( صفحه 455 )متوقّف على النحو المذكور بلا إشكال.
الرابع: إذا لم يتمكّن من الصلاة إلى أربع جهات لضيق الوقت وعدم سعته، فتارة: لا يتمكّن إلاّ من الصلاة إلى جهة واحدة، واُخرى: يتمكّن من الصلاة إلى جهتين، أو ثلاث جهات.
أمّا في الصورة الاُولى: فلا يجب عليه إلاّ صلاة واحدة إلى جهة واحدة مخيّراً في تعيينها، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى الروايتين المتقدّمتين(1) الواردتين في المتحيّر، الدالّتين على أنّه يصلّي «أينما توجّه»، و«حيث يشاء»، بعد حملهما على صورة عدم تمكّنه من الصلاة إلى أربع جهات; لأجل المعارضة مع ما يدلّ على وجوبها إليها في مورد المتحيّر أيضاً، كما عرفت; وإن ذكرنا أنّ هذا الحمل بعيد جدّاً، إلاّ أنّه على تقدير تماميّته يثمر في هذه الصورة ـ أنّ الاستقراء والتتبّع، وملاحظة الشرائط يقتضي الحكم بأنّ للوقت خصوصيّة من بين الشرائط لا يعادلها شرط آخر، وأنّ الشارع في مقام تزاحم الوقت مع غيره من الشرائط قد قدّم الوقت وحكم بسقوط غيره.نعم، إلاّ في بعض الموارد; وهو فاقد الطهورين بناءً على عدم وجوب الصلاة عليه في الوقت.
وبالجملة: فالوقت مقدّم على سائر الشرائط عند التزاحم، وحينئذ فمقتضى القاعدة مع عدم التمكّن إلاّ من صلاة واحدة سقوط شرطيّة القبلة، فلا محالة تكفي الصلاة إلى جهة واحدة، ولازم ذلك عدم وجوب القضاء خارج الوقت لو انكشف عدم كون تلك الجهة التي صلّى إليها جهة الكعبة.
نعم، على تقدير كون المستند لوجوب صلاة واحدة هو الروايتين بعد
( صفحه 456 )الحمل المذكور، يمكن أن يقال بأنّ غاية مفادهما هو الاكتفاء بها مع ثبوت المانع، فإذا زال المانع يجب عليه الصلاة إلى بقيّة الجهات، ولكن ذلك يبتني على كون مفاد الروايتين بعد الحمل المذكور حكماً شرعيّاً مولويّاً، وأمّا إذا كان مفادهما الإرشاد إلى حكم العقل كما عرفت نظيره، فلا يبقى لهما دلالة زائدة على ما ذكرنا; وهو سقوط شرطيّة القبلة لا محالة، وعدم وجوب القضاء خارج الوقت، وهذا هو الظاهر.
وأمّا في الصورة الثانية ـ وهي ما إذا تمكّن من الصلاة إلى جهتين أو ثلاث جهات ـ : ففي وجوب صلاة واحدة إلى جهة واحدة، أو وجوب مقدار تمكّن منه خلاف، مقتضى إطلاق المتن هو الثاني، والمحكيّ عن بعض هو الأوّل(1)، واستدلّ له بأنّ وجوب الصلاة إلى الجوانب الأربعة إنّما هو لأجل كونها مقدّمة للعلم بتحقّق الواجب الواقعي وإحراز الصلاة إلى القبلة الواقعيّة، ومن المعلوم أنّ المقدّمة العلميّة إنّما تجب مع تحقّق العلم بعدها.
وأمّا مع عدم إمكان تحقّقه، فغير واجبة عند العقل كما في المقام; لأنّ المفروض أنّ المكلّف غير قادر على الإتيان بجميع المحتملات التي توجب العلم.
واُورد عليه بأنّ العلم بتحقّق الواجب الواقعي ليس واجباً مستقلاًّ في مقابل نفس الواجب الواقعي حتّى تجب مقدّماته الوجوديّة، واستحقّ المكلّف بموافقته المثوبة وبمخالفته العقوبة، بل المكلّف لـمّا توجّه إليه التكليف الصادر
- (1) الفقيه 1: 179، وحكاه عن العمّاني في مختلف الشيعة 2: 84 مسألة 28، مجمع الفائدة والبرهان 2: 67، مدارك الأحكام 3: 136، مفاتيح الشرائع 1: 114، الحدائق الناضرة 6: 400.
( صفحه 457 )من المولى، وعلم به، يحكم العقل عليه بوجوب امتثاله، فإذا كان قادراً على الامتثال اليقيني يحكم عليه بوجوبه، وإذا لم يتمكّن منه فالعقل يحكم عليه بوجوب السعي، وتحصيل الجهد في حصول مراد المولى ومقصوده.
فإذا تمكّن من الامتثال الظنّي يحكم عليه بوجوبه، فإذا جهد وسعى غاية السعي ولم يصادف المأتيّ به للواجب الواقعيّ، فهو معذور عنده، وفيما نحن فيه تكون غاية السعي هو إتيان مقدار يتمكّن منه من المحتملات; فإنّه وإن لم يتمكّن من الموافقة القطعيّة، إلاّ أنّ الموافقة الاحتماليّة إذا كانت من وجوه متعدّدة بعضها أقرب إلى الامتثال اليقيني من بعض آخر، يحكم العقل بوجوب إتيان ما هو الأقرب، فلامحيص عن الإتيان بقدر ما وسع(1).
