( صفحه 442 )في مقابل التيامن فقط، بل في مقابل عدم الانحراف أيضاً، ومقتضى المبنى المزبور نفي التيامن فقط، كما لايخفى.
وأحسن ما ذكر في هذا المقام ما أفاده العلاّمة المجلسي (قدس سره) ، في مجلّد الصلاة من كتاب بحار الأنوار، حيث قال: والذي يخطر في ذلك بالبال أنّه يمكن أن يكون الأمر بالانحراف; لأنّ محاريب الكوفة وسائر بلاد العراق أكثرها كانت منحرفة عن خطّ نصف النهار كثيراً، مع أنّ الانحراف في أكثرها يسير بحسب القواعد الرياضيّة كمسجد الكوفة; فإنّ انحراف قبلته إلى اليمين أزيد ممّا تقتضيه القواعد بعشرين درجة تقريباً. وكذا مسجد السهلة، ومسجد يونس.
ولـمّا كان أكثر تلك المساجد مبنيّة في زمن عمر وسائر خلفاء الجور، لم يمكنهم القدح فيها تقيّة، فأمروا بالتياسر، وعلّلوه بتلك الوجوه الخطابيّة لإسكاتهم، وعدم التصريح بخطأ خلفاء الجور واُمرائهم.
وما ذكره أصحابنا من أنّ محراب مسجد الكوفة محراب المعصوم (عليه السلام) لايجوز الانحراف عنه، إنّما يثبت إذا علم أنّ الإمام (عليه السلام) بناه، ومعلوم أنّه (عليه السلام) لم يبنه، أو صلّى فيه من غير انحراف، وهو أيضاً غير ثابت، بل يظهر من بعض ما سنح لنا من الآثار القديمة عند تعمير المسجد في زماننا ما يدلّ على خلافه(1)، كما سيأتي ذكره، مع أنّ الظاهر من بعض الأخبار أنّ هذا البناء غير البناء الذي كان في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) (2).
- (1) بحار الأنوار 100: 431 ـ 434.
- (2) بحار الأنوار 84 : 53 ـ 54.
( صفحه 443 ) [ اعتبار العلم بالتوجّه إلى القبلة ]اعتبار العلم بالتوجّه إلى القبلة
مسألة 2: يعتبر العلم بالتوجّه إلى القبلة حال الصلاة، وتقوم البيّنة مقامه على الأقوى، مع استنادها إلى المبادئ الحسيّة، ومع تعذّرهما يبذل تمام جهده ويعمل على ظنّه، ومع تعذّره وتساوي الجهات صلّى إلى أربع جهات إن وسع الوقت، وإلاّ فبقدر ما وسع، ولو ثبت عدمها في بعض الجهات بعلم ونحوه صلّى إلى المحتملات الاُخر، ويعوّل على قبلة بلد المسلمين ـ في صلاتهم وقبورهم ومحاريبهم ـ إذا لم يعلم الخطأ 1 .
1ـ يقع الكلام في هذه المسألة في مقامات:
الأوّل: في اعتبار العلم بالتوجّه إلى القبلة في حال الصلاة; وذلك لأنّه مقتضى شرطيّة القبلة واعتبار الاستقبال في صحّتها; فإنّ لازمها وجوب إحرازها كما في سائر الشرائط، ولا فرق في أسباب حصول العلم; فإنّ المعتبر هو حصوله من أيّ طريق; سواء كان من طريق القواعد الرياضيّة، أو من إخبار المعصوم (عليه السلام) ، أو صلاته، أو بنائه قبراً أو محراباً ما لم يتطرّق فيه احتمال التقيّة ونحوها، أو من غير ذلك من الطرق.
وتقوم البيّنة مقام العلم; لعموم حجّيتها في الموضوعات على ما هو التحقيق(1). نعم، لابدّ من أن تكون مستندة إلى المبادئ الحسيّة كما عرفت سابقاً(2)، وقد مرّ أيضاً(3) عدم حجّية خبر العادل الواحد فضلا عن الثقة
- (1) القواعد الفقهيّة للمؤلّف (قدس سره) 1: 479.
- (2) في ص381.
- (3) في ص369.
( صفحه 444 )في جميع موارد اعتبار البيّنة; لمنافاتها لدليل حجّية البيّنة، الظاهر في اعتبار التعدّد والعدالة، كما لايخفى.
وأمّا في خصوص باب القبلة، فالعلامة المنصوصة المذكورة في بعض الروايات المتقدّمة(1) هي «الجدي»، فإن كانت موجبة للعلم كما لا تبعد دعواه، بناءً على ما ذكرنا من سعة دائرة القبلة، وكونها عبارة عن مجموع ما بين المشرق والمغرب لعامّة المكلّفين في جميع الحالات; وهو الربع من الدائرة التي تمرّ بالكعبة كما عرفت(2); فإنّه بناءً عليه يكون جعل الجدي في القفا ـ كما في الرواية(3)، أو على المنكب الأيمن كما في عبارة الشرائع(4) ـ موجباً للعلم بالقبلة وجهتها بالمعنى المذكور.
