( صفحه 449 )أفراد المتحيّر، فالمورد هو المتحيّر القادر، وهو خاصّ بالإضافة إلى مطلق المتحيّر الوارد في الروايات.
وأمّا التعبير بالإجزاء في الروايتين، فالمقصود منه عدم إيجاب تكرير الصلاة إلى أربع جهات، فينافي مع المرسلة الدالّة على الوجوب، كما أنّ إجزاء التحرّي لا يلائم مع جواز الصلاة إلى أيّ طرف شاء; لعدم إمكان الجمع بين جوازها إليه، وبين التحرّي الذي مرجعه إلى الصلاة إلى جانب مخصوص، فالمعارضة بين الإجزاءين متحقّقة، وقاعدة الجمع تقتضي ما ذكرنا من حمل هذه الروايات على المتحيّر غير القادر على التحرّي، كما سيأتي الكلام فيه(1).
وعلى التقدير الثاني ـ الذي يكون المراد بالمتحيّر من لا علم له ولا ظنّ، كما لعلّه الظاهر بملاحظة ما ذكرنا ـ : لا ارتباط بينهما، وبين هذه الروايات; لأنّ موردهما المتحيّر القادر على تحصيل الظنّ، وهو لا يكون بمتحيّر أصلا، وموردها هو المتحيّر; وهو ما لا يكون قادراً على تحصيل شيء من العلم والظنّ، كما هو ظاهر.
وواحدة من تلك الروايات الخمس واردة فيمن لا يهتدي إلى القبلة; وهي مرسلة الصدوق قال: روي فيمن لا يهتدي إلى القبلة في مفازة أنّه يصلّي إلى أربعة جوانب(2).
والكلام فيها هو الكلام في الروايات المتقدّمة من جريان الاحتمالين فيمن لا يهتدي، وأنّه هل المراد به من لا يهتدي علماً، أو من لا يهتدي علماً
- (1) في ص451 ـ 454.
- (2) الفقيه 1: 180 ح854 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 310، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب8 ح1.
( صفحه 450 )ولا ظنّاً؟ وكذا في نتيجة الاحتمالين.
والخامسة: رواية خراش، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: جعلت فداك إنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون: إذا اطبقت علينا أو اُظلمت فلم نعرف السماء كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد، فقال: ليس كما يقولون، إذا كان ذلك فليصلِّ لأربع وجوه(1).
ومورد هذه الرواية وإن كان صورة المظنّة بلحاظ ظهور كلمة الاجتهاد فيها. وعليه: فالتعارض بينها، وبين الروايتين بنحو لا مجال للجمع أصلا; لدلالتهما على جواز الاقتصار على الصلاة إلى الجانب الذي كان مقتضى اجتهاده ثبوت القبلة فيه، ودلالة هذه الرواية على عدم الجواز، ولزوم التكرير إلى أربع وجوه، إلاّ أنّ إرسال الرواية من جانب، وضعفها باعتبار خراش من جانب آخر; لكونه مجهول الحال ـ ولم يعلم استناد المشهور إلى هذه الرواية في مسألة التكرير الآتية حتّى يكون جابراً لضعفها ـ يوجب عدم صلاحيّتها للمعارضة مع الروايتين.
مضافاً إلى ما ربما يقال(2): من أنّ مقتضاها أنّ الشيعة لا يعمل على طبق الاجتهاد والظنّ أصلا ولو في مورد، مع أنّه خلاف ما عليه علماؤهم من العمل بالظنّ في موارد كثيرة كما في الركعتين الأخيرتين من الصلاة وغيره من الموارد.
- (1) تهذيب ا لأحكام 2: 45 ح144 و 145، الاستبصار 1: 295 ح1085 و 1086، وعنهما وسائل الشيعة 4: 311، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب8 ح5.
- (2) نهاية التقرير 1: 242.
( صفحه 451 )فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الروايات الخمسة لا تعارض الروايتين بوجه، وأنّ اللاّزم هو الأخذ بمفادهما والحكم بلزوم التحرّي مع إمكانه.
ثمّ إنّ مقتضى أخذ كلمة «التحرّي»، وكذا كلمة «الاجتهاد»، أو الجهد» في الروايتين إنّما هو عدم جواز الاقتصار على الظنّ الإبتدائي بالقبلة، بل اللاّزم هو استفراغ الوسع وبذل الجهد والتفتيش والبحث والفحص، ولازمه اليأس عن الوصول إلى شيء آخر، كما أنّ مقتضى الكلمتين هو الفحص عن المعارض أيضاً، فمجرّد تحصيل الأمارة الموافقة لا يكفي، بل اللاّزم هو الفحص عن الأمارة المخالفة أيضاً; لتوقّف الاجتهاد وكذا التحرّي على ذلك كما هو ظاهر، وقد أشار إلى الجهة الاُولى بل الثانية في المتن بقوله: «يبذل تمام جهده».
ثمّ إنّ الظاهر جواز ترك التحرّي والصلاة إلى أربع جوانب مكانه; لأنّ الإجزاء في الروايتين كما عرفت إنّما هو في مقابل عدم لزوم التكرير، لا في مقابل جوازه. وأمّا من جهة الاكتفاء بالامتثال العلمي الإجمالي للقادر على الامتثال التفصيلي ولو ظنّاً، فهو محرّر في محلّه(1)، وأنّ مقتضى التحقيق هو الجواز، ولا يلزم منه الإخلال بشيء ممّا يعتبر في العبادة أصلا.
