( صفحه 481 )أن يكون لما فهموا منها من كون مدلولها إنّما هو تعيين حدّ القبلة، وأنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة حقيقة، فلا تكون الروايات متعرّضة لحكم الانحراف عن القبلة(1).
ويرد عليه: أنّ كون مدلول الروايات هو تعيين حدّ القبلة لا ينافي التعرّض لحكم الانحراف; لأنّ حدّ القبلة على ما مرّ(2) هو ربع الدائرة، والانحراف عنه إلى المشرق والمغرب مع عدم البلوغ إليهما ربما يتّفق كثيراً، مع أنّ بعض تلك الروايات تدلّ على وجوب التحويل إلى القبلة ساعة يعلم، فكيف يمكن دعوى عدم تعرّضها لحكم الانحراف؟
نعم، لو قلنا بانحصار الدليل في الصحيحتين أمكن دعوى ذلك، لكن عرفت أنّ ذيل صحيحة زرارة يدلّ على وجوب الإعادة مطلقاً، فما أفاده في توجيه عدم التعرّض ممّا لا يتمّ.
وقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ الأقوى هو القول بعدم وجوب الإعادة في الانحراف اليسير فيما إذا تبيّن الخطأ بعد الفراغ.
وأمّا إذا تبيّن في الأثناء، فاللاّزم استفادة حكمه من دليل خاصّ، ولا يكفي الدليل على الصحّة بعد الفراغ; وذلك لأنّ التبيّن في الأثناء يوجب وقوع بعض آنات الصلاة إلى غير القبلة مع التوجّه والالتفات; لأنّ الاستقامة بعد
التوجّه لا تتحقّق بدون ذلك.
ومن المعلوم أنّ وقوعه إليه كذلك موجب للبطلان بمقتضى القاعدة، ولذا
- (1) نهاية التقرير 1: 262.
- (2) في ص421 وما بعدها، 444، 453 ـ 454.
( صفحه 482 )لايجوز الانحراف اليسير كذلك في آن في حال الالتفات، فالتبيّن في الأثناء لا يمكن استفادة حكمه من التبيّن بعد الفراغ. نعم، يمكن العكس على تقدير كون حكمه هي الصحّة، كما لا يخفى.
وكيف كان، فيدلّ على حكمه موثّقة عمّار المتقدّمة، الواردة في التبيّن في الأثناء.
وخبر القاسم بن الوليد قال: سألته عن رجل تبيّن له وهو في الصلاة أنّه على غير القبلة؟ قال: يستقبلها إذا ثبت ذلك، وإن كان فرغ منها
فلا يعيدها(1).
ثمّ إنّه لا إشكال في خروج العالم العامد عن مورد الروايات الواردة في الصورة الاُولى من المسألة، كما أنّه لا إشكال في دخول المجتهد المخطىء في موردها; سواء كان اجتهاده قطعيّاً، أو ظنّياً بالظنّ المعتبر في باب القبلة،
كما أنّه لا ينبغي التأمّل في دخول الغافل وناسي القبلة فيه; لأنّ الظاهر من قول معاوية بن عمّار في روايته: «الرجل يقوم في الصلاة...» هو القيام فيها بنحو مشروع، فيشمل الغافل والناسي.
وأمّا الناسي للحكم مع العلم بجهة القبلة، فالظاهر عدم دخوله في موردها; لأنّ الظاهر منه أنّ رؤية الانحراف إنّما تحقّقت بعد الفراغ، كما أنّ
التعبير الوارد في رواية الحسين بن علوان لا يشمله; لأنّه لا يرى في حال الصلاة أنّه على القبلة.
- (1) تهذيب ا لأحكام 2: 48 ح158، الاستبصار 1: 297 ح1096، وعنهما وسائل الشيعة 4: 314، كتاب الصلاة، أبواب القبلة ب10 ح3.
( صفحه 493 )للإلغاء في الحكم المخالف للقاعدة; فإنّ مقتضى أدلّة شرطيّة القبلة بطلان الصلاة في الصورة المفروضة، ولازمه وجوب القضاء في خارج الوقت أيضاً مع الإخلال بها، فإذا دلّ الدليل على عدم وجوبه في بعض الموارد، فلا يجوز التعميم إلى غيره بعد كونه مخالفاً للقاعدة، كما عرفت.
نعم، يمكن أن يقال بثبوت الإطلاق في بعضها، كصحيحة عبد الرحمن المتقدّمة(1); فإنّ قوله (عليه السلام) : «إذا صلّيت وأنت على غير القبلة واستبان لك أنّك صلّيت وأنت على غير القبلة...» عامّ شامل للناسي أيضاً; فإنّه صلّى على غير القبلة واستبان له بعدها ذلك.
ولكنّ الظاهر عدم ثبوت الإطلاق بحيث يطمئنّ به ويعتمد عليه; لاحتمال كون المراد من الصلاة على غير القبلة هي الصلاة عليه مع كونها مأموراً بها. ويؤيّده قوله (عليه السلام) في بعض تلك الروايات: «فحسبه اجتهاده»(2)، فتدبّر.
وإن كان مستند الإلحاق هو حديث «الرفع»(3)، كما احتجّ به الشيخ على
ما حكاه عنه العلاّمة في المختلف(4) وإن لم نجده في كتبه، فيدفعه:
أوّلا: أنّ المراد من حديث «الرفع» هو رفع حكم ما فعله الناسي في حال نسيانه; بمعنى أنّ الفعل الذي فعله الناسي لو كان له حكم لو خلّي وطبعه، فذلك الحكم مرفوع في حال صدوره نسياناً، ومن المعلوم أنّ الناسي في المقام لم يعمل عملا له حكم كذلك حتى يرفع مع النسيان; لأنّه كان مكلّفاً بالصلاة
- (1) في ص484.
- (2) تقدّم في ص485.
- (3) تقدّم في ص406.
- (4) مختلف الشيعة 2: 90 مسألة 33.
( صفحه 494 )إلى القبلة الواقعيّة، وهو لم يأت بها، ففي الحقيقة يكون كمن لم يصلِّ أصلا، فهو لم يعمل عملا كذلك حتى يرفع ذلك الحكم في حال النسيان، فالمأمور به في حقّه غير مأتيّ به، والمأتيّ به لا يكون مأموراً به.
وثانياً: أنّه على تقدير دلالة حديث «الرفع» على عدم وجوب الإعادة، فهو معارض بحديث «لا تعاد»(1) المعروف، الدالّ على وجوب الإعادة مع الإخلال بالقبلة، والقدر المتيقّن من مورده لو لم نقل بالاختصاص هو الناسي، فهو يدلّ على البطلان في مورد النسيان مع الإخلال بالقبلة، ولا وجه لدعوى كون مقتضى الجمع بينهما هو حمل حديث «الرفع» على ما بعد الوقت، وحمل حديث «لا تعاد» على الوقت; فإنّه ـ مضافاً إلى كونه جمعاً تبرّعيّاً، لا يساعده العرف ولا يقبله العقلاء ـ يأباه حديث «الرفع»; لإبائه عن التخصيص.
فاللاّزم بعد ذلك إمّا القول بحكومة حديث «لا تعاد» على حديث «الرفع»، وكونه مخصّصاً له; لانحصار مورده بصورة النسيان المتحقّق في الصلاة. وإمّا القول بأنّه بعد التعارض لابدّ من الرجوع إلى أدلّة اعتبار القبلة وشرطيّتها المقتضية للإعادة مطلقاً، كما لا يخفى.
- (1) تقدّم في ص155، 291 ـ 292، 297، 348، 390، 405 و 436.
( صفحه 495 )