( صفحه 431 )فإنّ ظهور الروايتين في أنّ القبلة أخصّ ممّا بين المشرق والمغرب، وأنّ الانحراف عنها قد يكون إلى ما بينهما، وقد يكون إلى غيرهما ممّا لا يكاد ينكر، فتعارضان مع الصحيحتين المتقدّمتين.
وهل الجمع بينهما يقتضي جعل هاتين الروايتين شاهدتين على أنّ قضيّة كون مابين المشرق والمغرب قبلة، قضيّة مجملة لا دلالة لها على أنّه قبلة لجميع المكلّفين وفي جميع الحالات، بل مفادها أنّه قبلة في الجملة، كما يظهر ذلك من سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (قدس سره) (1).
أو أنّ مقتضى التأمّل بلحاظ ما عرفت من كون صحيحة زرارة كالصريحة في أنّه قبلة مطلقاً ـ بحيث لا تقبل الحمل على إفادة كونه قبلة في الجملة ـ حمل المشرق والمغرب في هاتين الروايتين على ما هو المفهوم منهما عند العرف، بحيث يكون ما بينهما نصف الدائرة تقريباً، وغرضهما بيان حكم الانحراف عن ربع القبلة إلى قريب النصف، فمفاد الصحيحتين تعيين القبلة الواقعيّة، ومفادهما بيان حكم الانحراف عنها، فلا معارضة بينهما بوجه، وهذا هو الظاهر عندي.
وعليه: فلا معارض للصحيحتين في مفادهما أصلا.
ثمّ إنّه ذهب جماعة من محقّقي المتأخّرين ـ كصاحب الجواهر (قدس سره) ـ إلى أنّ قبلة البعيد هي بعينها قبلة القريب; وهي عين الكعبة، وقد أفاد في وجهه ما ملخّصه: أنّ قبلة البعيد هي بعينها قبلة القريب، فكما أنّ القريب المشاهد يجب أن يستقبل عين الكعبة، فكذلك البعيد يجب أن يتوجّه نحوها.
- (1) نهاية التقرير 1: 237.
( صفحه 432 )وهذا المعنى ـ أي التوجّه نحو العين ـ ليس أمراً ممتنعاً; لأنّه كما يصدق الاستقبال في المشاهد، كذلك يصدق في البعيد; لأنّه لا يعتبر في صدقه وقوع خطّ المستقبِل ـ بالكسر ـ على المستقبَل بالفتح; لأنّ الاستقبال الذي اُمر به أمر عرفيّ، وهو يصدق عرفاً بدون ذلك; ضرورة تحقّقه في الأجرام المشاهدة من بعد وإن نقطع بعدم اتّصال جميع الخطوط الخارجة بها.
والحاصل: أنّه وإن كان يتوقّف صدق الاستقبال الحقيقي على ذلك; أي على وقوع خطّ المستقبِل على المستقبَل، إلاّ أنّه لا يعتبر في تحقّق الاستقبال العرفي; لما عرفت، وإلى ذلك يرجع ما هو المشهور بين الأعلام(1) من أنّ الجرم الصغير كلّما ازداد بُعداً إزداد محاذاة; لأنّهم لا يريدون أنّه في صورة ازدياد البعد يكون صدق المحاذي الذي يقع خطّه على المحاذى أوسع من صورة القرب; لأنّ وقوع خطّ المحاذي على المحاذى وعدمه لا فرق فيه بين محاذاة القريب والبعيد، بل مرادهم أنّه في صورة كثرة البعد يكون صدق المحاذي على الأشخاص الذين وقعوا في مقابل الجسم في نظر العرف أكثر وأوسع من صورة القرب.
فعلى هذا لا إشكال في صحّة الصلاة في الصورة المفروضة في كلام الشيخ (قدس سره) (2); لأنّه يصدق عرفاً على كلّ واحد منهم أنّه مستقبِل للكعبة ومتوجّه نحوها وإن كان بعض الخطوط الخارجة لا يقع عليها.
- (1) كالعلاّمة في نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 393، والشهيدين في ذكرى الشيعة 3: 160، ومسالك الأفهام 1: 152.
- (2) الخلاف 1: 295 ـ 296 مسألة 41.
( صفحه 433 )ومراده من الصورة المفروضة في كلام الشيخ (قدس سره) هي الصورة التي استشكل بها على القائلين بأنّ قبلة البعيد هي عين الكعبة، ولأجلها رجّح الأخبار الدالّة على أنّ قبلته عين الحرم; وهي صلاة الصفّ الطويل الذي كان طوله أزيد من طول الكعبة، وقال: إنّ لازم ذلك القول بطلان صلاة بعض ذلك الصفّ; لعدم وقوع الخطّ الخارج من الجميع على عين الكعبة قطعاً(1).
