( صفحه 445 )ثمّ إنّه على تقدير إيجابه العلم لا مجال للبحث في كونه أمارة شرعيّة أصلا، كما لايخفى.
وأمّا على تقدير عدم إيجابه العلم، فيمكن أن يقال بأنّه من الظنون الخاصّة كالبيّنة، ويمكن أن يكون من مصاديق مطلق الظنّ وأنّ ذكره ليس لأجل خصوصيّة فيه، بل من جهة كونه مصداقاً له.
نعم، على التقدير الثاني لابدّ من التخصيص بغير المتمكّن; للروايات الآتية الدالّة على أنّ الرجوع إلى الظنّ إنّما هو مع عدم العلم بوجه القبلة، الظاهر في عدم إمكان تحصيل العلم به، وعلى التقدير الأوّل يجري فيه الاحتمالان، كما عرفت.
وأمّا الأمارات الكثيرة المذكورة في كلمات الفقهاء، كما مرّ بعضها في كلام الشرائع، فإن كان مرادهم أنّها مفيدة للعلم لتوسعة دائرة القبلة، فلا مانع، وإن كان مرادهم اعتبارها ولو مع عدم إفادة العلم، فلم ينهض عليه دليل; لأنّ الامارة المفيدة للظنّ لابدّ من قيام الدليل على اعتبارها، وبدونه لا يترتّب عليها شيء.
نعم، إنّما يصحّ الرجوع إليها لتحصيل الظنّ مع عدم إمكان تحصيل العلم; لما يأتي من جواز الرجوع إليه في هذه الصورة. وعليه: فلابدّ من أن تكون مفيدة للظنّ الفعلي; لأنّ مقتضى الدليل اعتباره في تلك الصورة.
الثاني: أنّه مع تعذّر العلم وما يقوم مقامه يجب التحرّي والعمل على طبق المظنّة، ولا يجب الاحتياط بتكرير الصلاة إلى أربع جهات وفاقاً للمشهور(1).
- (1) مصباح الفقيه 10: 65 ـ 66.
( صفحه 446 )ويدلّ عليه صحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) : يجزىء التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة(1).
فإنّ التحرّي بمعنى البحث والتفتيش لحصول الطرف الراجح; لأنّ العمل على طبقه أحرى من العمل بالمرجوح، ومعنى الإجزاء هو الكفاية في مقابل وجوب الاحتياط بالتكرار المذكور، كما أنّ مرجعه إلى لزوم التحرّي وعدم جواز الاكتفاء بالجهة التي يشاء.
نعم، يمكن أن يكون المراد بالإجزاء هو الإجزاء بالنسبة إلى مقام العمل وجواز الدخول في الصلاة والشروع فيها، فلا تعرّض في الرواية حينئذ لحال المكلّف من جهة الإعادة وعدمها، بعد انكشاف الخلاف وتبيّن كون الجهة التي صلّى إليها غير القبلة، ويمكن أن يكون هو الإجزاء بالإضافة إلى الواقع، ومعناه الكفاية ولو بعد انكشاف الخلاف، ولعلّ هذا هو الظاهر من الرواية، خصوصاً مع ملاحظة كلمة «أبداً»، كما لا يخفى.
وبالجملة: فدلالة الرواية على اعتبار المظنّة في باب القبلة مع عدم العلم بوجهها واضحة.
ويدلّ عليه أيضاً موثّقة سماعة قال: سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم يرَ الشمس ولا القمر ولا النجوم؟ قال: اجتهد رأيك وتعمّد القبلة
جهدك(2).
- (1) الكافي 3: 285 ح7، تهذيب ا لأحكام 2: 45 ح146، الاستبصار 1: 295 ح1087، وعنها وسائل الشيعة 4: 307، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب6 ح1.
- (2) الكافي 3: 284 ح1، تهذيب ا لأحكام 2: 46 ح147، وص255 ح1009، الاستبصار 1: 295 ح1089، وعنها وسائل الشيعة 4: 308، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب6 ح2.
( صفحه 447 )ومثلها مضمرة سماعة بن مهران، ونحن وإن قرّبنا(1) في بحث المواقيت ارتباط الرواية بباب الوقت، وعدم تعرّضها لمسألة التحيّر في القبلة بوجه، إلاّ أنّ مقتضى النظر الثانوي أنّ إنكار دلالتها على التعرّض للقبلة مشكل، والتوجيه المذكور هناك لقوله (عليه السلام) «وتعمّد القبلة جهدك» ممّا لا يقبله الذوق السليم.
فالإنصاف اختصاص الرواية بباب القبلة، ولا أقلّ من دلالتها على حكمها أيضاً مضافاً إلى الوقت، ومفادها لزوم إعمال الجهد في تشخيص القبلة وترتيب الأثر على مقتضى اجتهاده وإن كان الدليل لا ينحصر بها; لما عرفت من دلالة صحيحة زرارة على ذلك.
