( صفحه 433 )ومراده من الصورة المفروضة في كلام الشيخ (قدس سره) هي الصورة التي استشكل بها على القائلين بأنّ قبلة البعيد هي عين الكعبة، ولأجلها رجّح الأخبار الدالّة على أنّ قبلته عين الحرم; وهي صلاة الصفّ الطويل الذي كان طوله أزيد من طول الكعبة، وقال: إنّ لازم ذلك القول بطلان صلاة بعض ذلك الصفّ; لعدم وقوع الخطّ الخارج من الجميع على عين الكعبة قطعاً(1).
وقد أوضح ما أفاده في الجواهر صاحب المصباح بقوله: إنّ صدق الاستقبال ممّا يختلف بالنسبة إلى القريب والبعيد; فإنّك إذا استقبلت صفّاً طويلا بوجهك وكنت قريباً منهم جدّاً، لا يكون قبلتك من أهل الصفّ إلاّ واحداً منهم بحيال وجهك، ولكنّك إذا رجعت قهقرى بخطّ مستقيم إلى أن بَعُدْتَ عنهم مقدار فرسخ مثلا، لرأيت مجموع الصفّ بجملته بين يديك، بحيث لا تُميِّز من يحاذيك حقيقة عن الآخر، مع أنّ المحاذاة الحقيقيّة لا تكون إلاّ بينك، وبين ما كانت أوّلا(2).
وقد صرّح المحقّق الحائري (قدس سره) بأنّه يصدق الاستقبال الحقيقي بذلك صدقاً حقيقيّاً بلا تجوّز وعناية(3).
أقول: وإن كان لا يترتّب على هذا البحث ثمرة مهمّة عمليّة; لأنّه لا فرق في صحّة صلاة البعيد بين أن يكون وجهها توسعة القبلة، وكونها الجهة بالمعنى الذي ذكرنا، وبين أن يكون وجهها سعة دائرة الاستقبال حقيقة
- (1) جواهر الكلام 7: 517 ـ 523 و 531 ـ 534.
- (2) مصباح الفقيه 10: 21 ـ 22.
- (3) كتاب الصلاة: 30.
( صفحه 434 )أو عرفاً بالإضافة إلى البعيد مع كون القبلة هي عين الكعبة، إلاّ أنّ دعوى كون القبلة هي العين مخالفة للأدلّة المتقدّمة الواردة في الجهة، سيـّما الروايات المصرّحة بأنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة بالمعنى الذي ذكرنا(1); من كون المراد هو ربع الدائرة، وأنّها قبلة مطلقاً وفي جميع الحالات; فإنّ مرجعها إلى أنّ التوسعة إنّما هي في نفس القبلة لا في الاستقبال.
مضافاً إلى إمكان المناقشة في صدق الاستقبال الحقيقي بما ذكروه، بل العرفي أيضاً. وأمّا المثال المذكور في عبارة المصباح، فيمكن الإيراد عليه ـ مضافاً إلى أنّه عكس ما نحن فيه ـ بأنّ ازدياد البعد عن ذلك الصفّ يوجب أن يكون الصفّ كالشيء الواحد في نظر المحاذي.
ومن المعلوم أنّ الشيء الواحد لو وقع الخطّ الخارج من المستقبل ـ بالكسر ـ على بعض أجزائه لا يخرج عن صدق المحاذاة، فالخطّ الخارج في المثال من المحاذي وإن كان يقع على بعض أفراد ذلك الصفّ، إلاّ أنّه لـمّا كان بمنزلة شيء واحد، ويكفي في محاذاته وقوع الخطّ على بعض أجزائه; فلذا تصدق المحاذاة لذلك الصفّ.
ويمكن أن يكون الوجه في ازدياد سعة المحاذاة بالنسبة إلى البعيد، أنّ الشخص لو كان قريباً من ذلك الصفّ لكانت الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه واقعة على بعض أفراد ذلك الصفّ. وأمّا لو كان بعيداً عنهم لكانت تلك الخطوط واقعة على تمام أفراده، والسرّ فيه ما تقدّم(2) من أنّ الخطوط
- (1) في ص427 ـ 430.
- (2) في ص420 ـ 425.
( صفحه 435 )الخارجة من أجزاء الوجه لا تكون على نحو التوازي، بل على نحو كلّما كان طولها أزيد كان ازدياد البعد بينها أكثر، وفي البعيد لمّا كان طول الخطوط الخارجة أزيد من القريب; فلذا يكون البعد بينها أكثر، ومع ازدياد البعد لكانت الخطوط واقعة على جميع الأفراد.
وأمّا الصورة المفروضة في كلام الشيخ (قدس سره) (1)، فهي وإن لم تكن إشكالا على مختارنا من كون قبلة البعيد جهة الكعبة لا عينها، لكنّه يمكن الجواب عنها بناءً على القول بالعين، بل وبناءً على اعتبار وقوع خطّ المستقبِل على المستقبَل في صدق الاستقبال أيضاً بما ذكره في المصباح، واستحسنه الاُستاذ (قدس سره) ; من أنّ الصفّ المذكور إذا راعوا كلّهم رعاية صحيحة، وتوجّهوا
نحو الكعبة على طبق الأمارات التي عيّنت لهم شرعاً، كان لصفّهم لا محالة انحناء غير محسوس، والخطوط الخارجة من كلّ واحد منهم إلى الكعبة غير متوازية.