هذا، ولكن يمكن أن يقال: إنّ حفظ شرطيّة الوقت والاهتمام به وتقديمه على سائر الشرائط كما عرفت يقتضي سقوط شرطيّة القبلة في هذه الصورة أيضاً; لأنّ الجمع بينه، وبين اعتبار القبلة، مع عدم تمكّن المكلّف من إحراز الصلاة إلى القبلة الواقعيّة، المتوقّف على التكرير إلى أربع جهات ممّا لا يكاد يمكن، فمع الاهتمام بالوقت لابدّ وأن ترفع اليد عن شرطيّة القبلة، ومع رفع اليد عنها لا يبقى مجال للصلاة إلى أزيد من جهة واحدة.
وما أفاده المورد من تقدّم بعض وجوه الموافقة الاحتماليّة على البعض الآخر إنّما يتمّ فيما إذا كان ذلك البعض أقرب من جهة الاحتمال، كما إذا كان احتماله راجحاً، وأمّا إذا لم يكن كذلك، كما في المقام; لأنّه لا يحصل بالصلاة إلى أزيد من واحدة ظنّ بالموافقة، ولا يكون التكرير موجباً لقربها، فلا وجه
- (1) نهاية التقرير 1: 246.
( صفحه 458 )للتقدّم أصلا، فالظاهر في هذه الصورة ما أفاده البعض المتقدّم من كفاية صلاة واحدة، فتدبّر.
الخامس: لو ثبت عدم القبلة في بعض الجهات بالعلم أو بالبيّنة صلّى إلى المحتملات الاُخر; لما عرفت(1) من أنّ الأمر بالصلاة إلى أربع جهات بالإضافة إلى المتحيّر ليس أمراً مولويّاً يكون مقتضى إطلاقه ثبوته ولو مع العلم بعدم القبلة في بعض الجهات، بل يكون أمراً إرشاديّاً إلى ما هو مقتضى حكم العقل. ومن المعلوم انحصار حكمه بما إذا كان كلّ واحدة من الجهات محتملة للقبلة، فاللاّزم مع العلم بالعدم في بعض الجهات تكرار الصلاة إلى بقيّة الجهات; لعين الملاك.
نعم، لو حصل له الظنّ بالعدم في بعض الجهات، فهل يجوز له الاقتصار على غيره من الجهات، أم لابدّ من التكرار إلى أربع؟ الظاهر هو الثاني; لأنّ حجّية الظنّ المستفادة من دليل التحرّي مقصورة على الظنّ التفصيلي بجهة القبلة، ولا ملازمة بين حجّية الظنّ التفصيلي، وبين حجّية الظنّ الإجمالي. وبعبارة اُخرى: المتفاهم عند العرف من دليل اعتبار الظنّ هو الظنّ بثبوت القبلة في جانب خاصّ، لا الظنّ بعدمها فيه مع التردّد في سائر الجهات.
السادس: أنّه يجوز التعويل على قبلة بلد المسلمين في صلاتهم وقبورهم ومحاريبهم في الجملة، وعن التذكرة وكشف الالتباس الإجماع عليه(2)، ولا حاجة إلى إقامة الدليل على حجّيتها مع فرض إفادتها للعلم بجهة القبلة;
- (1) في ص454.
- (2) تذكرة الفقهاء 3: 25، وحكى عن كشف الالتباس في مفتاح الكرامة 5: 392.
( صفحه 459 )لحجّيته من أيّ طريق حصل، كما هو شأن القطع الطريقي. وأمّا مع عدم إفادتها سوى الظنّ بالجهة، فمع عدم التمكّن من تحصيل العلم بالقبلة، ولا تحصيل الظنّ الأقوى، يكون الدليل على الحجّية هو الدليل الوارد في التحرّي، الدالّ على اعتبار الظنّ الحاصل به; فإنّها أيضاً من مصاديق التحرّي وطرقه.
وأمّا مع التمكّن من تحصيل العلم أو الظنّ المذكور، فالدليل على الحجّية هي السيرة القطعيّة العمليّة المستمرّة من زمن الأئمـّة (عليهم السلام) ، وفي جميع الأعصار والأمصار، بحيث لا مجال لإنكارها ولا لإنكار شرعيّتها مع كونها بمرئى ومسمع من الأئمـّة (عليهم السلام) .
ودعوى(1) اختصاصها بصورة عدم التمكّن من تحصيل العلم. مدفوعة بما نشاهده من ثبوت السيرة في صورة التمكّن من تحصيل العلم أيضاً، فضلا عن التمكّن من تحصيل الظنّ، فالإنصاف كما في الجواهر حجّية قبلة البلد مطلقاً(2).
ثمّ إنّه قد قيّد الجواز في المتن تبعاً للأصحاب(3) بما إذا لم يعلم الخطأ فيها، ومقتضاه أنّه مع عدم العلم بالخطأ ولو كان هناك ظنّ غالب به يجوز التعويل، وهذا ليس بواضح; فإنّه لم يعلم ثبوت السيرة في مورد الظنّ الأقوى على الخلاف لو لم نقل بالعلم بعدم الثبوت، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الظنّ
- (1) منتهى المطلب 4: 200.
- (2) جواهر الكلام 7: 628 ـ 629.
- (3) المهذّب 1: 86 ، شرائع الإسلام 1: 66، إرشاد الأذهان 1: 245، تذكرة الفقهاء 3: 25، قواعد الأحكام 1: 253، اللمعة الدمشقيّة: 10، جامع المقاصد 2: 72.