وكيف كان، ففي مقابل الروايتين خمس روايات لابدّ من ملاحظتها والتأمّل في التوفيق والجمع، ولزوم الأخذ بأيّ الطرفين على تقدير عدمه، فنقول:
ثلاث منها واردة في المتحيّر ودالّة على جواز الصلاة أينما توجّه، أو على لزومها إلى أربع جهات. ومن المعلوم مخالفة كلا الحكمين للزوم التحرّي وترتيب الأثر على طبق الراجح; وهي:
صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: يجزىء المتحيّر أبداً أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة(2).
ومرسلة ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن زرارة قال: سألت
- (1) أي في ص384.
- (2) الفقيه 1: 179 ح845 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 311، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب8 ح2.
( صفحه 448 )أبا جعفر (عليه السلام) عن قبلة المتحيّر؟ فقال: يصلّي حيث يشاء(1).
ومرسلة الكليني قال ـ بعد نقل المرسلة ـ : وروي أيضاً أنّه يصلّي إلى أربع جوانب(2).
والمراد بالمتحيّر المذكور في هذه الروايات إمّا خصوص من لا علم له، كما يدلّ عليه قوله (عليه السلام) في الرواية الاُولى: «إذا لم يعلم أين وجه القبلة»، وإمّا من لا علم له ولا ظنّ، كما هو الظاهر من عنوان المتحيّر; لأنّ من كان ظانّاً بشيء لا يكون عند العقلاء والعرف متحيّراً في ذلك الشيء.
فعلى التقدير الأوّل: تكون المعارضة بينها، وبين الروايتين الدالّتين على لزوم التحرّي بالعموم والخصوص; لأنّ موردهما من لا علم له وإن كان له ظنّ، ومفادهما لزوم التحرّي، فيجب تخصيصها بهما على ما هو مقتضى قاعدة الجمع.
إن قلت: إنّ مورد الروايتين إنّما هو المتحيّر أيضاً، كمورد هذه الروايات، ضرورة أنّ إيجاب التحرّي إنّما هو على المتحيّر، فلا اختلاف بين الموردين، ومورد قاعدة التخصيص ما إذا كان مورد الدليل المخصّص خاصّاً بالإضافة إلى الدليل العامّ. هذا، مضافاً إلى أنّ التعبير في الطائفتين إنّما هو بالإجزاء، ولا معارضة بين الإجزاءين.
قلت: إنّ التأمّل في الروايتين يقضي بكون موردهما هو المتحيّر الذي يقدر على التحرّي وتحصيل المظنّة; لأنّ إيجابه عليه يقتضي عدم شموله لجميع
- (1) الكافي 3: 286 ح10، وعنه وسائل الشيعة 4: 311، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب8 ح3.
- (2) الكافي 3: 286 ح10، وعنه وسائل الشيعة 4: 311، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب8 ح4.
( صفحه 449 )أفراد المتحيّر، فالمورد هو المتحيّر القادر، وهو خاصّ بالإضافة إلى مطلق المتحيّر الوارد في الروايات.
وأمّا التعبير بالإجزاء في الروايتين، فالمقصود منه عدم إيجاب تكرير الصلاة إلى أربع جهات، فينافي مع المرسلة الدالّة على الوجوب، كما أنّ إجزاء التحرّي لا يلائم مع جواز الصلاة إلى أيّ طرف شاء; لعدم إمكان الجمع بين جوازها إليه، وبين التحرّي الذي مرجعه إلى الصلاة إلى جانب مخصوص، فالمعارضة بين الإجزاءين متحقّقة، وقاعدة الجمع تقتضي ما ذكرنا من حمل هذه الروايات على المتحيّر غير القادر على التحرّي، كما سيأتي الكلام فيه(1).
وعلى التقدير الثاني ـ الذي يكون المراد بالمتحيّر من لا علم له ولا ظنّ، كما لعلّه الظاهر بملاحظة ما ذكرنا ـ : لا ارتباط بينهما، وبين هذه الروايات; لأنّ موردهما المتحيّر القادر على تحصيل الظنّ، وهو لا يكون بمتحيّر أصلا، وموردها هو المتحيّر; وهو ما لا يكون قادراً على تحصيل شيء من العلم والظنّ، كما هو ظاهر.
وواحدة من تلك الروايات الخمس واردة فيمن لا يهتدي إلى القبلة; وهي مرسلة الصدوق قال: روي فيمن لا يهتدي إلى القبلة في مفازة أنّه يصلّي إلى أربعة جوانب(2).
والكلام فيها هو الكلام في الروايات المتقدّمة من جريان الاحتمالين فيمن لا يهتدي، وأنّه هل المراد به من لا يهتدي علماً، أو من لا يهتدي علماً
- (1) في ص451 ـ 454.
- (2) الفقيه 1: 180 ح854 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 310، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب8 ح1.