( صفحه 146 )
أربع ركعات، وهو عبارة اُخرى عن الترتيب المقرّر بينهما، حيث إنّ صلاة العصر إنّما تقع صحيحة فيما إذا أتى المكلّف بصلاة الظهر قبلها.
لا يقال: إنّ حمل الرواية على هذا المعنى لا يلائم مع ذيلها; وهو قوله (عليه السلام) : «فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر»; فإنّ معنى ذلك أنّ صلاة الظهر لم يؤت بها في الخارج بعد; ضرورة أنّه لا معنى لدخول وقت الظهر بالنسبة إلى من صلاّها وأتى بها، فلا محيص عن كون المراد ما هو ظاهره من مضيّ زمان يمكن أن يصلّي فيه أربع ركعات.
فإنّه يقال: إنّ حمل الرواية على ما هو ظاهرها غير ممكن في نفسه; لأنّ المراد بالمقدار الذي يمكن أن يصلّي المصلّي فيه أربع ركعات، إمّا المقدار الذي يصلّي فيه على الوجه المتعارف، وإمّا المقدار الذي يصلّي فيه المصلّي بحسبه; وهو أمر يختلف باختلاف آحاد المصلّين.
فعلى الأوّل: لو صلّى أحد صلاة الظهر مستعجلاً وفرغ منها قبل المقدار المتعارف يلزم أن لا يجوز له الإتيان بصلاة العصر بلا فصل، مع أنّه خلاف الضرورة والإجماع.
وأمّا التقدير الثاني، فهو ـ مضافاً إلى بعده في نفسه; لأنّ لازمه اختلاف وقت العصر باختلاف المصلِّين، وإلى أنّه خلاف الاشتراك في التكليف ـ يأتي فيه نظير الترديد المتقدّم; لأنّ المراد بصلاة كلّ شخص إمّا صلاته المتعارفة المشتملة على الأجزاء الواجبة وجملة من المندوبات ونحوها، وإمّا الصلاة المشتملة على خصوص الأجزاء الواجبة.
فعلى الأوّل: لو صلّى الظهر مستعجلاً وفرغ منها قبل زمان صلاته
( صفحه 147 )
المتعارفة يلزم أن لا يجوز له الإتيان بالعصر كذلك، والثاني خلاف ظاهر الرواية; لأنّ ظاهرها أنّ الاعتبار إنّما هو بالصلاة على الكيفيّة المتعارفة، مع أنّ هذا أمر قليل الاتّفاق ومن الأفراد النادرة، فلا يمكن حمل الرواية عليه(1).
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ اختلاف وقت العصر باختلاف المصلّين ممّا لا مانع فيه، ولا يكون مستبعداً بوجه، كاختلافه بالإضافة إلى الحاضر والمسافر، بناءً على عدم كون مقدار الأربع المذكور في رواية داود بن فرقد له موضوعيّة، بل الملاك مقدار صلاة الظهر بحسب حال المكلّف سفراً وحضراً، وكاختلاف وقت الفريضيتين باختلاف الاُفق، وغير ذلك من الجهات الموجبة للاختلاف ـ :
أنّه بناءً على ما أفاده يبقى الإشكال المذكور في كلامه بحاله; إذ لم يتعرّض للجواب عنه بوجه، ولا يكون كلامه دالاًّ على توجيهه أصلاً، بل لا يكون قابلاً للتوجيه; فإنّ اشتراك الفريضتين في دخول وقتهما بمجرّد الزوال لا يجتمع مع دخول وقتهما بعد الإتيان بالظهر، وأوضح منه بطلان دخول وقت الظهر بعدما صلّى المصلّي صلاة الظهر، كما هو ظاهر.
مع أنّه لو سلّمنا ما أفاده وأغمضنا عن عدم قابليّة صدر الرواية للحمل على ما ذكره، فنقول:
ذيل الرواية الدالّ على خروج وقت الظهر وبقاء وقت العصر إذا بقي إلى الغروب مقدار أربع ركعات فقط، كيف يجتمع مع الاشتراك في جميع الوقت؟ فإنّ لازمه خصوصاً مع اعتبار الترتيب في صلاة العصر، الإتيان
- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 152 ـ 154.
( صفحه 148 )
بصلاة الظهر في هذه الصورة.
ودعوى سقوط الشرطيّة فيها، مدفوعة بأنّها على تقدير تسليمها لا يقتضي تعيّن العصر، بل اللاّزم أن يكون المصلّي مختاراً في الإتيان بأيّة واحدة منهما، مع أنّ ظهور الرواية في تعيّنها ممّا لا مجال لإنكاره، وإلاّ يلزم أن يكون ذيل الرواية خالياً من الدلالة على أيّ حكم، فتدبّر.
والتحقيق في هذا الباب ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره) في مجلس درسه، وأوردته في تقريراته، وحاصله: أنّ وقت الظهر مبائن لوقت العصر عند العامّة، وكذا وقت المغرب والعشاء، فعند بعضهم يكون أوّل الزوال إلى المثل وقتاً للظهر ثمّ يخرج وقتها ويدخل وقت العصر، وعند بعضهم الآخر يكون أوّل الزوال إلى المثلين وقتاً للظهر(1). نعم، حكي عن ربيعة، القول بدخول الوقتين بمجرّد الزوال(2)، ولكن هذا القول مرميّ عندهم بالشذوذ.