وقد أوضح ما أفاده في الجواهر صاحب المصباح بقوله: إنّ صدق الاستقبال ممّا يختلف بالنسبة إلى القريب والبعيد; فإنّك إذا استقبلت صفّاً طويلا بوجهك وكنت قريباً منهم جدّاً، لا يكون قبلتك من أهل الصفّ إلاّ واحداً منهم بحيال وجهك، ولكنّك إذا رجعت قهقرى بخطّ مستقيم إلى أن بَعُدْتَ عنهم مقدار فرسخ مثلا، لرأيت مجموع الصفّ بجملته بين يديك، بحيث لا تُميِّز من يحاذيك حقيقة عن الآخر، مع أنّ المحاذاة الحقيقيّة لا تكون إلاّ بينك، وبين ما كانت أوّلا(2).
وقد صرّح المحقّق الحائري (قدس سره) بأنّه يصدق الاستقبال الحقيقي بذلك صدقاً حقيقيّاً بلا تجوّز وعناية(3).
أقول: وإن كان لا يترتّب على هذا البحث ثمرة مهمّة عمليّة; لأنّه لا فرق في صحّة صلاة البعيد بين أن يكون وجهها توسعة القبلة، وكونها الجهة بالمعنى الذي ذكرنا، وبين أن يكون وجهها سعة دائرة الاستقبال حقيقة
- (1) جواهر الكلام 7: 517 ـ 523 و 531 ـ 534.
- (2) مصباح الفقيه 10: 21 ـ 22.
- (3) كتاب الصلاة: 30.
( صفحه 434 )أو عرفاً بالإضافة إلى البعيد مع كون القبلة هي عين الكعبة، إلاّ أنّ دعوى كون القبلة هي العين مخالفة للأدلّة المتقدّمة الواردة في الجهة، سيـّما الروايات المصرّحة بأنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة بالمعنى الذي ذكرنا(1); من كون المراد هو ربع الدائرة، وأنّها قبلة مطلقاً وفي جميع الحالات; فإنّ مرجعها إلى أنّ التوسعة إنّما هي في نفس القبلة لا في الاستقبال.
مضافاً إلى إمكان المناقشة في صدق الاستقبال الحقيقي بما ذكروه، بل العرفي أيضاً. وأمّا المثال المذكور في عبارة المصباح، فيمكن الإيراد عليه ـ مضافاً إلى أنّه عكس ما نحن فيه ـ بأنّ ازدياد البعد عن ذلك الصفّ يوجب أن يكون الصفّ كالشيء الواحد في نظر المحاذي.
ومن المعلوم أنّ الشيء الواحد لو وقع الخطّ الخارج من المستقبل ـ بالكسر ـ على بعض أجزائه لا يخرج عن صدق المحاذاة، فالخطّ الخارج في المثال من المحاذي وإن كان يقع على بعض أفراد ذلك الصفّ، إلاّ أنّه لـمّا كان بمنزلة شيء واحد، ويكفي في محاذاته وقوع الخطّ على بعض أجزائه; فلذا تصدق المحاذاة لذلك الصفّ.
ويمكن أن يكون الوجه في ازدياد سعة المحاذاة بالنسبة إلى البعيد، أنّ الشخص لو كان قريباً من ذلك الصفّ لكانت الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه واقعة على بعض أفراد ذلك الصفّ. وأمّا لو كان بعيداً عنهم لكانت تلك الخطوط واقعة على تمام أفراده، والسرّ فيه ما تقدّم(2) من أنّ الخطوط
- (1) في ص427 ـ 430.
- (2) في ص420 ـ 425.
( صفحه 435 )الخارجة من أجزاء الوجه لا تكون على نحو التوازي، بل على نحو كلّما كان طولها أزيد كان ازدياد البعد بينها أكثر، وفي البعيد لمّا كان طول الخطوط الخارجة أزيد من القريب; فلذا يكون البعد بينها أكثر، ومع ازدياد البعد لكانت الخطوط واقعة على جميع الأفراد.
وأمّا الصورة المفروضة في كلام الشيخ (قدس سره) (1)، فهي وإن لم تكن إشكالا على مختارنا من كون قبلة البعيد جهة الكعبة لا عينها، لكنّه يمكن الجواب عنها بناءً على القول بالعين، بل وبناءً على اعتبار وقوع خطّ المستقبِل على المستقبَل في صدق الاستقبال أيضاً بما ذكره في المصباح، واستحسنه الاُستاذ (قدس سره) ; من أنّ الصفّ المذكور إذا راعوا كلّهم رعاية صحيحة، وتوجّهوا
نحو الكعبة على طبق الأمارات التي عيّنت لهم شرعاً، كان لصفّهم لا محالة انحناء غير محسوس، والخطوط الخارجة من كلّ واحد منهم إلى الكعبة غير متوازية.
والسرّ في عدم إحساس الانحناء هو: أنّ المصلّين إلى القبلة يقعون في الحقيقة في محيط دائرة أحاطت بالكعبة ووقعت في مركزها، ومن المعلوم أنّه كلّما كان طول شعاع الدائرة أزيد، كانت القسّي المنقطعة عن سائر أجزاء محيطها أشبه بالخطّ المستقيم، بحيث قد يبلغ إلى درجة لا يحسّ الانحناء أصلا(2).
وقد ظهر من جميع ما ذكرنا توسعة دائرة القبلة وعدم التضيّق فيها، ويدلّ
- (1) الخلاف 1: 295 ـ 296 مسألة 41.
- (2) نهاية التقرير 1: 232.