( صفحه 457 )من المولى، وعلم به، يحكم العقل عليه بوجوب امتثاله، فإذا كان قادراً على الامتثال اليقيني يحكم عليه بوجوبه، وإذا لم يتمكّن منه فالعقل يحكم عليه بوجوب السعي، وتحصيل الجهد في حصول مراد المولى ومقصوده.
فإذا تمكّن من الامتثال الظنّي يحكم عليه بوجوبه، فإذا جهد وسعى غاية السعي ولم يصادف المأتيّ به للواجب الواقعيّ، فهو معذور عنده، وفيما نحن فيه تكون غاية السعي هو إتيان مقدار يتمكّن منه من المحتملات; فإنّه وإن لم يتمكّن من الموافقة القطعيّة، إلاّ أنّ الموافقة الاحتماليّة إذا كانت من وجوه متعدّدة بعضها أقرب إلى الامتثال اليقيني من بعض آخر، يحكم العقل بوجوب إتيان ما هو الأقرب، فلامحيص عن الإتيان بقدر ما وسع(1).
هذا، ولكن يمكن أن يقال: إنّ حفظ شرطيّة الوقت والاهتمام به وتقديمه على سائر الشرائط كما عرفت يقتضي سقوط شرطيّة القبلة في هذه الصورة أيضاً; لأنّ الجمع بينه، وبين اعتبار القبلة، مع عدم تمكّن المكلّف من إحراز الصلاة إلى القبلة الواقعيّة، المتوقّف على التكرير إلى أربع جهات ممّا لا يكاد يمكن، فمع الاهتمام بالوقت لابدّ وأن ترفع اليد عن شرطيّة القبلة، ومع رفع اليد عنها لا يبقى مجال للصلاة إلى أزيد من جهة واحدة.
وما أفاده المورد من تقدّم بعض وجوه الموافقة الاحتماليّة على البعض الآخر إنّما يتمّ فيما إذا كان ذلك البعض أقرب من جهة الاحتمال، كما إذا كان احتماله راجحاً، وأمّا إذا لم يكن كذلك، كما في المقام; لأنّه لا يحصل بالصلاة إلى أزيد من واحدة ظنّ بالموافقة، ولا يكون التكرير موجباً لقربها، فلا وجه
- (1) نهاية التقرير 1: 246.
( صفحه 458 )للتقدّم أصلا، فالظاهر في هذه الصورة ما أفاده البعض المتقدّم من كفاية صلاة واحدة، فتدبّر.
الخامس: لو ثبت عدم القبلة في بعض الجهات بالعلم أو بالبيّنة صلّى إلى المحتملات الاُخر; لما عرفت(1) من أنّ الأمر بالصلاة إلى أربع جهات بالإضافة إلى المتحيّر ليس أمراً مولويّاً يكون مقتضى إطلاقه ثبوته ولو مع العلم بعدم القبلة في بعض الجهات، بل يكون أمراً إرشاديّاً إلى ما هو مقتضى حكم العقل. ومن المعلوم انحصار حكمه بما إذا كان كلّ واحدة من الجهات محتملة للقبلة، فاللاّزم مع العلم بالعدم في بعض الجهات تكرار الصلاة إلى بقيّة الجهات; لعين الملاك.
نعم، لو حصل له الظنّ بالعدم في بعض الجهات، فهل يجوز له الاقتصار على غيره من الجهات، أم لابدّ من التكرار إلى أربع؟ الظاهر هو الثاني; لأنّ حجّية الظنّ المستفادة من دليل التحرّي مقصورة على الظنّ التفصيلي بجهة القبلة، ولا ملازمة بين حجّية الظنّ التفصيلي، وبين حجّية الظنّ الإجمالي. وبعبارة اُخرى: المتفاهم عند العرف من دليل اعتبار الظنّ هو الظنّ بثبوت القبلة في جانب خاصّ، لا الظنّ بعدمها فيه مع التردّد في سائر الجهات.
السادس: أنّه يجوز التعويل على قبلة بلد المسلمين في صلاتهم وقبورهم ومحاريبهم في الجملة، وعن التذكرة وكشف الالتباس الإجماع عليه(2)، ولا حاجة إلى إقامة الدليل على حجّيتها مع فرض إفادتها للعلم بجهة القبلة;
- (1) في ص454.
- (2) تذكرة الفقهاء 3: 25، وحكى عن كشف الالتباس في مفتاح الكرامة 5: 392.
( صفحه 459 )لحجّيته من أيّ طريق حصل، كما هو شأن القطع الطريقي. وأمّا مع عدم إفادتها سوى الظنّ بالجهة، فمع عدم التمكّن من تحصيل العلم بالقبلة، ولا تحصيل الظنّ الأقوى، يكون الدليل على الحجّية هو الدليل الوارد في التحرّي، الدالّ على اعتبار الظنّ الحاصل به; فإنّها أيضاً من مصاديق التحرّي وطرقه.
