( صفحه 451 )فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الروايات الخمسة لا تعارض الروايتين بوجه، وأنّ اللاّزم هو الأخذ بمفادهما والحكم بلزوم التحرّي مع إمكانه.
ثمّ إنّ مقتضى أخذ كلمة «التحرّي»، وكذا كلمة «الاجتهاد»، أو الجهد» في الروايتين إنّما هو عدم جواز الاقتصار على الظنّ الإبتدائي بالقبلة، بل اللاّزم هو استفراغ الوسع وبذل الجهد والتفتيش والبحث والفحص، ولازمه اليأس عن الوصول إلى شيء آخر، كما أنّ مقتضى الكلمتين هو الفحص عن المعارض أيضاً، فمجرّد تحصيل الأمارة الموافقة لا يكفي، بل اللاّزم هو الفحص عن الأمارة المخالفة أيضاً; لتوقّف الاجتهاد وكذا التحرّي على ذلك كما هو ظاهر، وقد أشار إلى الجهة الاُولى بل الثانية في المتن بقوله: «يبذل تمام جهده».
ثمّ إنّ الظاهر جواز ترك التحرّي والصلاة إلى أربع جوانب مكانه; لأنّ الإجزاء في الروايتين كما عرفت إنّما هو في مقابل عدم لزوم التكرير، لا في مقابل جوازه. وأمّا من جهة الاكتفاء بالامتثال العلمي الإجمالي للقادر على الامتثال التفصيلي ولو ظنّاً، فهو محرّر في محلّه(1)، وأنّ مقتضى التحقيق هو الجواز، ولا يلزم منه الإخلال بشيء ممّا يعتبر في العبادة أصلا.
الثالث: أنّه مع تعذّر العلم والظنّ لابدّ من تكرير الصلاة إلى أربع جهات على المشهور شهرة عظيمة بين القدماء والمتأخّرين، كما في محكي الجواهر(2)،
- (1) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 1: 71، سيرى كامل در اُصول فقه 10: 7 وما بعدها.
- (2) جواهر الكلام 7: 655، وكذا في روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 525 ـ 526، ومدارك الأحكام 3: 135 ـ 136، ومصباح الفقيه 10: 78، ومستمسك العروة الوثقى 5: 185.
( صفحه 452 )بل عن صريح الغنية وظاهر غير واحد دعوى الإجماع عليه(1).
وعن ابن أبي عقيل وظاهر ابن بابويه كفاية الصلاة إلى أيّة جهة شاء، وعن المختلف نفي البعد عنه، وعن الذكرى الميل إليه، واختاره صاحب الحدائق، وحكاه عن جملة من محقّقي المتأخّرين(2).
والروايات الواردة في المسألة هي الروايات الخمسة المذكورة في المقام الثاني، فاثنتان منها تدلاّن على كفاية الصلاة حيث يشاء، وهما: صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم، ومرسلة ابن أبي عمير، والثلاثة الباقية تدلّ على لزوم الصلاة إلى أربع جهات. غاية الأمر ورود واحدة منها في مورد المظنّة والاجتهاد، ودلالتها على حكم المقام إنّما هي بنحو الأولويّة; ضرورة أنّ وجوب الصلاة إلى أربع جهات مع إمكان تحصيل الظنّ أو حصوله، يدلّ على وجوبه مع التحيّر المحض بطريق أولى.
والثلاثة الدالّة على مذهب المشهور وإن كانت مرسلة بالإرسال غير المعتبر ـ مضافاً إلى ثبوت الجهالة في بعضها; وهي رواية خراش ـ والطائفة المعارضة بين صحيحة، أو ما هي كالصحيحة; لكون مرسلها ابن أبي عمير، إلاّ أنّ استناد المشهور إليها، وإعراضهم عنهما، يوجب انجبارها والقدح فيهما، خصوصاً مع ملاحظة اعتبارهما ذاتاً، ومع أنّ فتوى المشهور موافقة للقاعدة; لعدم الدليل على سقوط شرطيّة القبلة في هذه الصورة بعد كون
- (1) غنية النزوع: 69، المعتبر 2: 70، منتهى المطلب 4: 172، تذكرة الفقهاء 3: 28، ذكرى الشيعة 3: 171، جامع المقاصد 2: 71.
- (2) الفقيه 1: 179 ح845 ، مختلف الشيعة 2: 84 ـ 85 مسألة 28، ذكرى الشيعة 3: 182، الحدائق الناضرة 6: 400، مدارك الأحكام 3: 136، مفاتيح الشرائع 1: 114، وحكى فيها عن ابن أبي عقيل وابن بابويه.
( صفحه 453 )مقتضى الإطلاقات الواردة في القبلة ذلك، خصوصاً مثل قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلاّ إلى القبلة...»، كما في رواية زرارة المتقدّمة(1). ومن الواضح: توقّف إحراز الشرط على التكرير إلى أربع جهات، لما عرفت(2) من أنّ جهة الكعبة هو الربع من الدائرة المشتمل عليها، فالصلاة إلى الجهات الأربع توجب تحقّق الصلاة إلى القبلة الواقعيّة.
وربما يقال(3) في مقام الجمع بين الطائفتين: إنّ الثلاثة الدالّة على مذهب المشهور محمولة على صورة التمكّن من الصلاة إلى أربع جهات، والروايتين محمولتان على صورة عدم التمكّن إلاّ من صلاة واحدة، ولكنّ الظاهر أنّ هذا الجمع غير مقبول عند العرف والعقلاء، خصوصاً مع أنّ عدم التمكّن إلاّ من صلاة واحدة فرض نادر قليل، ومن المستبعد حمل ما ورد جواباً عن السؤال عن قبلة المتحيّر على ذلك مع عموم السؤال، وكذا ما يدلّ على أنّ الإجزاء إنّما هو بنحو الأبدية; فإنّ حمله على ذلك في غاية البعد، كما لا يخفى.