وعليه: فلا وجه للبحث في أنّ المستفاد من الرواية الواردة فيه، هل هو الاختصاص بغير المتمكّن من تحصيل العلم، أو الأعمّ منه ومن المتمكّن؟ ضرورة أنّه على تقدير إفادته العلم لا مجال لهذا الكلام. نعم، لو قلنا بعدم إيجابه للعلم، وعدم إفادته سوى الظنّ فللبحث المذكور مجال، ولكن عرفت(5) استظهار الإطلاق من الرواية وعدم الاختصاص بغير المتمكّن.
نعم، لا ينبغي الإشكال بلحاظ كون الراوي عراقيّاً كوفيّاً في الاختصاص بأهل العراق، أو خصوص أوساطه، كالكوفة والنجف وبغداد.
- (1) في ص437 ـ 438.
- (2) في ص421 وما بعدها.
- (3) تقدّمت في ص437.
- (4) تقدّمت في ص439.
- (5) في ص439.
( صفحه 445 )ثمّ إنّه على تقدير إيجابه العلم لا مجال للبحث في كونه أمارة شرعيّة أصلا، كما لايخفى.
وأمّا على تقدير عدم إيجابه العلم، فيمكن أن يقال بأنّه من الظنون الخاصّة كالبيّنة، ويمكن أن يكون من مصاديق مطلق الظنّ وأنّ ذكره ليس لأجل خصوصيّة فيه، بل من جهة كونه مصداقاً له.
نعم، على التقدير الثاني لابدّ من التخصيص بغير المتمكّن; للروايات الآتية الدالّة على أنّ الرجوع إلى الظنّ إنّما هو مع عدم العلم بوجه القبلة، الظاهر في عدم إمكان تحصيل العلم به، وعلى التقدير الأوّل يجري فيه الاحتمالان، كما عرفت.
وأمّا الأمارات الكثيرة المذكورة في كلمات الفقهاء، كما مرّ بعضها في كلام الشرائع، فإن كان مرادهم أنّها مفيدة للعلم لتوسعة دائرة القبلة، فلا مانع، وإن كان مرادهم اعتبارها ولو مع عدم إفادة العلم، فلم ينهض عليه دليل; لأنّ الامارة المفيدة للظنّ لابدّ من قيام الدليل على اعتبارها، وبدونه لا يترتّب عليها شيء.
نعم، إنّما يصحّ الرجوع إليها لتحصيل الظنّ مع عدم إمكان تحصيل العلم; لما يأتي من جواز الرجوع إليه في هذه الصورة. وعليه: فلابدّ من أن تكون مفيدة للظنّ الفعلي; لأنّ مقتضى الدليل اعتباره في تلك الصورة.
الثاني: أنّه مع تعذّر العلم وما يقوم مقامه يجب التحرّي والعمل على طبق المظنّة، ولا يجب الاحتياط بتكرير الصلاة إلى أربع جهات وفاقاً للمشهور(1).
- (1) مصباح الفقيه 10: 65 ـ 66.
( صفحه 446 )ويدلّ عليه صحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : يجزىء التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة(1).
فإنّ التحرّي بمعنى البحث والتفتيش لحصول الطرف الراجح; لأنّ العمل على طبقه أحرى من العمل بالمرجوح، ومعنى الإجزاء هو الكفاية في مقابل وجوب الاحتياط بالتكرار المذكور، كما أنّ مرجعه إلى لزوم التحرّي وعدم جواز الاكتفاء بالجهة التي يشاء.
نعم، يمكن أن يكون المراد بالإجزاء هو الإجزاء بالنسبة إلى مقام العمل وجواز الدخول في الصلاة والشروع فيها، فلا تعرّض في الرواية حينئذ لحال المكلّف من جهة الإعادة وعدمها، بعد انكشاف الخلاف وتبيّن كون الجهة التي صلّى إليها غير القبلة، ويمكن أن يكون هو الإجزاء بالإضافة إلى الواقع، ومعناه الكفاية ولو بعد انكشاف الخلاف، ولعلّ هذا هو الظاهر من الرواية، خصوصاً مع ملاحظة كلمة «أبداً»، كما لا يخفى.
وبالجملة: فدلالة الرواية على اعتبار المظنّة في باب القبلة مع عدم العلم بوجهها واضحة.
ويدلّ عليه أيضاً موثّقة سماعة قال: سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم يرَ الشمس ولا القمر ولا النجوم؟ قال: اجتهد رأيك وتعمّد القبلة
جهدك(2).
- (1) الكافي 3: 285 ح7، تهذيب ا لأحكام 2: 45 ح146، الاستبصار 1: 295 ح1087، وعنها وسائل الشيعة 4: 307، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب6 ح1.
- (2) الكافي 3: 284 ح1، تهذيب ا لأحكام 2: 46 ح147، وص255 ح1009، الاستبصار 1: 295 ح1089، وعنها وسائل الشيعة 4: 308، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب6 ح2.