وأمّا مع التمكّن من تحصيل العلم أو الظنّ المذكور، فالدليل على الحجّية هي السيرة القطعيّة العمليّة المستمرّة من زمن الأئمـّة (عليهم السلام) ، وفي جميع الأعصار والأمصار، بحيث لا مجال لإنكارها ولا لإنكار شرعيّتها مع كونها بمرئى ومسمع من الأئمـّة (عليهم السلام) .
ودعوى(1) اختصاصها بصورة عدم التمكّن من تحصيل العلم. مدفوعة بما نشاهده من ثبوت السيرة في صورة التمكّن من تحصيل العلم أيضاً، فضلا عن التمكّن من تحصيل الظنّ، فالإنصاف كما في الجواهر حجّية قبلة البلد مطلقاً(2).
ثمّ إنّه قد قيّد الجواز في المتن تبعاً للأصحاب(3) بما إذا لم يعلم الخطأ فيها، ومقتضاه أنّه مع عدم العلم بالخطأ ولو كان هناك ظنّ غالب به يجوز التعويل، وهذا ليس بواضح; فإنّه لم يعلم ثبوت السيرة في مورد الظنّ الأقوى على الخلاف لو لم نقل بالعلم بعدم الثبوت، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الظنّ
- (1) منتهى المطلب 4: 200.
- (2) جواهر الكلام 7: 628 ـ 629.
- (3) المهذّب 1: 86 ، شرائع الإسلام 1: 66، إرشاد الأذهان 1: 245، تذكرة الفقهاء 3: 25، قواعد الأحكام 1: 253، اللمعة الدمشقيّة: 10، جامع المقاصد 2: 72.
( صفحه 460 )بالخلاف راجعاً إلى أصل جهة القبلة، أو إلى التيامن والتياسر، غاية الأمر ثبوت الفرق من جهة ندرة حصول الظنّ بالخلاف من حيث الجهة، بخلاف التيامن والتياسر، ولكنّه لا يقتضي الفرق في الحكم بعد حصول الظنّ.
فما عن الذكرى وجامع المقاصد(1) من أنّه لا يجوز الاجتهاد في الجهة قطعاً; لأنّ الخطأ في الجهة مع استمرار الخلق واتّفاقهم ممتنع، بخلاف التيامن والتياسر، غير ظاهر بعد فرض الظنّ الأقوى على الخطأ في أصل الجهة، ودعوى امتناع حصوله لا ترتبط بالحكم.
وبالجملة: فالظاهر اختصاص الجواز بما إذا لم يكن هناك ظنّ غالب على الخطأ والغلط، من دون فرق بين صور الخطأ أصلا.
- (1) ذكرى الشيعة 3: 168، جامع المقاصد 2: 72.
( صفحه 461 ) [كيفيّة صلاة الثانية للمتحيّر ]كيفيّة صلاة الثانية للمتحيّر
مسألة 3: المتحيّر الذي يجب عليه الصلاة إلى أزيد من جهة واحدة، لو كان عليه صلاتان، فالأحوط أن تكون الثانية إلى جهات الاُولى، كما أنّ الأحوط أن يتمّ جهات الاُولى ثمّ يشرع في الثانية; وإن كان الأقوى جواز إتيان الثانية عقيب الاُولى في كلّ جهة 1 .
1ـ المتحيّر الذي يجب عليه الصلاة إلى أربع جهات مثلا، لو كان عليه صلاتان مترتّبتان كالظهرين، فلا إشكال في أنّه يجوز له الشروع في محتملات الواجب الثاني بعد استيفاء محتملات الأوّل; سواء كان الشروع في الثاني على طبق الشروع في الأوّل، أم لا، كما أنّه لا إشكال في عدم جواز استيفاء محتملات الثاني قبل استيفاء الأوّل، ولا في عدم جواز الشروع في محتملات الثاني قبل استيفاء الأوّل على نحو يغاير الشروع في الأوّل، كما هو ظاهر.
إنّما الإشكال في جواز الإتيان بهما مترتّباً، كما إذا صلّى الظهر إلى جهة والعصر إلى تلك الجهة، ثمّ صلّى الظهر إلى جهة اُخرى والعصر إليها، وهكذا، ونظيره ما إذا تردّد بين القصر والإتمام وأراد الجمع بينهما، فهل يجوز له أن يصلّي الظهرين قصراً ثمّ تماماً أو بالعكس، أم لا يجوز الشروع في العصر قبل الإتيان بالظهر قصراً وتماماً؟
واختار المحقّق النائيني (قدس سره) عدم الجواز، بناءً على مبناه من ترتّب الامتثال الإجمالي على الامتثال التفصيلي وتأخّره عنه; نظراً إلى أنّ في المقام جهتين:
إحداهما: إحراز القبلة; وهو لا يمكن بنحو التفصيل على ما هو المفروض،