفاً على كلّ واحد منهم أنّه مستقبِل للكعبة ومتوجّه نحوها وإن كان بعض الخطوط الخارجة لا يقع عليها.
- (1) كالعلاّمة في نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 393، والشهيدين في ذكرى الشيعة 3: 160، ومسالك الأفهام 1: 152.
- (2) الخلاف 1: 295 ـ 296 مسألة 41.