والسرّ في عدم إحساس الانحناء هو: أنّ المصلّين إلى القبلة يقعون في الحقيقة في محيط دائرة أحاطت بالكعبة ووقعت في مركزها، ومن المعلوم أنّه كلّما كان طول شعاع الدائرة أزيد، كانت القسّي المنقطعة عن سائر أجزاء محيطها أشبه بالخطّ المستقيم، بحيث قد يبلغ إلى درجة لا يحسّ الانحناء أصلا(2).
وقد ظهر من جميع ما ذكرنا توسعة دائرة القبلة وعدم التضيّق فيها، ويدلّ
- (1) الخلاف 1: 295 ـ 296 مسألة 41.
- (2) نهاية التقرير 1: 232.
( صفحه 436 )عليها مضافاً إلى ما تقدّم اُمور:
الأوّل: أنّه لم يقع التعرّض لبيان ما هو الضابط للقبلة في لسان النبيّّ والأئـمّة ـ عليه وعليهم الصلاة والسلام ـ ، مع علمهم بأنّ أكثر المسلمين يكون بلادهم في النقاط البعيدة عن الكعبة، وثبوت الفصل بينها وبينها، ومع وضوح ابتلائهم واحتياجهم إلى رعاية القبلة في كثير من الاُمور التي عمدتها الصلاة، وهي الأساس لسائر الأعمال، إن قبلت قُبل ما سواها، وإن رُدّت ردّ ما سواها(1)، واعتبارها فيها لا يختصّ بحال التوجّه والالتفات; لأنّ القبلة من الاُمور الخمسة المستثناة في حديث «لا تعاد»(2).
ومع ذلك لم يقع التعرّض لبيان ضابطة لها مع التعرّض للاُمور التي لا تقاس في الأهمّية بالقبلة أصلا; فإنّه يعلم من ذلك أنّه لا يكون بناؤها على التضيّق ورعاية الدقّة، ولزوم التوجّه إلى نفس العين بنحو يقع الخطّ الخارج من موقف المصلّي إليها.
إن قلت: الروايات المصرّحة بأنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة تكون في مقام بيان الضابطة وإعطاء القاعدة، ومفادها توسعة دائرة القبلة، كما مرّ(3).
قلت: نعم، ولكنّه يتوقّف على أن يكون المراد منها ما ذكرنا من أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة لعامّة المكلّفين وفي جميع الحالات، وأنّ المراد ممّا بينهما هو الربع الذي لا ينطبق على شيء من أجزائه أحد العنوانين.
- (1) تقدّم تخريجه في ص7 ـ 8 .
- (2) تقدّم في ص155، 291، 292، 297، 348، 390 و 405.
- (3) في ص427 ـ 430 و 434.
( صفحه 437 )ويتحصّل ممّا ذكر أنّه لابدّ إمّا من الالتزام بكون هذه الروايات في مقام بيان الضابطة، ولا محيص عن كون المراد منها ما ذكرنا، وإمّا من الالتزام بعدم وقوع التعرّض لبيان الضابطة في ألسنتهم (عليهم السلام) ، وهو أيضاً دليل على التوسعة، غاية الأمر أنّه على التقدير الأوّل: تكون التوسعة في ناحية نفس القبلة; لأنّها عبارة عن مجموع ما بين المشرق والمغرب، وعلى التقدير الثاني: تكون التوسعة المستفادة من عدم التعرّض أعمّ من توسعة القبلة وتوسعة الاستقبال، كما لا يخفى.
الثاني: بعض الروايات الدالّة على أنّ جعل الجدي في القفا أمارة للقبلة.
كرواية محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن القبلة؟ فقال: ضع الجدي في قفاك وصلّ(1).
والمراد من القفا إمّا أن يكون مقدار ما بين الكتفين، وإمّا أن يكون هو المقدار الذي وقع ظهر الوجه، وهو ربع الدائرة التي تتشكّل من الوجه والعنق وطرفي اليمين واليسار، وعلى أيّ تقدير، فمقتضى إطلاق الرواية عدم الاختصاص بوسط القفا، بل يجوز وضعه في كلّ جزء من الأجزاء.
كما أنّ مقتضى الإطلاق عدم الاختصاص بحالتي ارتفاع الجدي وانخفاضه، الذي يكون في الحالتين على دائرة نصف النهار، بل يعمّ جميع حالات الجدي الذي هو نجم لا يزول، وقد فسّر في بعض الروايات قوله ـ تعالى ـ : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)(2) بالجدي.
- (1) تهذيب الأحكام 2: 45 ح143، وعنه وسائل الشيعة 4: 306، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب5 ح1.
- (2) سورة النمل 16: 16.