الثالث: أنّه مع تعذّر العلم والظنّ لابدّ من تكرير الصلاة إلى أربع جهات على المشهور شهرة عظيمة بين القدماء والمتأخّرين، كما في محكي الجواهر(2)،
- (1) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 1: 71، سيرى كامل در اُصول فقه 10: 7 وما بعدها.
- (2) جواهر الكلام 7: 655، وكذا في روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 525 ـ 526، ومدارك الأحكام 3: 135 ـ 136، ومصباح الفقيه 10: 78، ومستمسك العروة الوثقى 5: 185.
( صفحه 452 )بل عن صريح الغنية وظاهر غير واحد دعوى الإجماع عليه(1).
وعن ابن أبي عقيل وظاهر ابن بابويه كفاية الصلاة إلى أيّة جهة شاء، وعن المختلف نفي البعد عنه، وعن الذكرى الميل إليه، واختاره صاحب الحدائق، وحكاه عن جملة من محقّقي المتأخّرين(2).
والروايات الواردة في المسألة هي الروايات الخمسة المذكورة في المقام الثاني، فاثنتان منها تدلاّن على كفاية الصلاة حيث يشاء، وهما: صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم، ومرسلة ابن أبي عمير، والثلاثة الباقية تدلّ على لزوم الصلاة إلى أربع جهات. غاية الأمر ورود واحدة منها في مورد المظنّة والاجتهاد، ودلالتها على حكم المقام إنّما هي بنحو الأولويّة; ضرورة أنّ وجوب الصلاة إلى أربع جهات مع إمكان تحصيل الظنّ أو حصوله، يدلّ على وجوبه مع التحيّر المحض بطريق أولى.
والثلاثة الدالّة على مذهب المشهور وإن كانت مرسلة بالإرسال غير المعتبر ـ مضافاً إلى ثبوت الجهالة في بعضها; وهي رواية خراش ـ والطائفة المعارضة بين صحيحة، أو ما هي كالصحيحة; لكون مرسلها ابن أبي عمير، إلاّ أنّ استناد المشهور إليها، وإعراضهم عنهما، يوجب انجبارها والقدح فيهما، خصوصاً مع ملاحظة اعتبارهما ذاتاً، ومع أنّ فتوى المشهور موافقة للقاعدة; لعدم الدليل على سقوط شرطيّة القبلة في هذه الصورة بعد كون
- (1) غنية النزوع: 69، المعتبر 2: 70، منتهى المطلب 4: 172، تذكرة الفقهاء 3: 28، ذكرى الشيعة 3: 171، جامع المقاصد 2: 71.
- (2) الفقيه 1: 179 ح845 ، مختلف الشيعة 2: 84 ـ 85 مسألة 28، ذكرى الشيعة 3: 182، الحدائق الناضرة 6: 400، مدارك الأحكام 3: 136، مفاتيح الشرائع 1: 114، وحكى فيها عن ابن أبي عقيل وابن بابويه.
( صفحه 453 )مقتضى الإطلاقات الواردة في القبلة ذلك، خصوصاً مثل قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلاّ إلى القبلة...»، كما في رواية زرارة المتقدّمة(1). ومن الواضح: توقّف إحراز الشرط على التكرير إلى أربع جهات، لما عرفت(2) من أنّ جهة الكعبة هو الربع من الدائرة المشتمل عليها، فالصلاة إلى الجهات الأربع توجب تحقّق الصلاة إلى القبلة الواقعيّة.
وربما يقال(3) في مقام الجمع بين الطائفتين: إنّ الثلاثة الدالّة على مذهب المشهور محمولة على صورة التمكّن من الصلاة إلى أربع جهات، والروايتين محمولتان على صورة عدم التمكّن إلاّ من صلاة واحدة، ولكنّ الظاهر أنّ هذا الجمع غير مقبول عند العرف والعقلاء، خصوصاً مع أنّ عدم التمكّن إلاّ من صلاة واحدة فرض نادر قليل، ومن المستبعد حمل ما ورد جواباً عن السؤال عن قبلة المتحيّر على ذلك مع عموم السؤال، وكذا ما يدلّ على أنّ الإجزاء إنّما هو بنحو الأبدية; فإنّ حمله على ذلك في غاية البعد، كما لا يخفى.
فالظاهر أنّ الروايتين ساقطتان عن الاعتبار لأجل إعراض المشهور عنهما. نعم، نوقش(4) في الصحيحة منهما ـ وهي رواية زرارة ومحمد بن مسلم ـ بأنّه ليس إلاّ في الفقيه دون الكافي والتهذيب والاستبصار، التي علم من عادتها التعرّض لما في الفقيه، سيّـما الأخير الذي دأبه ذكر النصوص المتعارضة، فعدم ذكره ذلك معارضاً ممّا يؤيّد عدم كونه كذلك فيما عندهم
- (1) في ص398 و 426.
- (2) في ص421 وما بعدها، و 444.
- (3) اُنظر نهاية التقرير 1: 244 ـ 245.
- (4) المناقش هو المحقّق الهمداني (قدس سره) في مصباح الفقيه 10: 84 .