فالظاهر أنّ الروايتين ساقطتان عن الاعتبار لأجل إعراض المشهور عنهما. نعم، نوقش(4) في الصحيحة منهما ـ وهي رواية زرارة ومحمد بن مسلم ـ بأنّه ليس إلاّ في الفقيه دون الكافي والتهذيب والاستبصار، التي علم من عادتها التعرّض لما في الفقيه، سيّـما الأخير الذي دأبه ذكر النصوص المتعارضة، فعدم ذكره ذلك معارضاً ممّا يؤيّد عدم كونه كذلك فيما عندهم
- (1) في ص398 و 426.
- (2) في ص421 وما بعدها، و 444.
- (3) اُنظر نهاية التقرير 1: 244 ـ 245.
- (4) المناقش هو المحقّق الهمداني (قدس سره) في مصباح الفقيه 10: 84 .
( صفحه 454 )من نسخ الفقيه، وأنّه محرّف بقلم النسّاخ عن الصحيح الآخر: «يجزىء التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة»، المعروف في كتب الأصحاب، وقد حكي عن المحدِّث المجلسي (قدس سره) (1) الجزم بذلك مؤيّداً له بتأييدات كثيرة(2).
ثمّ الظاهر أنّه يشترط في الصلاة إلى الجهات الأربع تقابل الجهات وانقسامها إلى خطّ مستقيم بحيث يحدث منها زوايا قوائم; لأنّه ـ مضافاً إلى أنّ المنساق من النصّ(3) والفتوى(4) ذلك ـ يكون إحراز الصلاة إلى القبلة الواقعيّة متوقّفاً على ذلك، بعدما عرفت(5) من أنّ جهة الكعبة هو ربع الدائرة التي تمرّ بها، وأنّ التوجّه نحو ذلك الربع يوجب وقوع إحدى الخطوط الخارجة من الوجه إلى الكعبة لا محالة; فإنّه بناءً عليه لامحيص عن تقسيم الدائرة إلى الأربع، والصلاة إلى كلّ ربع بحيث يعلم بوقوع إحدى تلك الخطوط إليها، وهو لا يتحقّق مع عدم كون الزوايا قوائم، كما لا يخفى.
ومن المعلوم أنّ الأمر في النصّ(6) بالتكرير أربعاً لا يكون مولويّاً حتّى يؤخذ بإطلاقه، وتحصل موافقته بغير النحو المذكور، بل هو إرشاد إلى القاعدة العقليّة الحاكمة بوجوب التكرار لإحراز القبلة الواقعيّة، وهو
- (1) روضة المتّقين 2: 197 ـ 198، وحكى عنه في جواهر الكلام 7: 660.
- (2) مصباح الفقيه 10: 84 .
- (3) وسائل الشيعة 4: 310 ـ 311، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب8 .
- (4) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3: 29، المقنعة: 96، السرائر 1: 205، مدارك الأحكام 3: 137 ـ 138، جواهر الكلام 7: 663، مصباح الفقيه 10: 89 ، العروة الوثقى 2: 306 مسألة 11 مع التعليقات طبع مؤسّسة النشر الإسلامي، مستمسك العروة الوثقى 5: 206.
- (5) في ص421 وما بعدها، 444 و 453.
- (6) كما في مرسلة الكليني ورواية خراش المتقدّمتان في ص448 و 450.
( صفحه 455 )متوقّف على النحو المذكور بلا إشكال.
الرابع: إذا لم يتمكّن من الصلاة إلى أربع جهات لضيق الوقت وعدم سعته، فتارة: لا يتمكّن إلاّ من الصلاة إلى جهة واحدة، واُخرى: يتمكّن من الصلاة إلى جهتين، أو ثلاث جهات.
أمّا في الصورة الاُولى: فلا يجب عليه إلاّ صلاة واحدة إلى جهة واحدة مخيّراً في تعيينها، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى الروايتين المتقدّمتين(1) الواردتين في المتحيّر، الدالّتين على أنّه يصلّي «أينما توجّه»، و«حيث يشاء»، بعد حملهما على صورة عدم تمكّنه من الصلاة إلى أربع جهات; لأجل المعارضة مع ما يدلّ على وجوبها إليها في مورد المتحيّر أيضاً، كما عرفت; وإن ذكرنا أنّ هذا الحمل بعيد جدّاً، إلاّ أنّه على تقدير تماميّته يثمر في هذه الصورة ـ أنّ الاستقراء والتتبّع، وملاحظة الشرائط يقتضي الحكم بأنّ للوقت خصوصيّة من بين الشرائط لا يعادلها شرط آخر، وأنّ الشارع في مقام تزاحم الوقت مع غيره من الشرائط قد قدّم الوقت وحكم بسقوط غيره.نعم، إلاّ في بعض الموارد; وهو فاقد الطهورين بناءً على عدم وجوب الصلاة عليه في الوقت.
وبالجملة: فالوقت مقدّم على سائر الشرائط عند التزاحم، وحينئذ فمقتضى القاعدة مع عدم التمكّن إلاّ من صلاة واحدة سقوط شرطيّة القبلة، فلا محالة تكفي الصلاة إلى جهة واحدة، ولازم ذلك عدم وجوب القضاء خارج الوقت لو انكشف عدم كون تلك الجهة التي صلّى إليها جهة الكعبة.
نعم، على تقدير كون المستند لوجوب صلاة واحدة هو الروايتين بعد