وكيف كان، فالسيرة المستمرّة فيهم إلى زماننا هذا هو إتيان العصر بعد مدّة طويلة من إتيان الظهر; فإنّهم يأتون بصلاة الظهر، ثمّ يتفرّقون إلى أن يصير ظلّ الشاخص مثله أو مثليه، ثمّ يرجعون لإقامة العصر، والجمع بين الصلاتين بهذا النحو الشائع عند الشيعة عملاً يكون أمراً منكراً عندهم; لعدم اجتماعه مع تباين الوقتين.
- (1) المغني لابن قدامة 1: 382 ـ 384، المجموع 3: 24 ـ 26، الشرح الكبير 1: 430 ـ 431 و434 ـ 436، الخلاف 1: 257 مسألة 4، وص260 مسألة 5، تذكرة الفقهاء 2: 303 ـ 304 مسألة 28.
- (2) المغني لابن قدامة 1: 384، الشرح الكبير 1: 435، تذكرة الفقهاء 2: 308 مسألة 28.
( صفحه 149 )
ولذلك تعجّب أبو اُمامة من فعل أنس فيما رواه البخاري عنه، حيث إنّه قال: صلّينا مع عمر بن عبد العزيز الظهر، ثمّ خرجنا حتّى دخلنا على أنس بن مالك، فوجدناه يصلّي العصر، فقلت: ما هذه الصلاة؟ فقال: العصر وهذه صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، التي كنّا نصلّي معه(1).
وقد التزموا بعدم اشتراك الوقت حتى في موارد الجمع، كما في السفر وعند المطر، وبأنّ وقت الصلاة الاُولى يصير مضيّقاً بسبب الآخر(2).
وبالجملة: الجمع بين الصلاتين كان من المنكرات عندهم، وحينئذ لا يبقى الارتياب في أنّ أخبار الاشتراك إنّما وردت لإبطال هذه العقيدة، ولبيان الحكم الواقعي، وأنّه لا يجب الانتظار للإتيان بصلاة العصر بعد الإتيان بالظهر، كما عليه الجمهور، بل يجوز الإتيان بهما معاً بعد الزوال بلا فصل، ولا تكون الروايات بصدد بيان اشتراكهما في كلّ جزء منه حتى تنافي ما يدلّ على اختصاص أوّل الوقت بالظهر.
وحيث إنّ اعتبار الترتيب بين الصلاتين كان أمراً بديهيّاً عند المسلمين، حتّى أنّ العامّة القائلين بتباين الوقتين ـ المستلزم لوقوع الثانية عقيب الاُولى قهراً ـ ذهبوا إلى اعتباره في موارد جواز الجمع، فلا يبقى مجال لتوهّم أن يكون قوله (عليه السلام) : «إذا زالت الشمس دخل الوقتان»(3) دالاًّ على دخول الوقتين بمجرّد الزوال، المستلزم لنفي اعتبار الترتيب، فلا يكون موهماً لخلاف
- (1) صحيح البخاري 1: 156 ح549.
- (2) المغني لابن قدامة 2: 112 ـ 120، المجموع 4: 308 ـ 322، وراجع أيضاً ما تقدّم في الصفحة السابقة، الهامش رقم 1.
- (3) تقدّم في ص134.
( صفحه 150 )
المقصود، بل التعبير بهذا النحو ـ بعد وضوح اعتبار الترتيب، ووضوح كون الغرض إبطال القول بتباين الوقتين ـ أحسن تعبير في بيان المرام، كما لا يخفى(1).
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لا محيص من الأخذ برواية داود بن فرقد(2)، والالتزام باختصاص أوّل الوقت بالظهر بمقدار أدائها بحسب حاله. نعم، سيجيء(3) معنى الاختصاص، وأنّه لا يلزم من القول به الحكم ببطلان صلاة العصر لو وقعت في أوّل الوقت مطلقاً، فانتظر.
هذا كلّه في اختصاص أوّل الوقت بالظهر.
وأمّا اختصاص آخر الوقت بالعصر، فلم ينقل من أحد منهم إنكاره، حتى أنّ الصدوق(4) القائل بالاشتراك في أوّل الوقت ذهب إلى الاختصاص في آخره.
ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى ذيل رواية داود بن فرقد، وصحيحة الحلبي المتقدّمتين(5) ـ صحيحة منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا طهرت الحائض قبل العصر صلّت الظهر والعصر، فإن طهرت في آخر وقت العصر صلّت العصر(6).
- (1) نهاية التقرير 1: 100 ـ 102.
- (2) تقدّمت في ص140.
- (3) في ص153 ـ 155.
- (4) تقدّم تخريجه في ص138 ـ 139.
- (5) في ص140.
- (6) تهذيب الأحكام 1: 390 ح1202، الاستبصار 1: 142 ح487، وعنهما وسائل الشيعة 2: 363، كتاب الطهارة، أبواب الحيض ب49 ح6.